الحجاب بين الموضة والشرع

فرض الله تعالى الحجاب؛ ليستر المرأة عن الأجانب، ليحميها من ذئاب البشر؛ أعداء العفاف والطهر، ليحفظها من أعين الماكرين الخائنين، ويرفعها عن مستنقعات العار، وأوحال الرذيلة.
لقد أكرم الإسلام المرأة إكرامًا لن تجد له مثيلًا، لا في تشريع وضعي، ولا في اجتهاد بشري، ولا في توصية مؤتمر عالمي، ولا في قرار اتحاد نسائي، ولقد منح الإسلام المرأة من الاحترام ما تتمنى كل امرأة غير مسلمة أن تكون نالته وحصلت عليه.
وإن من مواضع إكرامها ومواطن احترامها فرض الحجاب عليها؛ لأن الحجاب يجعلها جوهرة ثمينة ولؤلؤة غالية، فهو نعمة من الله على نساء المسلمين وعلى المسلمين أنفسهم، فلم يشرع الخالق أمرًا إلا له من الفوائد والآثار الحميدة الشيء الكثير، ولعل من أهم ما نلمسه نحن البشر من الحكمة في الحجاب هو حفظ كرامة المرأة وصيانة جمالها وعفتها وحشمتها من التدنيس والسفور الذي قد يثير من الفتن والشبهات بين الرجال والنساء على حد سواء، وهذا الحجاب عزة وكرامة وسمو بالمرأة إلى مستوى عالٍ.
لقد فطن أعداء الإسلام لأهمية حجاب المرأة المسلمة في حياة المسلمين وبنائهم الاجتماعي وترابطهم الأسري فسعوا لنزعه، وأول محاولة لذلك كانت منذ أكثر من ألف سنة على أيدي اليهود، فقد جاءت امرأة من نساء المسلمين تريد أن تبيع متاعًا لها بسوق لليهود، فجاءت إلى واحد منهم فحاول كشف وجهها فأبت، فعمد إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا عليها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على اليهودي فقتله، فشد اليهود على المسلم فقتلوه، فغضب المسلمون فطردهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة.
حجب الله تعالى المرأة عن الرجال الأجانب؛ كي تبقى دُرَّةً غالية، وجوهرةً مصونة، لا تعبث بها يد السارق، ولا تَطُولها عين الغادر.
حجب الله تعالى المرأة عن الرجال الأجانب؛ لتبقى عزيزةً نظيفة، عفيفةً شريفة، يتمناها التقي، ويخشاها الشقيُّ.
إن الأتقياء الأنقياء الشرفاء لَيفتخرون بكل فتاة محجبة، ويعتزون بحجابها، ويحرصون على أن تكون زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم كذلك.
فالحجاب عزة ووقار، وفخر للرجل والمرأة معًا، ولم يكن يومًا منقصةً أو ذلًّا، فالله تعالى أعزَّ المرأة بالحجاب، وصانها بالخِمار، وحفظها بالغطاء.
ويعتبر الحجاب مطلبًا شرعيًا إسلاميًا، وتطبيقه يستوجب انصياعًا تامًا لمتطلبات الشارع، وهذه بديهية ومسلمة من مسلمات الشريعة الإسلامية، إذ إن المنطق يقول: إما أن ألبس على هواي، وإما أن ألبس على مراد الشارع، فلإن لبست الحجاب متابعة لهواي، فالتزم شروط الهوى، وإن لبسته متابعة للشارع، فألبس ملتزمًا بشروط الشارع.
جميعنا يعرف تلك القاعدة الشرعية التي تتحدث عن شروط الحجاب الإسلامي الصحيح، ولكن مع هذا التنوع الكبير في صور وأشكال الحجاب أصبح التطابق بين القاعدة والتطبيق أشبه بالمستحيل، وأصبح شكل الحجاب الذي من المفترض أن يكون ساترًا أصبح من أكثر ما يلفت نظرنا.
الحجاب يشكل مفهومًا أكبر من أن يتم تقييده وإدراجه تحت ستر الجسد وحسب.
الحجاب هوية دينية وحضارية تحمل بين طياتها الكثير من المعاني التي تعبر عن أهمية الإنسان والنفس البشرية مقابل الصورة المادية المجردة.
