logo

حافظات للغيب


بتاريخ : الخميس ، 26 شعبان ، 1437 الموافق 02 يونيو 2016
بقلم : تيار الإصلاح
حافظات للغيب

إن الفتاة وهي تمر بمرحلة الدراسة، تتعلق دائمًا بواحدة أو أكثر من زميلاتها، ويكونان معًا علاقة ود ومحبة وتواصل، حتى في أدق التفاصيل التي تمس كلًا منهما، فالفتاة قد تكون زميلتها أقرب إليها من والدتها؛ بل حتى

من أختها، ويتم التحدث بينهما عن كل ما يخص كليهما من أمور حياتية، وكذلك ما يتعلق بالدراسة، إلى غير ذلك من الأمور التي تشغل بال الفتيات في تلك السن وتلك المرحلة، مرحلة الدراسة والتعليم.

 

ثم تزداد تلك العلاقة إذا شاء المولى عز وجل أن تلتحق كلٌ من الفتاتين بنفس الجامعة ونفس التخصص، وحينها تصبحان كأنهما نفس واحدة، فلابد من معرفة كل طرف ما يقوم به الطرف الآخر يوميًا، وبأدق التفاصيل، حتى تشعر كل واحدة تجاه الأخرى بأنها تعيش معها وتشاركها ما تفعل.

 

وتستمر تلك العلاقة بين الفتاتين على هذا المنوال، ما لم ينغص عليهما شجار أو خلاف أو فراق، ثم تأتي الخطوة المهمة جدًا، وهي ارتباط إحداهما أو كليهما بشخص لأجل الزواج، وهنا لا بد أن تعلم الفتاة أن ما يمكن أن تتبادله مع زميلتها من حديث يخصها ويخص من تتعامل معه في حياتها اليومية في السابق، أي قبل الزواج، قد تبدل تمامًا الآن، وأصبحت هناك خطوط حمراء لا يجوز لها أبدًا أن تتعداها، ولا لزميلتها أن تسأل عنها.

 

لكن للأسف فإن من شب على شيء شاب عليه، فإن كلًا من الفتاتين قد تعودتا، في فترة من الزمن، على تبادل الحديث والكلام في كل ما يخص كلًا منهما، ويعتبران ذلك من الود والمحبة والتواصل؛ وعليه، فإن الحديث فيما يخص حياتهما الزوجية بعد يعتبرانه من قبيل التشاور وأخذ الرأي والمشورة؛ بل إنها تعتبر الشكوى من الزوج لزميلتها من قبيل الفضفضة التي تفرج بها عن ضيق صدرها، وما تمر به من منازعات مع زوجها.

 

لكنها من حيث لا تدري ترسم صورة ذهنية لزوجها في مخيلة زميلتها، وذلك من كثرة حديثها عن فعله كذا بطريقة كذا على هيئة كذا، فترتسم تلك الصورة الذهنية في ذهن صاحبتها، ثم ترتسم بعد ذلك أيضًا بعض الأخلاق، سواء الحسنة منها أو السيئة، وذلك من خلال ما تفهمه تلك الزميلة من كلام الزوجة عن زوجها.

 

وفي هذا الأمر شقان خطيران:

 

الأول: أن تلك الصورة، التي رسمتها تلك الزوجة في ذهن زميلتها، قد تكون صورة حسنة رغم أنها تلبس لباس الشكوى، لكن الزوجة في طيات كلامها لا تلبث أن تقول بعد كل شكوى: لكنه شهم وسخي، وغير ذلك من الصفات الحسنة، والتي ربما لا تراها تلك الزميلة في زوجها، فيكون ذلك سببًا لتأليب المرأة الأخرى على زوجها، وذلك من حيث لا تدري تلك الزوجة.

 

الثاني: أن هذه الشكوى وتلك المحادثات قد تنطوي، بطريق ضمني أو مباشر، على ما يشير إلى العلاقة الحميمية بين المرأة وزوجها، وهذه هي الكارثة الكبرى، والتي ذم النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي تقوم بمثل هذا الفعل القبيح، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها»(1).

 

قال المناوي في فيض القدير: والظاهر أن المرأة كالرجل، فيحرم عليها إفشاء سره(2).

