بيت الدعوة
عن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال: «حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ، فذكر في الحديث قصة فقال: (ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا، ألا إن لكم على نسائكم حقًا، ولنسائكم عليكم حقًا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)»(1).
لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجمع الغفير والاجتماع الكبير أن ينبه على قضية هي من أهم عوامل نجاح الأمة ونهوضها، لقد كان يعلم صلى الله عليه وسلم أن العلاقة بين الرجل وزوجته لا بد لها من ضوابط تحدد معالمها، وتؤمن استقرارها، ليؤدي كلٌ دوره بسعادة واستقرار.
فجاءت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لتضع هذه الضوابط في وصايا دقيقة، وعبارات حكيمة، ومنهج متوازن، تبين حق الزوج وحق الزوجة بأبلغ العبارات وألطف الإشارات.
لقد كان أعداء الدعوة يدركون خطورة مكانة المرأة عند المسلمين؛ ولذلك لما أراد اليهود إحداث فتنة في المدينة لم يجدوا أفضل من استعمال الغيرة على المرأة، فيقوم يهودي خبيث بطلب من المسلمة لتكشف عن وجهها، وعندما اعترضت عليه عمد إلى خصلة دنيئة كعادة اليهود في كشف الستر وهتك العِرض، فلم يتمالك المسلم الأبي ذلك؛ فتحرك بدافع الغيرة على الحرمات، وبدافع النخوة والرجولة التي يفتقدها هؤلاء الأنجاس بين رجالاتهم، يقوم ذلك المسلم الغيور بأخذ ثأر تلك المرأة الضعيفة، فيتسلط أحفاد الخنازير على ذلك المسلم العفيف فيقتلوه، فيتحرك إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مؤدبًا لهم.
قال ابن هشام: «واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في محاصرته إياهم بشر بن عبد المنذر، فتحصنت اليهود في حصنهم، فحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة حتى جهدهم الحصار فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم»(2).
لقد كانت حرب العفاف والطهر والفضيلة من أخطر الحروب الموجهة إلى أمة الإسلام، لذلك كان دائمًا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تحصين المجتمع ضد الهجمات الأخلاقية وأسلحة الفحش والبذاءة، وكان ولا يزال تحصين المسلم بالزواج وإعفاف نفسه بالحلال هو أفضل وأنجع الحلول لمواجهة أسلحة الخصوم، ولقد أدرك ذلك أعداء الفضيلة فكان جل اهتماماتهم هو تقويض بنيان الأسرة، وقطع حبال الود بين طرفيها، وتسهيل سبل الحرام، وتعقيد سبل العفة والحلال.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]، فهذا موسى عليه السلام يتزوج ويبني أسرة وهو في أحلك الظروف وأصعبها، فر من مصر هاربًا خائفًا يترقب، مهدد من فرعون بالقتل {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14]، ولم يمنعه ذلك من تحصين نفسه وإعفافها بالزواج، فالزواج ليس عائقًا من عوائق الدعوة إلى الله؛ بل على العكس، فإن من عوامل نجاح الداعية الاستقرار النفسي والأسري.
بل يأتي الزواج ليكون مرحلة من مراحل إعداد موسى عليه السلام للقاء ربه تبارك وتعالى، لتحل السكينة محل الخوف والجزع، وتعلن أهمية الزواج للدعوة إلى الله.
وهذا سيد البشر صلى الله عليه وسلم يحقق الانسجام النفسي بين الدعوة والأسرة، فيقول صلى الله عليه وسلم: «حبب إلي النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة»(3).
قال الحافظ ابن حجر: «وفي الحديث أن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن، ويشهد له قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14]، فجعلهن من حب الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك...، وغير الصالحة منهن تحمل الرجل على تعاطي ما فيه نقص العقل والدين كشغله عن طلب أمور الدين، وحمله على التهالك على طلب الدنيا، وذلك أشد الفساد»(4).