لقد تحول الحجاب إلى سلعة استهلاكية، وإلى صورة جميلة هنا أو هناك، ليس الهدف منه سوى جني الأرباح المادية وفق النموذج الرأسمالي الذي يسيطر علينا جميعًا؛ وهذا أخطر ما في هذه الصرعة أو الموضة، حيث تحاكي هذه النماذج رغبة الفتيات في الظهور بأجمل صورة، والشهرة عبر مواقع التواصل والانفلات من قيد الشرع الذي يفرضه عبر الحجاب.
منذ عدة سنوات ظهرت مساعي لإيجاد رابط بين الحجاب وبين عالم الأزياء الحديثة، من خلال إدماج الاحتشام في صيحات الموضة، وتحويل الزي المحتشم إلى خيار عصري للمرأة المسلمة، تُقام له العروض، والمجلات، ويختص بعلامات تجارية، تتنافس للاستحواذ على سوقه المتوسعة عالميًا.
يثير هذا التوجه المتصاعد لتحويل الحجاب إلى موضة وصناعة، تساؤلات عن العلاقة بين متطلبات الحكم الشرعي في زي المرأة المسلمة، الهادف لصرف النظر عن الجسد منعًا للفتنة، وبين اشتراطات عالم الموضة، التي تميل إلى الإبهار والبهرجة وإبراز المفاتن، ومن ناحية أخرى يُطرح السؤال الاقتصادي، الذي لا يبتغيا إلا الربح، واستثمار التوجه الاستهلاكي المتصاعد للأزياء المحتشمة، لمخاطبة طبقات محددة من المسلمات.
وقفات مع تاريخ الحجاب:
بعد نزول الآيات التي فرضت الحجاب على المرأة المسلمة تدريجيًا، بدأ عهد جديد في لباس المرأة المسلمة أمام الرجال الذين لا يعدون محارم لها، ففي عصر النبوة، أي في الجيل الذي نزل فيه الوحي كان تطبيق الشرائع الربانية أمرًا مباشرًا وسريعًا، حيث تقول أمنا عائشة رضي ﷲ عنها: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن بها (1).
أمّا عن حال أغلب المسلمات في البلاد الإسلامية منذ النبوة ونزول آيات الحجاب وحتى نهايات القرن التاسع عشر فكانت غالبيتهن تغطين جميع أجسادهن بما فيها الوجه، أي أنهن كُن يرتدين حجابًا يشابِه ما نصطلح على تسميته اليوم نقابًا، ولم يكن هناك خلاف ولا شبهة ولا جلبة حول أمر الحجاب! إلا ما هو معروف ومفهوم في مسألة كشف الوجه والكفين وبعض المسائل المتعلقة بالعجائز والرقيق.
كيف وصل الحجاب إلى هذه النقطة؟
إن الناظر لحال حجاب المرأة المسلمة اليوم، يظهر له البون الشاسع بين حجاب عدد كبير من المسلمات وبين الحجاب الشرعي الذي فرضه ﷲ عز وجل، إذ كانت كل المراحل السابقة التي ذكرناها مباركة ومدعومة من قبل الاستعمار، وحتى بعد خروج المحتل من الدول الإسلامية فقد خرج بجسده تاركًا أفكاره ومدارسه موجودة ومتحركة عبر الحكومات التي جاءت بعده، وفي الفكر الذي زرعه في المجتمع، ثم كان الدور الآخر الكبير لوسائل الإعلام المرئية التي تصور المرأة الناجحة في حياتها على أنها هي التي تخلع حجابها وتضيق ملابسها وتقصرها، ومع تكثيف الحملة الإعلامية ومناهج التربية والتعليم البعيدة عن المنهج الإسلامي، والمتوافقة مع نظام السوق الرأسمالي الذي يفرض سلطته على الفرد -الهش نفسيًا- ليجعل اللحاق بالموضة -أيًا كان شكلها وتعارضها- مع شرع ﷲ أمرًا إلزاميًا.
