logo

التشجيع وأثره التربوي


بتاريخ : الاثنين ، 22 ربيع الآخر ، 1437 الموافق 01 فبراير 2016
بقلم : تيار الاصلاح
التشجيع وأثره التربوي

في حياتنا اليومية لا تخلو تصرفات أبنائنا من الصواب والخطأ، وإن كانت الأخطاء تكثر كلما صغر السن بسبب قلة العلم والخبرة، والرغبة في المعرفة واكتشاف الحياة.

وإزاء هذه التصرفات، سواءً أكانت خطًا أم صوابًا، يتجه الآباء إلى التعامل معها بالثواب أو العقاب.

ولا شك أن مبدأ الثواب والعقاب من المبادئ المتفق عليها تربويًا، وإن المتأمل في التوجيهات الربانية، والإرشادات النبوية يلمس ذلك جيدًا، ففي كثير من مواضع القرآن، وكذلك السنة، نجد أن الشارع الحكيم يرتب الثواب العظيم على الأعمال الصالحة، ويحذر من سوء عاقبة الأعمال السيئة.

ففي محكم التنزيل يقول الحق تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل:97].

ويقول ربنا جل في علاه: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} [البقرة:81].

والهدف من الثواب أو إثابة الشخص، كما هو معلوم، ترغيبه في الاستمرار في العمل الحسن، والازدياد منه، وتحبيبه فيه، وجعل هذا العمل الحسن والسلوك الطيب خلقًا دائمًا له.

كما أن الهدف من العقاب هو كف الشخص عن السلوك السيء، وتبغيضه له، وتنفيره منه، بحيث لا يعود إليه مرة أخرى.

وفي واقعنا العملي نجد أن أغلب اهتمام الوالدين يكون في التركيز على السلبيات، والتعليق على الأخطاء، والتعجيل بالعقاب والجزاء، فإذا ما أخطأ الطفل أو الابن سارع الأبوان إلى التوبيخ واللوم والعتاب والتعنيف والصراخ، وربما إلى الضرب، وقد يفعل الابن سلوكًا حسنًا فلا يجد أدنى اهتمام أو أقل تشجيع أو أي كلمة طيبة تدل على المدح أو الثناء، أو تعبر عن التحميس والتحفيز.

إن الدراسات الإنسانية توصي بضرورة الاهتمام بقضية الثواب والاستحسان، وتركز على الثواب؛ وذلك لعدة أسباب، لعل من أهمها الأثر الانفعالي السيئ الذي يصاحب العقاب، أما الاستحسان ففيه توجيه بنَّاء لطبيعة السلوك المرغوب فيه أكثر من مجرد معلومات سلبية عن الأشياء التي يجب أن يتجنبها.

ومن أساليب الثواب التي ترفع من معنويات المربَّى التشجيع، فللتشجيع أهمية كبرى لا يمكن إغفالها في حياة المرء، وهو احتياج إنساني أساسي، يقول الكاتب والطبيب النفسي (رودلف دريكوس): «يحتاج الطفل إلى التشجيع مثلما يحتاج النبات إلى الماء».

ويؤكد علماء النفس على أهمية التشجيع؛ إذ يرونه المحرك والدافع لمواصلة الأعمال وتنميتها.

ويمكننا إدراك أهمية هذا الأمر عندما نعلم أننا كبشر ما نحن إلا مجموعة من الأحاسيس والمشاعر التي يجب أن تُدار، لنتميز، بالأحاسيس والمشاعر أيضًا، تلك المشاعر التي يمكن أن يعبّر عنها بالتشجيع والكلمات الإيجابية(1).

يحكي الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى قصة يقول: «قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الآداب؟ وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع، وقالت: إنها في تلك السن، بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع لتمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير»(2).

ويحكي هو رحمه الله عن نفسه فيقول: «وقد وقع لي أني كنت في المدرسة وكنت أحاول أن أنظم الشعر، فآخذ أبياتًا قديمة فأغير قوافيها، وأبدل كلماتها، وأدَّعيها لنفسي، كما يفعل اليوم بعض الأدباء (التراجمة) حين يترجمون الكلمة الإنكليزية أو الفرنسية، حتى إذا بلغوا التوقيع ترجموه هو أيضًا، فكانت ترجمة اسم المؤلف أو الكاتب اسم الترجمان أو (السارق)! وكان الكتاب أو الفصل المترجم من وضع أديبنا البارع...

كنت أنظم أبياتًا من الشعر، كما ينظم كل مبتدئ، حتى إذا اجتمع عندي كثير من القطع عرضته على أستاذ العربية، وكان لسوء الحظ تركيًا، يُسمَّى إسماعيل حقي أفندي، يعلمنا النحو العربي باللسان التركي! فلما قرأه سخر مني، وسبَّني، وتهكَّم عليَّ، وجاء من بعدُ أخي أنور العطار، فنظم كما كنت أنظم، حتى إذا اجتمع عنده كثير من القطع عرضه على الأستاذ كرد علي، رئيس المجمع العلمي العربي، فأقام له حفلة تكريمية!

فكانت النتيجة أني عجزت عن الشعر، حتى لَنَقْلُ البحر بفمي أهون عليَّ من نظم خمسة أبيات، وأن أخي أنور العطار غدا شاعر الشباب السوري، وسيغدو شاعر شباب العرب!»(3).

ومن طرق التشجيع المعروفة الثناء والمدح، فعلى المربي استخدام الثناء بالعبارات الحسنة الجميلة إذا رأى من المتربي أي بادرة حسنة في سلوكه أو في اجتهاده، فيقول له: أحسنت، بارك الله فيك، أو نعم الابن فلان، فمثل هذه الكلمات اللطيفة تشجعه، وتقوي روحه المعنوية، وتترك في نفسه أحسن الأثر.