 

وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِن من أشَرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجلُ يفضي إِلى امرأته أو تُفضي إِليه، ثم ينشرُ أحدُهما سِرَّ صاحبه»(3).

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه، وألقى عليه ستره، واستتر بستر الله؟» قالوا نعم، قال: «ثم يجلس بعد ذلك فيقول: فعلت كذا، فعلت كذا؟» قال: فسكتوا، قال: فأقبل على النساء فقال: «هل منكن من تحدث؟» فسكتن، فجثت فتاة على إحدى ركبتيها، وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليراها ويسمع كلامها، فقالت: يا رسول الله إنهم ليتحدثون، وإنهن ليتحدثن، فقال: «هل تدرون ما مثل ذلك؟» فقال: «إنما ذلك مثل شيطانة لقيت شيطانًا في السكة، فقضى منها حاجته والناس ينظرون»(4).

 

فهذا تحذير صريح من النبي صلى الله عليه وسلم لمن يفعل مثل تلك الأفعال، من إفشاء أسرار الزوجية، وخصوصًا ما يتم بين الزوج وزوجته تحت ستر الله عز وجل، سواء كان ذلك بطريق صريح ومباشر أو بطريق ضمني وغير صريح، كما إذا كان في طيات الحديث.

 

إن هذا التحذير الشديد إنما كان من النبي صلى الله عليه وسلم حفاظًا على البيوت المسلمة، من فك أواصرها وانتهائها بسبب إفشاء مثل تلك الأسرار، التي لا يقبل الطرف الآخر بأي حال أن تخرج إلى العلن، وهذا ما يتماشى مع النفس السوية المؤمنة، والتي ترى أن من أحق حقوق الزوجية هو كتمان أسرارها وحفظها، حتى لو تطاول الطرف الآخر وتعدى فليس من المروءة والإيمان إفشاء مثل تلك الأسرار.

 

إن المرأة المسلمة التي تحافظ على بيتها وزوجها، ولا تفشي سرًا من تلك الأسرار التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذكرها، إنما هي من الصالحات القانتات الحافظات للغيب كما وصفها المولى عز وجل حين قال: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34].

 

"فمن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفاتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها، أن تكون قانتة، مطيعة، والقنوت: الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومعاظلة! ومن ثم قال: قانتات، ولم يقل طائعات؛ لأن مدلول اللفظ الأول نفسي، وظلاله رخية ندية، وهذا هو الذي يليق بالسكن والمودة والستر والصيانة بين شطري النفس الواحدة، في المحضن الذي يرعى الناشئة، ويطبعهم بجوه وأنفاسه وظلاله وإيقاعاته.

 

ومن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفاتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها كذلك، أن تكون حافظة لحرمة الرباط المقدس بينها وبين زوجها في غيبته، وبالأولى في حضوره، فلا تبيح من نفسها في نظرة أو نبرة، بله العرض والحرمة، ما لا يباح إلا له هو، بحكم أنه الشطر الآخر للنفس الواحدة.

 

وما لا يباح لا تقرره هي، ولا يقرره هو، إنما يقرره الله سبحانه: «بِما حَفِظَ اللَّهُ».

 

فليس الأمر أمر رضاء الزوج عن أن تبيح زوجته من نفسها، في غيبته أو في حضوره، ما لا يغضب هو له، أو ما يمليه عليه وعليها المجتمع إذا انحرف المجتمع عن منهج الله!

 

إن هنالك حكمًا واحدًا في حدود هذا الحفظ، فعليها أن تحفظ نفسها «بِما حَفِظَ اللَّهُ».

 

والتعبير القرآني لا يقول هذا بصيغة الأمر؛ بل بما هو أعمق وأشد توكيدًا من الأمر، إنه يقول: إن هذا الحفظ بما حفظ الله، هو من طبيعة الصالحات، ومن مقتضى صلاحهن!"(5).

 

_________________________________

(1) صحيح مسلم (1437).

(2) فيض القدير (2/538).

(3) جامع الأصول (6/522).

(4) أخرجه أبو داود (2174)، وأحمد (2/540).

(5) في ظلال القرآن (2/652).