موضة الاحتشام:
من الضروري النظر إلى قضية العلاقة بين الحجاب والموضة من جانب ثقافي وفكري، ومن زاوية العلاقة بين الاعتقاد الديني وتأثير ذلك على المستهلك والسوق، كذلك تأثير العولمة والثورة الرقمية على تذويب أفكار ورؤى معينة، وإنتاج قيم تعبر عن نفسها في مسلكيات متنوعة منها الأزياء.
والحقيقة أن هناك تغيرات في مجال التدين الإسلامي، ومن تلك المجالات: المرأة، والزي، والعلاقة مع الآخر، والاستهلاك، ونمط التدين وأشكاله، وتفاعل هذه الأشياء أوجد أذواقًا وأفكارًا جديدة، فنمت نزعة استهلاكية تسعى للتمتع بالحياة، مع التمسك بالقيم التي يفرضها التدين، ورأى هذا النمط أن هذا الحجاب المتوافق مع الموضة، قد يكون وسيلة للتعبير عن الانتماء الديني ورمزًا للاندماج الحداثي في ذات الوقت.
إن صناعة الأزياء المحتشمة تكتسب سوقًا عالمية في السنوات الأخيرة تُقدر بمليارات الدولارات، وأن حركة الموضة في الحجاب ذات صلة وثيقة بأذواق المستهلكين، وهو ما دفع بعض بيوت أزياء عالمية إلى صناعة الأزياء محتشمة، وأشارت إلى وجود مجموعة من الشباب المسلمين، لهم مدونات تهتم بالموضة في الأزياء المحتشمة، كما عرف السوق شركات وعلامات تجارية.
ومما يؤسف له؛ أن الحجاب أصبح وسيلة من وسائل اكتمال أناقة المرأة، والحجاب تعدى شكله التقليدي ودوره الديني في اقتصاره على تغطية الشعر، حيث تحوّل إلى موضة تتباهى بها النساء خصوصًا الشابات.
فطرق ارتداء الحجاب في الوقت الحالي هي أقرب لأن تكون ظاهرة اجتماعية وليس ظاهرة دينية، فدعاة هذا الحجاب يحاولون الإمساك بالعصا من المنتصف، فيكونون مع الدين ومع الأزياء والموضة في نفس الوقت، وقد سبق وأن وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» (2).
قال النووي: وأما «رؤوسهن كأسنمة البخت» فمعناه يعظمن رؤوسهن بالخمر والعمائم وغيرها مما يلف على الرأس حتى تشبه أسنمة الإبل البخت، هذا هو المشهور في تفسيره (3).
في هذه الحالة يكون هناك بعدان لهذا الحجاب: البعد الديني والبعد الاجتماعي، فالبعد الديني يتعلق بدوافع التديّن والالتزام، فمن السيدات من تضع الحجاب تدينا والتزامًا بأركان الدين الاسلامي، أما البعد الثاني وهو البعد الاجتماعي يعكس المستوى الثقافي والفكري للشخص ففي بعض الحالات تكون الفتاة تكون مجبرة على ارتداء غطاء الرأس لإرضاء أسرتها بالرغم من عدم قناعتها بذلك مما يدفعها للتحايل على هذا الأمر من خلال إتباع الموضة وعدم الالتزام الكامل بالزي الإسلامي، وقد يتعلق من ناحية أخرى برغبة المرأة في أن تبدو جميلة وأنيقـة حتى لو كانت تلبس الحجـاب.
لقد أضحت بعض الفتيات يتسابقن على مجاراة الموضة في اللباس، من دون أن يسبّب الحجاب عائقًا لهنّ، فذلك يكون دليلًا على انفتاحهن ومجاراتهن لبيئتهن المحافظة، وفي الوقت ذاته، انسجامًا مع المجتمع، حتى لا يشعرن بالحرج أمام الآخرين.. فالبعض منهن يعتبرن الحجاب الموضة مجالًا لحريتهن الفردية، والبعض يعتبرنه أنه يجعلهن أنيقات وملتزمات دينيًّا في الوقت عينه، إلى جانب أنّ مواكبتهن للموضة تزيدهن ثقة وحرية.
فالجلباب (العباية) التي ابتكرت لكي تكون ساترًا للجسم ومظهرًا من مظاهر الورع والحشمة والزهد وعدم جذب الأنظار تحولت لدي البعض وأصبحت أكثر ترفًا ولفتًا للأنظار من غيرها في ملابس المحجبات.