وقال علي القاري تعليقًا على قوله: «أضر على الرجال من النساء»: «لأن الطباع كثيرًا تميل إليهن، وتقع في الحرام لأجلهن، وتسعى للقتال والعداوة بسببهن، وأقل ذلك أن تُرَغِّبه في الدنيا وتطلب منه الانهماك فيها، والتماس الرزق من غير حله، وأيُّ فساد أضرُّ من هذا؟»(5).
ويأتي التشريع الإسلامي ليربط بين قضايا النبي صلى الله عليه وسلم الأسرية وبين قضاياه الدعوية، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)} [الأحزاب:32-34].
فبيت الدعوة ليس كبقية البيوت، الحياة فيه تخضع لمراد الله وتشريعاته، حتى وإن خالفت هوى النفس، فالدعوة فيه مقدمة على كل شيء، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (30)} [الأحزاب:28-30].
فهن محل نظر الجميع، فوقوع الخلل في بيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون خطره على من أخطأ فحسب؛ ولكن المصيبة في تعدي هذا الخلل إلى المجتمع كله، ولقد سبق في أوائل السورة تسميتهن (أمهات المؤمنين)، ولهذه الأمومة تكاليفها، وللمرتبة السامية التي استحققن بها هذه الصفة تكاليفها، ولمكانتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكاليفها.
وفي هذا الدرس بيان لشيء من هذه التكاليف، وإقرار للقيم التي أراد الله لبيت النبوة الطاهر أن يمثلها، وأن يقوم عليها، وأن يكون فيها منارة يهتدي بها السالكون(6).
ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو المخول لإبطال قضية التبني؟ ألم يكن وقْع هذا الأمر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم شديدًا؟
ومع ذلك كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم هو ميدان الأحداث، فزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزينب بنت جحش هاشمية من بني عمومته صلى الله عليه وسلم، والشخصية الأبرز في التصدي لهذا الأمر، قضية إبطال التبني وتحريمه، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول سيد قطب: «ثم شاء الله أن يحمل نبيه بعد ذلك، فيما يحمل من أعباء الرسالة، مؤنة إزالة آثار نظام التبني فيتزوج من مطلقة متبناه زيد بن حارثة، ويواجه المجتمع بهذا العمل، الذي لا يستطيع أحد أن يواجه المجتمع به، على الرغم من إبطال عادة التبني في ذاتها!
وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة، حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حمل، وواجه بها المجتمع الكاره لها كل الكراهية، حتى ليتردد في مواجهته بها وهو الذي لم يتردد في مواجهته بعقيدة التوحيد، وذم الآلهة والشركاء وتخطئة الآباء والأجداد! {وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب:37]، لا مرد له، ولا مفر منه، واقعًا محققًا لا سبيل إلى تخلفه ولا إلى الحيدة عنه.
وسنة الله هذه قد مضت في الذين خلوا من قبل من الرسل: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ} [الأحزاب:39]، فلا يحسبون للخلق حسابًا فيما يكلفهم الله به من أمور الرسالة، ولا يخشون أحدًا إلا الله الذي أرسلهم للتبليغ والعمل والتنفيذ»(7).
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]، وهكذا بيوت الدعاة، يأنس فيها الداخل، ويستريح فيها المقيم، ويتمنى المزيد.
بيوت الدعاة بيوت خير وبركة، بيوت جود وكرم، بيوت أنس وسكينة، بيوت مفتوحة لكل سائل ومحتاج، لكل غريب وقريب، بيوت الدعاة هي ملجأ كل إنسان، ومأوى كل محتاج.
من الاختلافات التي يختلف بها بيت الداعية عن بيوت بقية الناس أنه بيت يغشى للخير، يغشى للتعلم، يغشى للتدريس، يغشى للانتفاع، يغشى للإكرام أيضًا.
روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة «أن الناس كانوا يقولون: (أكثر أبو هريرة)، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني، حتى لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير [يعني: الثياب المزينة]، ولا يخدمني فلانٌ ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء [يعني: الأرض] من الجوع، وإن كنت لأستقرض الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب [ولذلك كان يلقب بـأبي المساكين]، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة [قربة من الجلد يحفظ فيها السمن] التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها»(8).
