اختلاف الآباء أمام الأبناء
إن الأسرة المسلمة التي يملؤها الود والوئام والتفاهم بين أفراد هذه الأسرة، خاصة الأبوين، فلا شك أن هذه الأسرة ستكون أسرة مثالية، يستطيع فيها الأبوان أن يتفاهما ويقوما بحل مشاكلهم بطريقة يسيرة وسلسة، ودون شعور للأبناء بهذه المشكلات أبدًا، ولكن في بعض الأحيان يخلو هذا الجو الأسري من الود والوئام والتفاهم، وهذه المعاني الجميلة، حيث إن سريان الحياة على النمط الوردي أمر صعب المنال، وهذا أمر طبيعي، فالواجب في مثل هذه الظروف، التي يكون فيها الأبوان غير متفاهمين، ألا يظهرا هذا الاختلاف أبدًا أمام الأبناء؛ فإن لهذا الأمر آثارًا سيئة جدًا على الأبناء.
إن هذه الآثار قد تترك جرحًا غائرًا في الابن لا يندمل بسهولة، سواء كان هذا الاختلاف بسبب الابن أو بسبب غيره، فالابن حينما يرى مثلًا أحد والديه، والدته مثلًا، عندما يراها تعامل الناس بطريقة فيها كثير من الحب والتفاني ونكران الذات، وتتمنى أن لو قامت بكل ما يريده هذا الآخر لأجل راحته، وحتى تظهر للناس أنها امرأة اجتماعية وغير أنانية، وفي أحيان كثيرة تتنازل عن راحتها الشخصية لأجل إتمام عمل طلبه منه غيرها، ثم يجد هذا الابن أمه في داخل البيت وفي تعاملها مع أهل بيتها، زوجها وابنها، على خلاف ما تتعامل به مع الناس تمامًا، فلا تكاد تصبر على أمر طُلب منها، هذا الأمر يجعل الابن في حيرة من أمره، فيشعر أن أمه عندها انفصام في الشخصية.
وليس المطلوب أن يتعامل الوالدان مع الآخرين بجفاء كما يتعاملون مع الأبناء، وإنما على الوالدين كما يتعاملان مع الآخرين بود وتفانٍ واحترام، أن يكون هذا الود والتفاني موجودًا كذلك في معاملتهم مع أبنائهم، حتى لا تختلف معايير الصحة والخطأ عند الأبناء، وكذلك حتى لا يصبح هم الأبناء في علاقتهم الاجتماعية هو رضا الناس فقط، وليس رضا المولى عز وجل، وأن يكون الابن إنسانًا صالحًا في كل شئون حياته.
إذن فلا بد من ضبط مسألة اختلاف تعامل الأبوين مع غيرهما أمام الأبناء، كذلك ينبغي على الوالدين عدم الاختلاف أمام الأبناء بسبب الأبناء، أي اختلافهم حول كيفية تربية الأبناء، أو اختلافهم حول عقاب الابن وعدمه، أو خلافهم حول مكافأة الابن وعدم مكافأته، ومثل هذه الأمور.
إن محاولة اتفاق الوالدين على أسلوب منضبط وواضح في كيفية تربية الأبناء قد يصبح أمرًا صعبًا، وهذا أمر بديهي، ولكن الأمر المهم بالنسبة للوالدين هو ألا يقلل أحدهما من شأن الآخر أمام الأبناء، وألا يظهر أبدًا هذا الخلاف بينهما حول تربية الابن أمامه؛ لأن الابن بصورة تلقائية سيستطيع أن يستفيد من هذا الأمر بطريقة غير صحيحة.
فإذا ما شعر الابن من خلال اختلاف والديه أمامه أكثر من مرة بسبب أمر وقع فيه، أو بسبب طلبه لأمر ما، فوافق عليه أحد والديه ولم يوافق الآخر، فحينها تتكون عند الابن خلفية عن كل من والديه، فيعرف من الذي يطلب منه النقود فيعطيه، ومن الذي يطلب منه الخروج للتنزه فيوافق، ومن الذي يطلب منه عدم الذهاب للمدرسة فيستجيب له.