ولكن يبقى السؤال هل ستؤثر النزعة الاستهلاكية، والموضة واشتراطاتها، والطبيعة الربحية للسوق على الحجاب كمفهوم يبتغي إبعاد النظر عن الجسد، ومن ثم يُعاد تشكيل المفهوم الديني وفقًا لقيم السوق وضغوطها، أم سينجح الحجاب في فرض رؤيته في عالم الموضة؟ (4).
لقد تم اختزال الحجاب في عملية تغطية، تغطية بأي شكل وبأي لون، تغطية تجري وراء خطوط الموضة التي تنافي الوقار وتلفت الأنظار، تغطية لا تحقق المعني الشرعي ولا العرفي للستر، تغطية جمعت بين الضدين وشملت المتناقضين، فلا سترت جسدًا ولا أرضت ربًا.
إنه حجاب يحتاج لحجاب، تحررت فيه المرأة المحجبة من أصالة معتقداتها الدينية، وذلك دون أن تتخلى عن دينها بزعمها! حيث أظهرت مفاتنها، دون أن تنزع غطاء رأسها! ودخلت المسلمات إلى عالم الجمال والموضة بدون ضابط ولا رابط، وباتت العباءة الإسلامية قادرة على مواكبة الموضة، غربية كانت أم شرقية، حتى أنها فقدت من صرامتها ما يكفي لجعلها عباءة «كول».
حيرة وتشتت:
هناك أسباب كثيرة وراء ظاهرة «حجاب الموضة» منها ما هو اجتماعي ونفسي وإعلامي، فيمكن اعتبار أن لهذه الظاهرة مزيج من الدوافع من أهمها ضعف الوازع الديني والأمية الدينية بحقيقة وأهداف الحجاب الشرعية والاجتماعية، ووصلت الأمية الدينية عند البعض لدرجة اعتباره نوعًا من القيد الذي يفرضه المجتمع والعادات والتقاليد، الأمر الذي جعل الفتاة في صراع نفسي في كيفية التوفيق بين الحجاب ومسايرة رياح التغيير بارتداء كل ما هو جديد وجذاب.
الحق كل لا يتجزأ:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد فسر قوله صلى الله عليه وسلم (كاسيات عاريات) بأن تكتسي ما لا يسترها، فهي كاسية وهي في الحقيقة عارية، مثل من تكتسي الثوب الرقيق يصف بشرتها أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع خلقها، وإنما كسوة المرأة ما يسترها فلا يبدي جسمها ولا حجم أعضائها لكونه كثيفًا واسعًا، ومن هنا يظهر الضابط في نهيه صلى الله عليه وسلم عن تشبه الرجال بالنساء وعن تشبه النساء بالرجال، وأن الأصل في ذلك ليس هو راجعًا إلى مجرد ما يختاره الرجال والنساء ويشتهونه ويعتادونه (5).
وحجاب المرأة معناه أن تستر المرأة بدنها عن الرجال الذين ليسوا من محارمها، كما قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور: 31]، ومن مجموع الأدلة الشرعية استخلص العلماء ثمانية شروط للحجاب الشرعي وهي:
- ستر بدن المرأة (مع خلاف بين العلماء في كشف الوجه واليدين).
- ألا يكون الحجاب زينة في نفسه.
- أن يكون صفيقًا (ثخينًا) لا يشف ما تحته.
- أن يكون فضفاضًا واسعًا غير ضيق يصف ملامح الجسم.
- ألا يكون مبخرًا ولا مطيبًا.
- ألا يشبه ملابس الكافرات.
- ألا يشبه ملابس الرجال.
- ألا يقصد به الشهرة بين الناس.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:59]
ليس الحجاب الذي نعنيه مجرد ستر لبدن المرأة، إن الحجاب عنوان تلك المجموعة من الأحكام الاجتماعية المتعلقة بوضع المرأة في النظام الإسلامي، والتي شرعها الله سبحانه وتعالى لتكون الحصن الحصين الذي يحمي المرأة، والسياج الواقي الذي يعصم المجتمع من الافتتان بها، والإطار المنضبط الذي تؤدي المرأة من خلاله وظيفة صناعة الأجيال، وصياغة مستقبل الأمة وبالتالي المساهمة في نصر الإسلام والتمكين له (6).