فرضي الله عنه، يخرج العكة وليس فيها شيء إلا البقايا على جدرانها وأطرافها، فيشقها ليلعق ضيوفه ما فيها، فالداعية إلى الله كريم؛ بل ينبغي أن يكون بيته مفتوحًا للمساكين والفقراء، وأن يتخذ الإكرام وسيلة للدعوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يجعل من إكرامه للناس وسيلة لاستمالة قلوبهم، كان يجيز الضيف ويعطيه، وإذا فتح الله عليه بشيء وزعه على الناس، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، حتى كان ذلك سببًا في إزالة الشحناء من قلوب كثير من أعدائه، ودخول الألداء من خصومه في دين الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن بيتًا بهذه المهمات ينبغي أن يكون ذا مواصفاتٍ عالية؛ لأنه بيت ينطلق منه الخير، ويشع بالعلم، ويستقبل الناس الراغبين في الهداية والتعلم؛ بل ربما يستقبل بعض المصابين بالأمراض والذين فيهم ضلال، فيكرمون في هذا البيت، فيكون ذلك سببًا في هدايتهم وانقيادهم للحق وإلى طريق الله المستقيم؛ ولذلك كان الاهتمام ببيت الداعية من الأمور المهمة جدًا(9).
من أهم الحقائق المفترضة في صراعنا مع الجاهلية أنه صراع اجتماعي، قائم بين واقع إسلامي وواقع جاهلي.
وافتراض هذه الحقيقة يحتم أن يدخل المسلمون بتلك الصفة الاجتماعية في كل مراحل الصراع؛ من لحظة الاستضعاف إلى فرصة التمكين ووقت الامتداد.
ففي بيت الدعوة تنشأ الحدود الفاصلة بين الصواب والخطأ بمقياس الدعوة في حياة الدعاة، مثل الحد بين زينة الله التي أخرج لعباده والترف المحظور، وبين السكن إلى الزوجة والركون إليها، وبين السعي المشروع للرزق والانشغال المنهي عنه بالمال، وبين الحب الفطري للذرية وبين الافتتان بها.
وفي بيت الدعوة تكون حياة الكفاح منبعًا للحب لا يجف بين الزوجين، فالحياة في بيت الدعوة إما لحظة وداع وأمل، أو لحظة حنين وشوق، أو لحظة لقاء وفرحة، فهي حياة طيبة، وعيشة راضية، وعمر مبارك، ووقت مليء(10).
فالزوج المسلم هو أحب الناس لزوجته، وهي أحب الناس إليه، يربطهما الحب في الله، أوثق عرى الإيمان، وتزداد مشاعر الحب بينهما باستمرار العلاقة الزوجية، ومع ذلك فإن هذه المشاعر لا تدفع الزوج إلى الركون للبيت والزوجة، ولا تدفع الزوجة إلى محاولة الاستئثار بزوجها؛ لأن كلًا منهما يعلم أن من حلاوة إيمان المرء «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما»(11)، فكل منهما يقدم حب الله ورسوله على أي حب، وهذا يجعل حياة الدعوة والجهاد من أجل الإسلام منبعًا للحب لا يجف بين الزوجين، فالحياة في (بيت الدعوة) إما لحظة وداع وأمل، أو لحظة حنين وشوق، أو لحظة لقاء وفرحة...، فهي حياة طيبة وعيشة راضية وعمر مبارك(12).