وتصبح الصورة هكذا: الابن يذهب إلى أبيه يطلب منه نقودًا زائدة عن مصروفه، فيرفض الوالد، فيذهب إلى أمه فتعطيه، عندها يخرج لنا ابن انتهازي يعرف كيف يتلاعب بوالديه، والخطأ في الحقيقة عند والديه، فهما من أعطياه مفتاح نقاط الضعف التي تخصهما.
ومن الأمور التي ينبغي التنبيه عليها أنه في بعض الأحيان يكون الوالدان متنبهين لمثل هذه الأمور، فلا يظهران أبدًا اختلافهما أمام أبنائهما، سواء كان بسب الأبناء أو بسبب غيرهما، وسواء كان الاختلاف في تعامل الوالدين مع الغير أو مع الأبناء، إلا أنهما قد يقعان في أمر يؤدي إلى نفس النتيجة.
وذلك عندما يقوم الأبناء بارتكاب بعض الأخطاء التي تستدعي العقوبة، وذلك في حضور الأم، ولكنها تكون حينها مشغولة بأعمال المنزل، فما يكون من الأم إلا أن تحفظ هذا الموقف، وتصرخ في وجوه الأبناء، وفور وصول الوالد ورؤيته لما ارتكبه الأبناء يقوم بمعاقبتهم، وهذا الأمر يجعل الأبناء يظنون أن الأم، وقد كان ارتكاب الخطأ في وجودها، ترى أن هذا الخطأ لا يستدعي العقوبة التي أنزلها الوالد، فهي لم تعاقب الأبناء، وإنما اكتفت بالصراخ، وإنما الذي عاقبهم هو الوالد، ولو أن الأم تخلت عن الصراخ واستبدلته بجملة: «عندما يأتي والداكم سأخبره بحماقتكم، وسنفكر سويًا في عقاب مناسب لكم»، هذا الأمر يجعل الأبناء يتيقنون أن بين الوالدين عملًا مشتركًا وتفاهمًا حول تربيتهم وكيفية معاقبتهم، وبالتالي فإنهم لن يستطيعوا أن يتلاعبوا بالوالدين، أو أن يستغلوا أحدهما لمصلحتهم.
"ينبغي أن تكون سياسة الأبوين موحدة أو متقاربة تجاه الطفل، بحيث لا يشعر أن هناك فارقًا ملحوظًا بين معاملة كل منهما له، وبالذات لا ينبغي أن يقف الأبوان موقفين متعارضين أمام الطفل تجاه عمل قام به، أحدهما مثلًا يطالب بعقابه، والآخر يعارض في توقيع العقوبة عليه، فإن هذا يفسد الموازين في حسه، ويشعره بأن الأمور ليس لها ضابط محدد، ولا معيار معين يلتزم به، وأن في إمكانه أن يخالف تعاليم أحد الوالدين ويجد من يدافع عنه من طرف آخر.
وحتى حين يكون موقف الوالدين مختلفًا بالفعل في تقدير ما ينبغي أن يعامل به الطفل في موقف معين، فلا يجوز لهما أن يعلنا خلافهما ذلك أمام الطفل، إنما فيما بينهما فيما بعد، وعلى غير مسمع من الطفل؛ لأنه يدرك مغزى الخلاف بين الوالدين بشأنه، مهما بدا لنا أنه لا يدرك، ويتأثر بنتائجه، مهما بدا لنا أنه لا يتأثر، والنتيجة كما قلنا هي اضطراب المعايير في حسه، بحيث لا يصبح الخطأ والصواب واضحي المعالم عنده، ومن ثم لا يعود يلتزم بما يطلب منه.
وليس معنى ذلك إذا أسرف أحد الوالدين في العقاب مثلًا أن يقف الطرف الآخر مكتوفًا وهو يحس بهذا التجاوز، ولكنه عليه أن يقوم بتسكين الموقف دون إظهار المعارضة، كأن يأخذ الطفل بعيدًا ويقول له: انظر كيف أغضبت أباك، لأنك صنعت كذا وكذا، اعتذر له لكي يرضى عنك، وبذلك ينقذ الطفل من العقاب الزائد دون أن يحس أن أبويه قد اختلفا بشأنه" [منهج التربية الإسلامية، محمد قطب (2/ 351-352)].