والفتاة التي تتفنن في إظهار مفاتنها من خلال الموضات المثيرة، التي تظهر أكثر مما تخفي، سواء بإظهار مفاتن البدن؛ من خلال لبس الأزياء العارية، أو الضيقة التي تصف تقاطيع البدن، أو الخفيفة التي تشف عما تحتها، أو من خلال الموضات الصارخة والعجيبة والغريبة التي تلفت الانتباه وتعلق عين الناظر، هذا كله يعرض الفتاة لأن يتعرض لها الفسقة ومرضى النفوس والقلوب، وهي في ذات الوقت تعرض نفسها لخطر هي في غنى عنه.
لم يكن الحجاب يومًا وسيلةً لإبراز المفاتن ولإغراء الشباب كما هو حاصل اليوم بما يسمى «حجاب الموضة»، إنما كان الحجاب ولم يزل خضوعًا لأمر الله عز وجل وصونًا لعفة وكرامة المرأة المسلمة.
مظاهر التساهل بالحجاب:
في الآونة الأخيرة صرنا نرى بوادر لنزع الحجاب الشرعي، واستبدال بديلًا عنه حجاب الموضة، من قبل بعض النساء متمثلًا في ظواهر منها:
1- التدرج في نزع غطاء الوجه:
تتدرج بعض النساء في نزع غطاء الوجه، وذلك بلبس غطاء الوجه الخفيف الذي لا يستر وإنما يفتن، يقول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: الواجب على المرأة أن تستر وجهها عن الرجال الأجانب غير المحارم لها بأن تستره بستر لا يصف لون البشرة، أما ما يصف اللون فإنه لا يكفي كما تفعله بعض النساء، وليس المقصود أن تضع المرأة شيئًا على وجهها؛ بل المقصود ستر وجهها فلا يبين لغير محارمها (7).
2- لبس النقاب العصري:
الذي ظهر بأشكال متعددة بعيدة كل البعد عن النقاب المشروع الذي كانت تلبسه أمهات المؤمنين رضي الله عنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينًا واحدة (8).
أما نقاب اليوم فهو نقاب غير ساتر، وقد عرضت أشكاله على فضيلة الشيخ صالح الفوزان فقال: أجبت غير مرة بتحريم لبس المرأة للنقاب المتعارف عليه اليوم بين النساء بجميع أشكاله، لأنه تحول من الحجاب الشرعي إلى حجاب شكلي، فهو تدرج للسفور وربما يكون مغريًا بالنظر للمرأة والافتتان بها، وإذا كان كذلك فلا يجوز إقرار النساء على لبسه ولا يجوز بيعه وتداوله، ويقول فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لم نفتِ امرأة من النساء لا قريبة ولا بعيدة بجواز النقاب أو البرقع في أوقاتنا هذه؛ بل نرى أنه يمنع منعًا باتًا (9).
إن نقاب اليوم الذي تظهر من خلاله العينان نقاب فاتن؛ لأن لغة العيون من أبلغ اللغات، وقد تغني كثيرًا عن اللسان؛ بل إن العيون لها كلام تنطق به هو أقوى من اللسان، فهي تتكلم لغة صامتة لها مفعول قوي في كثير من الأحيان، وتتميز لغة العيون بأنها سريعة الوصول من المرسل إلى المستقبل قوية الأثر، تنفذ إلى القلب.
3- لبس حجاب الموضة والزينة:
لقد ولج أعداء الله علينا من بوابة تساهل بها كثير من نساء المسلمين: إنها بوابة الموضة، فالحجاب الذي شرع لستر المرأة أصبح قماشًا يمكن أن يطلق عليه كل شيء إلا مسمى الحجاب؛ لأنه حجاب لا يستر ويفتن، ولذا يمكن أن يطلق عليه الحجاب الفاتن والحجاب السافر والحجاب المزيف والحجاب الكاذب.
