ذات النطاقين
تعد أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن أبيها من النماذج البارعة في تاريخ الإسلام، فقد عاشت في ظل الدعوة الإسلامية منذ نعومة أظفارها، وعرف الإيمان طريقه إلى قلبها منذ كانت طفلة صغيرة، وشاهدت تطور الدعوة وانتقالها من طور إلى طور، بل وشاركت في صناعة الكثير من الأحداث، وحياتها رضي الله عنها مليئة بالمواقف وحافلة بالدروس والعظات التي يحتاج إليها النساء في عصرنا، بل ويحتاج إليها كثير من الرجال.
فهي امرأة ذات مكانة عظيمة في الإسلام، وذات شجاعة نادرة وبطولة، وهي علم في تاريخ نساء الإسلام، فهي ابنة الصديق، وأخت الصديقة، وزوجها الصحابي الجليل الزبير بن العوام، أحد العشرة المبشرون بالجنة، وابنها عبد الله بن الزبير صحابي جليل، كان أول مولود في الإسلام بعد الهجرة.
وهي أكبر من أختها عائشة أم المؤمنين بعشر سنين، وكانت أختَها من أبيها؛ لأن أمَّ أسماء قَتْلَة، وقيل: قُتيلة ابنةُ عبد العزى بنِ عبد أسد، وأمُّ عائشةَ أمُّ رومان ابنةُ عامر، واختُلف في إسلام أم أسماء، والأرجح أنَّها لم تسلم.
روي لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وخمسون حديثًا، اتفقا على أربعة عشر، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بأربعة (1).
امرأة بألف رجل:
كانت أسماء سابع عشر من أسلموا في مكة، ولا يغفل أحد عن موقفها المشهود وقت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر، حيث ضربت أروع مثال في فن التضحية والمثابرة والعزيمة، فكانت أسماء الحامل الدؤوب التي تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها بالزاد والماء كل ليلة، تمشي ثلاثة أميال تقريبًا حتى تصل إلى الغار ومعها الزاد والماء، وأيضًا الأخبار، حتى أنها قطعت نطاقها نصفين، وأخذت نصفه كي تعلق به الزاد وبالآخر الماء، وحين رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شقت نطاقها نصفين قال لها: «قد أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة»، وسميت من يومها بذات النطاقين (2).
وعن أسماء رضي الله عنها أنها قالت للحجاج: بلغني أنك تقول له يا بن ذات النطاقين، أنا والله ذات النطاقين؛ أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعام أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الدواب، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه (3).
وفي صحيح البخاري عن أسماء قالت: صنعت سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة، قال: فلم يجد لسفرته ولا لسقائه ما يربطهما به فقلت لأبي بكر: ولا والله ما أجد شيئًا أربط به إلا نطاقي، قال: فشقيه باثنين فاربطي بواحد السقاء، وبواحد السفرة، ففعلت؛ فلذلك سميت ذات النطاقين (4).
وهذا هو الصحيح المشهور في سبب تلقيب أسماء بنت الصديق رضي الله عنها بذات النطاقين، وقيل بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «قد أعطاك الله بهما نطاقين في الجنة»، حكاه في المشارق، وقيل لأنها كانت تطارق نطاقًا فوق نطاق تسترًا، وبه صدر في النهاية كلامه، وقيل كان لها نطاقان تلبس أحدهما، وتحمل في الآخر الزاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وهما في الغار، والذي قالته قبل ذلك أقرب إلى الضبط، والله أعلم (5).
الزوجة الصابرة:
كما تعتبر مثالًا للزوجة المؤمنة الصابرة؛ حيث تزوجت رضي الله عنها بالصحابي الجليل الزبير بن العوام، ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية، وهاجرت وهي حامل بابنها عبد الله، فولدته في المدينة المنورة، فكان أول مولود في الإسلام للمهاجرين بعد الهجرة، وبعد أن أشاع اليهود أن نسل المسلمين قد انقطع، وولدت له أيضًا عُروةَ، والمنذرَ، والمهاجرَ، وعاصمًا، وخديجةَ، وأم حسن، وعائشة.