ومن الثغرات الموجودة في بيوت الدعاة، والتي تؤثر كثيرًا على دعوتهم، قضية الخلافات الزوجية، والخلافات الزوجية نارٌ يكتوي بها كثير من الناس، والشخص إذا كان صاحب عمل عادي ربما لا يتأثر كثيرًا؛ لأنه إذا خرج إلى العمل ارتاح من زوجته، وإذا رجع بعد ذلك يدبر أمره، لكن الداعية يدرك خطورة البيت، وما ينبغي أن يكون عليه أهله؛ فإذا دخل في أتون الخلافات الزوجية فإنه سيتأثر وتتأثر دعوته ويتأثر طلبه للعلم؛ كيف يركز في حلقة العلم وبينه وبين زوجته ما قام بين داحس والغبراء؟ كيف سيكون صاحب عطاء في الدعوة إلى الله وهناك مشاتمات وسباب وهجر وقطيعة ومخاصمة بينه وبين زوجته؟
لا شك أن الحزن الذي سيسببه ويخلفه هذا الخلاف سيؤثر في عطائه في الدعوة إلى الله؛ لأن الإنسان عندما ينطلق مرتاحًا بالدعوة وطلب العلم لا شك أنه سيكون مهيأً أكثر؛ ذهنه صاف، نفسه متطلعة ومنفتحة لأجل العطاء والتحصيل، لكن إذا كان مهمومًا بالخلافات يعيش ويكتوي بنارها، ويصطلي بحرها، فكيف إذًا سيكون عطاؤه؟
وهذه الخلافات قد يكون سببها الداعية نفسه! قد يكون عنده شيء من الاستبداد، قد يكون عنده تحكم ليس فيه حكمة، قد يكون مقصرًا في الحقوق الزوجية، قد يكون عنده إهمال وتفريط مما يثير نقمة زوجته عليه، وبعضهم يغيب غيابًا طويلًا جدًا، ويهمل حاجات البيت فلا يأتي بما تحتاج إليه الزوجة؛ بل حتى النفقة يقصر فيها، فيكون باختصار هو السبب.
وقد يجعل الداعية زوجته تعيش في غموض كبير، ويكثر من التوريات عليها فتفقد الثقة به! لأنه لا بد من مستوى معين من المصارحة، نعم هو غير ملزم أن يعطيها جميع التفصيلات عن دقائق أموره، لكن لا بد أن يخبرها بأشياء، لا يمكن مثلًا أن يسافر ولا يخبرها أنه مسافر، ومعاملة الزوجة بهذا الغموض وإخفاء الأشياء باستمرار، حتى التي لا ضرر فيها ولا حرج، لا شك أن ذلك سيضايق الزوجة كثيرًا.
وقد يرهقها بكثرة العمل أو الضيوف بشيءٍ فوق المستوى المعقول.
وبعض الدعاة إلى الله يقرءون في أساليب الدعوة، والحكمة في الدعوة، ويقرءون في مراعاة الأولويات، ويقرءون في الوسائل الناجحة، وقد يكونون ناجحين فعلًا في استخدام هذه الوسائل والأساليب، لكنهم ليسوا بناجحين مطلقًا في سياسة زوجاتهم، يمكن أن يهدي مدعوه هديةً يتألف بها قلبه ثم هو لا يهدي زوجته هدية واحدة!
إذًا هذا النجاح على صعيد والفشل على صعيد آخر لا شك أنه يشقي الإنسان، ليس النجاح الذي يشقيه في صعيد الدعوة، لكن الذي يشقيه الفشل على صعيد الحياة الزوجية.
إذًا لا بد من إعطاء الحقوق الزوجية، ولا بد من مصارحة الزوجة بما ليس فيه ضرر ولا حرج، لا بد من إشعارها بالاهتمام حتى ولو بالكلام، ولا شك أن المرأة تأنس إذا ما اعترف لها زوجها بتقصيرٍ مثلًا، أو طلب منها السماح في أمرٍ من الأمور، وتنازل عن رأيه في أشياء فتتنازل له بالمقابل عن أشياء كثيرة.