لقد انتشرت الموضة بين النساء حتى أصبح الحجاب هدفًا لتقاليع الموضة تعدل من أحجامه وأشكاله وأنواعه، ليبتعد خطوة خطوة عن شروط الحجاب الشرعي ليخرج الحجاب عن مقصده الشرعي؛ وهو الستر والحشمة، وليصبح نوعًا من أنواع الزينة والتبرج والسفور وإظهار المفاتن وكشف المحاسن وإثارة الغرائز والشهوة وفتنة الرجال والشباب.
4- ارتداء اللثام:
وهو الخطوة التالية للنقاب، فغطاء الوجه تحول من غطاء وجه ساتر كامل إلى نقاب، ثم تطور النقاب وتوسع حتى تحول إلى لثام.
إن هذه المظاهر لا تبشر بخير، فهي إن كانت اليوم عند فتيات صغيرات فقد تكون غدًا عند نساء كبيرات، وإن كان اليوم تدرج في السفور فقد يكون غدًا سفور بالكامل، وإن كانت اليوم تحدث خارج البلاد، وإن كانت اليوم تفعل على استحياء فقد تفعل غدًا مجاهرة ومكابرة، فكان لزامًا أخذ الموضوع بجد وحزم وعدم التساهل فيما يحدث في بعض البلاد الإسلامية من سفور وتبرج وكانت بداياته سهلة في أعين البعض.
أسباب التساهل بالحجاب:
1- ضعف الإيمان لدى المرأة:
لضعف الإيمان دور كبير في ارتكاب المعاصي والذنوب، وصاحبة الإيمان الكامل يحجزها إيمانها الكامل عن ارتكاب ما حرم الله من السفور والتبرج، ويجعلها تلبس الحجاب لأنه واجب يقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: فهذه الآية الكريمة نص واضح في وجوب تحجب النساء، ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]، يقول سماحته: أمر الله سبحانه جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع الرسول صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا أسلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا كشفناه (10).
2- وسائل الإعلام المرئية:
إن من أهم أسباب التبرج والسفور بعض وسائل الإعلام، وأخطر وسائل الإعلام البث المباشر عبر القنوات الفضائية، ففي تحقيق بعنوان "الموضة سفور بالتقسيط" كان إجابات من أجري معهن التحقيق أن من أسباب لبس النساء لهذه الأزياء تأثير القنوات الفضائية.
بدأت هذه الظاهرة الدخيلة عندما بدأت أعاصير الغرب تجتاحنا عبر الهوائيات، ولذا فلا عجب أن يتزامن التساهل بالحجاب في كثير من مظاهره مع دخول القنوات الفضائية.
3- كتابات بعض الكتاب:
بعض الكتاب استغربت عقولهم، وتلوثت أفكارهم، وعميت أبصارهم، فأخذوا يكتبون المقالات في الصحف والمجلات، يدعون من خلالها إلى سفور المرأة عن وجهها ونزعها لحجاب ربها، جاهلين أو متجاهلين لأخطار ذلك، وأثره السلبي على المرأة والرجل، وخطره المدمر على المجتمع.
4- ضعف أو انعدام غيرة الولي:
لما ضعفت غيرة الولي على نسائه من بنات وزوجات وأخوات رأينا تساهل النساء بالحجاب، إذ لو علمنا أن وليهن سوف يغضب عندما يشاهدهن وقد لبسن النقاب الفاتن والخمار المطرز والعباءة على الكتفين وغطاء الوجه الخفيف ما لبسن هذا الحجاب المزيف.
5- فتاوى الفضائيات:
من أسباب تساهل النساء في الحجاب فتاوى الفضائيات التي تصور الحجاب على أنه مجرد غطاء للرأس فقط، مع أن لب الحجاب وجوهره هو تغطية الوجه، يقول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الحجاب الشرعي هو حجب المرأة ما يحرم عليها إظهاره أي سترها ما يجب عليها ستره وأولى ذلك وأوله ستر الوجه؛ لأنه محل الفتنة ومحل الرغبة، فالواجب على المرأة أن تستر وجهها عمن ليسوا بمحارمها.. وهناك أدلة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة وأقوال أئمة الإسلام وعلماء الإسلام.. تدل على أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عمن ليسوا بمحارمها.