وعاشت أسماء رضي الله عنها في بيت زوجها صابرة، تحملت شظف العيش وعبء الحياة الزوجية، فكانت تنقل النوى على رأسها لأرض زوجها، وتسقي الماء وسائر الأعباء الأخرى خارج المنزل وداخله، وحين شكت ذلك لأبيها الصديق رضي الله عنه قال لها: يا بنية اصبري، فإنّ المرأة إذا كان لها زوج صالح ثم مات عنها فلم تتزوج بعده جمع بينهما في الجنة (6).
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: تزوجني الزبير، وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء، وأخرز غربه وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: «إخ إخ» ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني (7).
انظروا إلى المرأة المسلمةِ العفيفةِ الكادحةِ الصابرةِ تقول: فاستحييت أن أسيرَ مع الرجال، حياءٌ، وعفافٌ، ومجانبةٌ للرجال، وتأملوا مراعاتها لحق زوجها ومراعاتها خاطرَه عندما قالت: وذكرت الزبير وغيرته وكان من أغيَّر الناس، وهذه صفةُ المؤمن الحق قال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن يغار والله أشدُ غيرًا» (8)، وقبح الله من لا يغار على نسائه ومَنْ تحت يده.
أخرج الطبراني، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: كنت مرة في أرض أقطعها النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سَلَمة، والزبير في أرض بني النضير، فخرج الزبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنا جار من اليهود، فذبح شاة فطُبخت، فوجدت ريحها فدخلني ما لم يدخلني من شيء قط، وأنا حامل بابنتي خديجة فلم أصبر، فانطلقت فدخلت على امرأة اليهودي أقتبس منها نارًا لعلها تطعمني، وما بي من حاجة إلى النار، فلما شمِمتُ الريح ورأيته ازددت شرهًا فأطفأته، ثم جئت ثانيًا أقتبس؛ ثم ثالثة؛ ثم قعدت أبكي وأدعو الله، فجاء زوج اليهودي فقال: أدخل عليكم أحد؟ قالت: العربية تقتبس نارًا قال: فلا آكل منها أبدًا أو ترسلي إليها منها، فأرسل إليَّ بقَدحة -يعني غَرْفة-، لم يكن شيء في الأرض أعجب إليَّ من تلك الأُكلة (9).
ورُغم فقر الزبير فقد كانت أسماءُ امرأةً سخيةَ النفس ذات جودٍ وكرمٍ، باذلةَ اليد، فكانت تقول لبناتها وأهلها: أنفقن وتصدقن ولا تنظرن الفضل، فإنكن إذا انتظرتن الفضل لم تفضلن شيئًا، وإن تصدقتن لم تجدن فقده (10).
وقال ابنها عبد الله رضي الله عنه: ما رأيت امرأةً أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلفٌ، أما عائشة رضي الله عنها فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها وضعته مواضعه، وأما أسماء فكانت لا تدَّخر شيئًا لغد (11).
وعن أسماء رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: مالي مال إلا ما أدخل على الزبير أفأتصدق؟، قال: «تصدَّقي ولا توعي فيوعى عليك» (12).
والإيعاء: جعل الشيء في الوعاء، وأصلُه الحفظ والإيعاء؛ أي: لا تمنعي ما في يدك، فتنقطعَ مادةُ بركةِ الرزق عنك، فإن مادة الرزق متصلةٌ باتصال النفقة، ومنقطعةٌ بانقطاعها (13).
قال النووي رحمه الله: معناه الحثُ على النفقةِ في الطاعةِ، والنهي عن الإمساك والبخل (14).
امرأة لا تملك شيئًا من المال سوى ما أدخل عليها زوجها، ومع ذلك بادرت بالسؤال عن جواز الصدقة من مال الزوج؟ فأجاز لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتصدق، ولا تحصي ما تصدَّقت به فيحصي الله عليها رزقها.
لقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء رضي الله عنها ولغيرها من النساء بابًا تدخل منه إلى سبيل أهل الصدقة، في الوقت الذي تحرص فيه المرأة العصرية على الادخار من مالها ومال زوجها شيئًا كبيرًا، تستعين به على زخارفها، وما يحلو لها من لهوٍ.
عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنتِ المنذر أن أسماءَ كانت تمرض المرضة، فتعتق كل مملوك لها (15).
إن جانب الصدقة قد ضعف عند كثير من النساء، ولعمر الله ذاك سبيل نجاتهن من النار، قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهلِ النار» (16).
المحدثة العابدة:
روت أسماء الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت من فقيهات نساء الصحابة، وحدث عنها عدد من الصحابة والتابعين، منهم حفيدها عبد الله بن عروة بن الزبير، فقال: قلت لجدتي أسماء: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا القرآن؟ قالت: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، كما نعتهم الله، قال: فإنّ ناسًا هاهنا إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشيًا عليه، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (17).
وكانت إذا صلت أطالت القيام والقراءة والتدبر، حتى تظل تكرر الآية مرارًا وتكرارًا من الخوف والوجل من الله عز وجل.
بعض المواقف من حياة ذات النطاقين مع الصحابة:
لما خرج الصديق مهاجرًا بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل معه ماله كله، ومقداره ستة آلاف درهم، ولم يترك لعياله شيئًا، فلما علم والده أبو قحافة برحيله -وكان ما يزال مشركًا- جاء إلى بيته وقال لأسماء (ذات النطاقين): والله إني لأراه قد فجعكم بماله بعد أن فجعكم بنفسه، فقالت له: كلا يا أبتِ إنه قد ترك لنا مالًا كثيرًا، ثم أخذت حصى ووضعته في الكوة التي كانوا يضعون فيها المال وألقت عليه بثوب، ثم أخذت بيد جدها -وكان مكفوف البصر- وقالت: يا أبت، انظر كم ترك لنا من المال.
فوضع يده عليه وقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا كله فقد أحسن، وقد أرادت بذلك أن تسكن نفس الشيخ، وألا تجعله يبذل لها شيئًا من ماله ذلك لأنها كانت تكره أن تجعل لمشرك عليها معروفًا حتى لو كان جدها (18).
وقد كانت أسماء عند حسن الظن بها، فرفضت أن تفعل شيئًا حتى تستأذنَ النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلمَ رأيهُ وحكمَه، وآثرتْ حكمَ الله عز وجل وحكمَ رسوله صلى الله عليه وسلم على حكم البشر، وأبت أن تخضعَ لعلاقةِ رحمٍ أو صلةِ قربى تخالفُ حكمَ الله عز وجل وحكمَ رسوله صلى الله عليه وسلم.
جاءت أم أسماء بنت أبي بكر لزيارة ابنتها فلم تسرع أسماء بصلة أمها حتى ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب فتواهُ في هذا الشأن، فقالت أسماء رضي الله عنها: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: «نعم صِلِي أمك» (19).
وعن ابنِ الزبير قال: نزلت هذه الآية في أسماء، وكانت أمها يقال لها قتيلة، جاءتها بهدايا فلم تقبلها حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] (20).
وعن ابن عيينة، عن منصور بن صفية، عن أمه، قالت: قيل لابن عمر: إن أسماء في ناحية المسجد -وذلك حين صلب ابن الزبير- فمال إليها، فقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله؛ فاتقي الله واصبري، فقالت: وما يمنعني، وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
وفي خلافة ابنها عبد الله أميرًا للمؤمنين جاءت فحدثته بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن الكعبة فقال: إن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق حدثتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة أم المؤمنين: «لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشًا حين بنت البيت استقصرت، ولجعلت لها خلفًا» (21).
فذهب عبد الله بن الزبير بعدها وأمر بحفر الأساس القديم، وجعل لها بابين، وضم حجر إسماعيل إليها، هكذا كانت تنصح ابنها ليعمل بأمر الله ورسوله.
