logo

ضوابط في تكليف الأبناء


بتاريخ : الخميس ، 14 صفر ، 1437 الموافق 26 نوفمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
ضوابط في تكليف الأبناء

إن النفس البشرية ضعيفة وعجولة بطبيعتها وفطرتها التي فطرها الله عز وجل عليها، قال تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11]، وقال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، وبالتالي فهي لا تحسن إتقان العمل من أول محاولة؛ بل لا بد من المحاولة مرارًا وتكرارًا حتى تصل إلى مرحلة الإتقان، ولذلك فلا بأس في هذه المحاولات المتكررة من وقوع الإنسان في خطأ ما؛ لأن هذا أمر بديهي، ثم إنه سرعان ما سيتدارك هذا الخطأ، وسيحاول تجنبه في المرات التالية، حتى يصل إلى إتقان الذي يسعى إليه، فتكرار المحاولة يصل بالإنسان إلى درجة النجاح.

وهذا ما علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته، حينما دخل رجل إلى المسجد فذهب في ناحية من نواحي المسجد وصلى، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه كي يسلم عليه، فأمره النبي أن يعيد صلاته؛ لأنه لم يصل صلاة صحيحة، ثم يعود الرجل إلى الصلاة، والنبي يأمره بالإعادة، إلى أن يطلب الرجل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الصلاة الصحيحة.

فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد وقال: «ارجع فصل، فإنك لم تصل»، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ارجع فصل، فإنك لم تصل» ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره، فعلمني(1)، فعلمه النبي الصلاة الصحيحة.

فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يقوم بالعمل الصحيح، ولما لم يستطع القيام بالعمل الصحيح علمه النبي صلى الله عليه وسلم كيفية القيام بالصلاة على الوجه الأكمل.

وهذا لا بد وأن يكون ديدن الآباء والأمهات في تعاملهم مع أبنائهم، خاصة وأن الأبناء خبرتهم بالحياة قليلة، فإذا ما أراد الآباء والأمهات من الأبناء القيام بعمل ما على أكمل وجه ينبغي لهم مراعاة بعض الأمور عند تكليفهم بذلك العمل، فلا يطلبون منهم عمل ما لا يستطيعون، ولا يكلفونهم فوق طاقتهم أو ما لا يطيقونه، فيعينونهم على برهم ولا يكلفونهم من البر فوق طاقتهم، ولا يلحون عليهم في وقت ضجرهم، ولا يمنعونهم من طاعة ربهم، ولا يمنون عليهم بتربيتهم.

"فالوالد لا يشتد مع ابنه ويختبر طاعته له بالامتحانات الشاقة، كأن يمنعه النوم في بعض الأوقات لإتمام عمل غير مهم، أو يكلفه من أعمال البر والملاطفة وخفض الجناح ما يلغي شخصية الولد ومكانته، كأن يغضب إذا نسي الولد أن يقبل يده، أو سها في أن يهيئ له مجلسه، أو يقرب له حذاءه؛ بل يحاول الأب أن يتغافل عن بعض زلات الولد، ولا يعاقبه إلا على الواجبات إن قصر فيها، أو الأخطاء الكبيرة، كأن يسيء الأدب معه، أو يرفع صوته في وجهه، أو يسيئ أدبه مع الأم أو الجد أو الجدة.

وهذا هو منهج السلف رضوان الله عليهم، فهذا خارجة بن مصعب رحمه الله ينصح الأب أن يسوق ولده إلى البر سوقًا رفيقًا، فيقول: «يعطيه ويحسن إليه حتى يبره»، وقال أبو الليث رحمه الله، واصفًا حال بعض السلف في رحمتهم بأولادهم، وحمايتهم من العقوق: «وكان بعض الصالحين لا يأمر ولده بأمر مخافة أن يعصيه في ذلك فيستوجب النار».

وهذا فقه عظيم من رجال السلف رضوان الله عليهم؛ إذ إن نظرهم أبعد من حدود هذه الدنيا، وحبهم لأولادهم وإشفاقهم عليهم يتطلب مساعدتهم وعونهم على النجاة في الآخرة قبل كل شيء، فلا يكلفوهم ما لا يطيقون من الأوامر؛ بل يفكر أحدهم قبل الأمر: هل سيطيق الولد ذلك أم يعجز عنه فأسوقه بنفسي إلى التهلكة؟، وبقدر ما يجاهد الوالد نفسه في مساعدة أولاده، وتوفيقهم إلى البر، بقدر ما يجني في المستقبل من إحسانهم له وبرهم به(2).

هكذا ينبغي أن يكون الآباء والأمهات في تعاملهم مع أبنائهم؛ أن يقبل منهم الممكن الذي يقدرون على القيام به، وأن يعفو ويغفر ما لا يمكنهم القيام به.

وحتى يستطيع الآباء والأمهات تكليف الأبناء ما يطيقون فلا بد من معرفة قدرات الأبناء وإمكاناتهم، وذلك مما يعين على وضع حدود معينة للتكاليف المنوط بالأبناء القيام بها، والصادرة من الآباء والأمهات لهم.

ولقد أكد القرآن الكريم على مبدأ الاستطاعة، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، من القدرة والقوة والعزيمة والمال، وقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه: «إياكم والوصال» مرتين، قيل: إنك تواصل، قال: «إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من العمل ما تطيقون»(3).

فإذا ما كلف الآباء والأمهات أبناءهم بعمل ما، فينبغي أن تكون تلك الأعمال ممكنة التنفيذ، ولا تتجاوز قدراتهم، حتى لا تتسبب لهم الأعمال الكبيرة عليهم شعورًا بالإحباط؛ مما يؤدي إلى ضعف ثقتهم في أنفسهم.

وكذلك في المقابل، لا نكلفهم بأعمال هينة ومبتذلة وبسيطة جدًا، فليس معنى عدم التكليف فوق الطاقة أن نكلفهم بما هو أقل من إمكاناتهم بكثير، حتى لا يشعروا بنوع من الامتهان والاستقلال.

إنما ينبغي للآباء والأمهات إذا أرادوا من أبنائهم الطاعة والسمع لكل ما يطلبونه منهم والقيام به، فلا بد من تكليف الأبناء بما يستطيعون القيام به، وبما يتناسب مع قدراتهم وإمكاناتهم، فإذا أردت أن تطاع، فأمر بما يستطاع.

ـــــــــــــ

(1) صحيح البخاري (757)، ومسلم (397).

(2) موقع جامعة أم القرى، من مقال بعنوان: أدب الطفل مع الوالدين.

(3) صحيح البخاري (1966).