6- لبسه على أنه عادة لا عبادة:
من لبست الحجاب الشرعي على أنه عادة فما أسهل عليها أن تخلعه متى ما حانت لها الفرصة، ومن لبسته على أنه عبادة تتعبد الله بها كما تعبده بالصلاة والصيام وسائر العبادات، فلن تخلعه بحال من الأحوال داخل البلاد أو خارجها.
7- كثرة الذهاب للأسواق:
كثرة ذهاب المرأة للأسواق من أسباب التساهل بالحجاب، تقول إحدى النساء اللاتي تساهلن في الحجاب الشرعي وارتدت اللثام: ترددي على الأسواق كان السبب الرئيس في هذه النقلة في حياتي وأعتبرها نقلة لأنها خطوة صعبة إذ أشعر أنني غير متحجبة.
تربية البنت على الحجاب من خلال الآتي:
1- أن تربى على أن قدوتها في ذلك أمهات المؤمنين وصحابيات أفضل القرون، اللاتي امتثلن لشرع ربهن فسارعن بتغطية وجوههن، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شققن مروطهن فاختمرن بها (11)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فاختمرن أي غطين وجوههن (12)، وعنها رضي الله عنها في قصة الإفك قالت: وكان صفوان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي، أي غطت وجهها (13).
2- أن يغرس في نفس البنت منذ صغرها أن الحجاب عبادة وليس عادة، وأنه أمر رباني يجب الامتثال له، وأنه كغيره من العبادات لا مجال فيها لآراء أو اجتهادات بشرية، ومن لبست الحجاب على عبادة ليس عادة وأنه طاعة للمولى وقربة للرحمن فلن تخلعه بحال من الأحوال لا داخل البلاد ولا خارجها.
3- أن يغرس في نفس البنت منذ صغرها حب الحجاب، وأن يوضح لها فوائده وحكمة الله في مشروعيته، وأنه شرع لستر الزينة والمفاتن عن الرجال وليس لإظهارها وفتنتهم بها، وأن يوضح لها أضرار التبرج ومخططات الأعداء في ذلك، وأن يبين لها أن المرأة المسلمة حين تتخلى عن حجابها فهي تتخلى عن حيائها.
4- أن تربي البنت منذ صغرها على الحياء، وأن يبين لها فوائد وثمار الحياء، وأن من أكبر العوامل المساعدة على الحياء لبس الحجاب الشرعي فتتعود على لبسه وهي صغيرة؛ لأنها إذا تعودت على ذلك من الصعب أن تنزعه أو تتساهل فيه مستقبلًا، أما إن تساهل الأهل في ذلك ولم يلبسوا البنت الحجاب بحجة أنها صغيرة أو ألبسوها حجاب زينة وتبرج فالغالب أنها تعتاد ذلك ويهون عليها الحجاب فلا تلبسه إذا هي كبرت أو تتهاون به.
5- الحزم مع البنت وعدم التهاون معها في لبس الحجاب؛ من قبل والدها ووالدتها على حد سواء في حالة رفضها لبس الحجاب لأنه عبادة يجب فعلها لا مجال فيها للرفض، فالبنت إذا رفضت فعل أمر دنيوي كرفض الذهاب للمدرسة فهل يتركها والدها أو والدتها؟ أم يكونا حازمين معها؟ فإذا حزما في أمور الدنيا فمن باب أولى أن يكونا حازمين في أمور الدين (14).
--------------
(1) أخرجه البخاري (4758).
(2) أخرجه مسلم (2128).
(3) شرح النووي على مسلم (17/ 191).
(4) الحجاب بين الفريضة والموضة/ إسلام أون لاين.
(5) مجموع الفتاوى (22/ 146).
(6) الحجاب المتبرج ضياع المضمون وفقدان الغاية، إسلام ويب.
(7) مجموعة أسئلة تهم الأسرة المسلمة (ص: 20).
(8) تفسير ابن كثير (6/ 482).
(9) حكم ارتداء النقاب الذي يظهر العينين/ ملتقى طالبات العلم.
(10) أخرجه أبو داود (1833).
(11) تقدم تخريجه.
(12) فتح الباري (8/ 490).
(13) أخرجه البخاري (4141).
(14) دائرة معارف الأسرة المسلمة (ص: 427).