logo

حافظ على إنسانيته


بتاريخ : الاثنين ، 18 صفر ، 1437 الموافق 30 نوفمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
حافظ على إنسانيته

يعتمد كثير من الآباء والأمهات طريقة التشهير العلني بالأبناء عند ارتكاب الأبناء خطأ ما، وذلك من خلال الصياح بهم، والصراخ فيهم، وكذلك الضرب، والأكثر ألمًا أن يكون كل هذا أو بعضه أمام الآخرين.

والمؤلم أن تلك الطريقة تشبه تمامًا سكب البنزين على النار الصغيرة فيزيدها اشتعالًا وهيجانًا، بينما إذا أردنا لنار التصرفات الخاطئة أن تخمد تمامًا، فعلينا أن نتخلى عن طريقة التشهير والتحقير، وأن نبتعد عن الخطب الرنانة، والمحاضرات المطولة التي توبخ الابن وتسخر منه، إنما هي كلمات يسيرة هادئة، تُفهم الابن وتُوصل إليه حزن الوالدين على سلوكياته، مع فهمهما لدوافع السلوكيات الخاطئة تلك؛ مما يجعلهم جميعًا يتحركون سويًا نحو الحل الأمثل لتلك السلوكيات.

إن الأبناء يقعون في كثير من الأخطاء، وفي أحيان كثيرة يتسترون بتلك الأخطاء والسلوكيات غير الصحيحة، ويحرصون كل الحرص على عدم اطلاع أحد عليها، وما هذا إلا لأنهم يعلمون أن ما يفعلونه خطأ لا ينبغي أن يكون، ولكنها النفس الأمارة بالسوء، وهنا ينبغي للوالدين أن يتعاملا في مثل تلك الحالات بمبدأ الستر، وهو مطلب شرعي في حق المسلم الذي يظهر منه الصلاح، ولم يجاهر بالمعصية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة»(1).

فإذا كان الستر مطلبًا شرعيًا في حق أي شخص يتستر بفعلته، ولم يُعرف عنه مجاهرة بها، وهو من أهل الصلاح، فهو في حق الأبناء مطلب شرعي وحق مرعي، كما أن التجسس على عورات المسلمين أمر منهي عنه، فالمطلوب أن يتم معاملة الابن على ما يظهره، وأن يأخذ حقه في الستر عَلَّه يعود إلى رشده، ويتوب من ذنبه، ولو كان مع الستر محاولة التقرب إليه بالكلام الطيب، والهدية البسيطة، لكان أدعى في رجوعه إلى الحق، وتركه السلوك الخاطئ، وكذلك الحديث معه بلغة "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا"، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم.

إن الستر على الأبناء فيما يخفونه أمر مهم جدًا؛ ذلك لأن الابن إذا "خالف في بعض الأحوال مرة واحدة، فينبغي أن يتغافل عنه، ولا يهتك ستره، ولا يكاشفه...، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه؛ فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانيًا فينبغي أن يعاتب سرًا، ويعظم الأمر فيه، ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا، وأن يُطَّلَعَ عليك في مثل هذا فتفتضح بين الناس.

ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين؛ فإنه يهون عليه سماع الملامة، وركوب القبائح، ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن الأب حافظًا هيبة الكلام معه، فلا يوبخه إلا أحيانًا، والأم تخوفه بالأب، وتزجره عن القبائح"(2).

فليس المقصود من الستر هو ترك المحاسبة أبدًا، والتغاضي تمامًا عن كل ما يقوم به الابن من سلوكيات خاطئة، وليس المقصود كذلك المحاسبة على كل هفوة، "فالمربي الحكيم يتغاضى أحيانًا, أو كثيرًا ما يتغاضى عن الهفوة وهو كاره لها؛ لأنه يدرك أن استمرار التنبيه إليها قد يحدث رد فعل مضاد في نفس المتلقي، ولكن إهمال التنبيه ضار كالإلحاح فيه، وحكمة المربي وخبرته هي التي تدله على الوقت الذي يحسن فيه التغاضي, والوقت الذي يحسن فيه التوجيه، ولكن ينبغي التنبه دائمًا من جانب المربي إلى سلوك من يربيه، سواء قرر تنبيهه في هذه المرة أو التغاضي عما يفعل، فالتغاضي شيء، والغفلة عن التنبه شيء آخر"(3).

فإذا استتر الابن بفعلته فلا ينبغي للوالدين هتك ستره، فإن عاد إليها ثانية وجب التنبيه والتوجيه، وهذا التوجيه لا يكون بالتقريع والتوبيخ والتحقير والتشهير، إنما يكون بالرفق واللين والرحمة، كما علمنا صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع، فقد تعامل مع الشاب الذي جاء إليه كي يرخص له في الزنا، فكان رد فعل الناس تجاهه بالصياح والتوبيخ على ما يطلب، لكن النبي المربي المعلم صلى الله عليه وسلم يجعله يقترب منه، ويبتسم في وجهه، ويحاوره، ويضع يده على صدر الشاب ويدعو له، هكذا ينبغي أن يتعامل الأب والأم مع ابنهما، بلا توبيخ أو تحقير أو تشهير.

فعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»(4).

هكذا ينبغي أن يتعامل الآباء والأمهات مع أخطاء الأبناء، فإن كان الابن غير مدرك لخطأ ما ارتكبه، كان التوجيه بلين وبشاشة وجه، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم.

إن التشهير بالابن والتحقير من شأنه، لأجل ارتكابه خطأ ما، يدمر الابن نفسيًا، ويجعله يرى نفسه دائمًا حقيرة ذليلة، لا تقوى على فعل أي شيء، إن قول الآباء والأمهات لابنهم: "أنت كسول، فاشل، سارق، كاذب" كل هذه الألفاظ التي تقتل إنسانية الابن، وتجعله إنسانًا ميتًا، يسير بين الناس بلا ثقة أو شعور بالذات، تتحول هذه الألفاظ إلى ذهن الابن، ويصدقها بعد تكرارها عليه، ثم يحاول بعد ذلك إثبات تلك الصفات لنفسه ولمن حوله، فبذلك يقوم الآباء والأمهات بذبح إنسانية الابن، وتهون عليه قبائح الأمور، ويسهل عليه ارتكاب السلوكيات الخاطئة.

ــــــــــــ

(1) صحيح البخاري (2442)، صحيح مسلم (2580).

(2) إحياء علوم الدين، للغزالي (3/73).

(3) منهج التربية الإسلامية، لمحمد قطب (2/283).

(4) صحيح مسلم (537).