جاء في تفسير السعدي رحمه الله: «{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى}؛ أي: فله الجنة والحالة الحسنة عند الله جزاء يوم القيامة، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}؛ أي: وسنحسن إليه، ونلطف له بالقول، ونيسر له المعاملة»(4).

وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في نموذج عملي فريد.

فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالبطحاء فقال: «أحججت؟»، قلت: نعم، قال: «بما أهللت؟»، قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «أحسنت»(5).

قال النووي رحمه الله: «في هذا الحديث فوائد...، ومنها: استحباب الثناء على من فعل فعلًا جميلًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: أحسنت»(6).

ولما قام أبو قتادة وسلمة بن الأكوع بمجهود عظيم في غزوة (ذي قرد) استحقا الثناء والتشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة»، قال سلمة: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين؛ سهم الفارس، وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعًا، ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة(7).

و"قوله صلى الله عليه وسلم: «كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة» فيه استحباب الثناء على الشجعان وسائر أهل الفضائل، لا سيما عند صنيعهم الجميل؛ لما فيه من الترغيب لهم ولغيرهم في الإكثار من ذلك الجميل، وهذا كله في حق من يأمن الفتنة عليه بإعجاب ونحوه"(8).

فالثناءُ إذن من أهم عوامل الإثارة, ولا بأس بأن يُسمِع الأبُ ابنَه هذا الثناء على مقربة منه وكأنه لا يشعر بوجوده, الأمر الذي يدفع الطفل لتقويم أخطائه لكي يكون أهلًا لهذا الثناء(9).

ولا ينبغي الإكثار من لوم الطفل لتأديبه أو تأنيبه وتوبيخه لزلاته؛ لأن الإكثار من التأنيب يميت قلب الطفل، ولهذا فالحكمة أفضل عند تأديب الطفل.

فالمربي يقدم أسلوب الترغيب والإثابة والتشجيع، فيمدح بكل ما يظهر من الطفل من خلق جميل وفعل حسن ويكرم عليه، فإن خالف في بعض الأوقات ما ذكرته فالأولى ألَّا يوبخ عليه، ولا يكاشف بأنه أقدم عليه؛ بل يتغافل عنه تغافل من لا يخطر بباله أنه قد تجاسر على مثله ولا هم به، لا سيما إن ستره الصبي واجتهد في أن يخفى ما فعله عن الناس، فإن عاد فليوبخ عليه سرًا، وليعظم عنده ما أتاه، ويحذر من معاودته، فإنك إن عودته التوبيخ والمكاشفة حملته على الوقاحة، وحرضته على معاودة ما كان استقبحه، وهان عليه سماع الملامة في ركوب قبائح اللذات التي تدعو إليها نفسه، وهذه اللذات كثيرة جدًا(10).

ونفس المعنى أكد عليه الغزالي رحمه الله قائلًا: «الوظيفة الرابعة، وهي من دقائق صناعة التعليم، أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيئة، ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويهيج الحرص على الإصرار»(11).

إن الطفل يحتاج إلى يد حانية تمسح على رأسه، وتأخذ بيده إلى شاطئ التوازن النفسي، بعيدًا عن الخلل والشروخ.

وقد اتفق المربون على الابتعاد عن الكلام الجارح، وكثرة التوبيخ الذي ينتقص من شخصية الطفل، أو يسبب له ردود أفعال سيئة(12).

إننا نخطئ كثيرًا في تربيتنا حين نركز على المخطئ لا على الخطأ، على أن الأهم في العملية التربوية هو تصحيح الخطأ وكسب المخطئ.

فتصحيح الخطأ يكون بالبيان والتنبيه، وكسب المخطئ يكون بعدم إيذائه والتشنيع عليه(13)، وهذا المنهج نجده واضحًا جليًا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه دعوه»، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة وقراءة القرآن»، فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه(14).

وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»(15).

تأمل كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على معالجة الخطأ لا على التشنيع على المخطئ.

ومن هذه المدرسة النبوية تَخرَّج الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وساروا على هذا النهج، وقِفْ قليلًا مع هذا الموقف.

مرّ أبو الدرداء رضي الله عنه على رجل قد أصاب ذنبًا فكانوا يسبّونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي(16).

وأخيرًا، إن من كمال البر تعجيله, فعلى الأب أن يثيب ولده إن أحسن على عجل, كما أن عليه إذا أخطأ ولده أن يعاقبه، إن لم يعفُ، على رَويّة(17).

__________________

(1) سحر الكلام وفن التشجيع، عبير العقاد، مجلة البيان.

(2) فكر ومباحث، للشيخ علي الطنطاوي، ص128.

(3) المصدر السابق، ص130.

(4) تفسير السعدي، ص486.

(5) رواه البخاري (1724)، ومسلم (1221).

(6) شرح النووي على مسلم (8/199).

(7) رواه مسلم (1807).

(8) شرح النووي على مسلم (12/ 182)، بتصرف.

(9) المنهج النبوي في تشجيع الأطفال والشباب، عبد المعطي الدالاتي، موقع: صيد الفوائد.

(10) تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، لأبي علي أحمد بن يعقوب مسكويه، ص69.

(11) إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 57).

(12) المدرسة الابتدائية بين الثواب والعقاب، عدنان محمد عبد الرزاق، مجلة البيان.

(13) المفصل في فقه الدعوة إلى الله تعالى، علي بن نايف الشحود (14/95 بترقيم الشاملة).

(14) رواه مسلم (285).

(15) رواه مسلم (573).

(16) المفصل في فقه الدعوة إلى الله تعالى (14/96).

(17) المنهج النبوي في تشجيع الأطفال والشباب.