وشيءٌ من الهدية مع شيءٍ من الكلام الطيب والإكرام، وإكرام أهل الزوجة أيضًا وليس إكرام الزوجة فقط، والمعاملة الحسنة لأهل الزوجة، وتذكرهم في المناسبات؛ لا شك أنه يصلح الأحوال مما يريح الداعية كثيرًا في مهماته، وإذا شعرت الزوجة أنه يشاركها في اهتماماتها؛ بل ويجعل لها من وقته حلقةً أو درسًا، أو يقرأ معها من كتاب، أو يوقظها لقيام الليل كما في الحديث: «رحم الله رجلًا قام من الليل فأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء»(13)، لا شك أن هذا الاهتمام يشعر الزوجة أن زوجها ليس صاحب هوى، ولا صاحب استبداد، وإنما هو إنسان يريد الخير لها فعلًا.
ثم إنه إذا أذن لها بالمباح من اللهو فإنها لا شك ستأنس به أكثر، ألم يأتك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث»، قالت: «وليستا بمغنيتين»(14).
فهذا الغناء عبارة عن أشعار تنشد بصوتٍ جميل من قبل بنات صغيرات، الآن عائشة لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها تسع سنوات، وكان عليه الصلاة والسلام يدخل لها صويحباتها ليلعبن معها، وكان يجعل لها ألعابًا، وكان يسألها عن الفرس الذي له أجنحة، وكان عندها لعب تتناسب مع سنها، لا شك أن السماح للزوجة بالصويحبات والجواري اللاتي كن معها بدون محرم، لما ظنه أبو بكر محرمًا بَيَّن له عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمحرم، قال أبو بكر: «أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟».
والمزمور يطلق على آلة اللهو المحرم، ويطلق على الصوت الحسن، ولا شك أن المقصود بالرواية هنا الثاني، ولا شك أن الكلام الذي كن ينشدنه ليس فحشًا ولا فجورًا، وإنما هو شيء تقاولت به الأنصار في يوم بعاث، فبين النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أنه ليس بمنكر وقال: «يا أبا بكر، إن لكل قومٍ عيدًا، وهذا عيدنا»(15)، والترفيه عن الزوجة وإتاحة المجال لها في العيد بما يرضي الله عز وجل لا شك أنه أمر مطلوب.
لقد كانت البساطة بينه وبين زوجته عليه الصلاة والسلام عاملًا كبيرًا من عوامل الاستقرار والهناء في الحياة الزوجية، فعن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: «كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما»، قالت: «والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح»(16).
الخلافات تعالج بسرعة وفي نفس اليوم، وترجع المياه إلى مجاريها، وليس هناك إصرار وعناد.
في بعض الأحيان تجد الزوجة تغادر البيت وتمكث عند أهلها الأسابيع والشهور، وتقول: لا أتنازل، وأهلها يقولون: لا ترضخي له، وهو يقف أيضًا عند كبريائه، وتتسع المسألة وتتشعب، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن لإنسان أن يعيش حياةً دعويةً سعيدة، أو ينطلق انطلاقة جيدة في دعوته وطلبه للعلم وهو يعاني من آثار هذه الخلافات.
إذًا لو حصل خلاف فليعالج بالحكمة وبالحسنى، والمسألة سهلة بعد ذلك، إذا وجدت النية الطيبة من الطرفين(17).
***
_______________
(1) أخرجه الترمذي (1163).
(2) تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (1/ 409).
(3) أخرجه النسائي (3940).
(4) فتح الباري (9/ 138).
(5) شرح المشكاة (3/ 404).
(6) في ظلال القرآن (5/ 2853).
(7) المصدر السابق (5/ 2870).
(8) أخرجه البخاري (3708).
(9) ثغرات في بيوت الدعاة، محمد صالح المنجد.
(10) بيت الدعوة، رفاعي سرور.
(11) أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43).
(12) إلى أختي المسلمة حارسة القلعة، مجلة البيان (العدد: 95).
(13) أخرجه أبو داود (1308).
(14) أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892).
(15) المرجع السابق.
(16) أخرجه البخاري (382)، ومسلم (512).
(17) ثغرات في بيوت الدعاة، محمد صالح المنجد.