وقبيل مصرع عبد الله بن الزبير بساعاتٍ دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر -وكانت عجوزًا قد كفَّ بصرها- فقال: السلام عليك يا أُمَّه ورحمة الله وبركاته، فقالت: وعليك السلام يا عبد الله، ما الذي أقدمك في هذه الساعة، والصخور التي تقذفها منجنيقات الحَجَّاج على جنودك في الحرم تهز دور مكة هزًا؟! قال: جئت لأستشيرك، قالت: تستشيرني... في ماذا؟! قال: لقد خذلني الناس وانحازوا عني رهبة من الحجاج أو رغبة بما عنده حتى أولادي وأهلي انفضوا عني، ولم يبق معي إلا نفر قليل من رجالي، وهم مهما عظم جلدهم فلن يصبروا إلا ساعة أو ساعتين، وأرسل بني أمية يفاوضونني على أن يعطونني ما شئت من الدنيا إذا ألقيت السلاح وبايعت عبد الملك بن مروان، فما ترين؟ فعلًا صوتها وقالت: الشأن شأنك يا عبد الله، وأنت أعلم بنفسك؛ فإن كنت تعتقد أنك على حق، وتدعو إلى حق، فاصبر كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك، وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت... أهلكت نفسك، وأهلكت رجالك.
قال: ولكني مقتول اليوم لا محالة، قالت: ذلك خير لك من أن تسلم نفسك للحجاج مختارًا، فيلعب برأسك غلمان بني أمية، قال: لست أخشى القتل، وإنما أخاف أن يمثِّلوا بي، قالت: ليس بعد القتل ما يخافه المرء، فالشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ، فأشرقت أسارير وجهه وقال: بوركتِ من أم، وبوركت مناقبك الجليلة؛ فأنا ما جئت إليك في هذه الساعة إلا لأسمع منك ما سمعت، والله يعلم أنني ما وهنت ولا ضعفت، وهو الشهيد علي أنني ما قمت بما قمت به حبًا بالدنيا وزينتها، وإنما غضبًا لله أن تستباح محارمه، وها أنا ذا ماض إلى ما تحبين، فإذا أنا قتلت فلا تحزني علي وسلمي أمرك لله قالت: إنما أحزن عليك لو قتلت في باطل.
قال: كوني على ثقة بأن ابنك لم يتعمد إتيان منكر قط، ولا عمل بفاحشة قط، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يكن شيء عنده آثر من رضى الله عز وجل، لا أقول ذلك تزكية لنفسي؛ فالله أعلم مني بي، وإنما قلته لأدخل العزاء على قلبك.
فقالت: الحمد لله الذي جعلك على ما يحب وأُحب.
ثم أردفت أسماء بنت أبي بكر قائلة لولدها عبد الله بن الزبير: اقترب مني يا بني لأتشمم رائحتك وألمس جسدك فقد يكون هذا آخر العهد بك (22).
فلما كان الغداة -التي قُتل فيها ابن لزبير- دخل ابن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وهي يومئذٍ إبنة مائة سنة لم يسقط لها سن ولم يفقد لها بصر، فقالت لابنها: يا عبد الله ما فعلت في حربك؟ قال: بلغوا مكان كذا وكذا، وضحك ابن الزبير رضي الله عنهما فقال: إِن في الموت لراحة، قالت: يا بني لعلَّك تتمنّاه لي؟ ما أحبّ أن أموت حتى آتي على أحد طرفيك، إمّا أن تملك فتَقَرّ بذلك عيني، وإما أن تقتل فأحتسبَك، قال: ثم ودَّعها، قالت له: يا بني إياك أن تُعطي خصلة من دينك مخافة القتل (23).
يقول ابن عيينة: حدثنا أبو المحياة، عن أمه، قال: لما قَتَلَ الحجاجُ ابنَ الزبير دَخَلَ على أسماء وقال لها: يا أمه، إن أمير المؤمنين وصاني بك، فهل لك من حاجة؟ قالت: لست لك بأم، ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة؛ ولكن أحدثك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج في ثقيف كذاب، ومبير، فأما الكذاب، فقد رأيناه -تعني المختار- وأما المبير، فأنت، فقال لها: مبير المنافقين (24).
وأخرجه الطبراني في الكبير عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنه لما قتل ابن الزبير رضي الله عنهما كان عندها شيء أعطاها إياه النبي صلى الله عليه وسلم في سفَط ففقدته، فأخذت تطلبه، فلما وجدته خرّت ساجدة (25).
كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تؤتى بالمرأة الموعوكة فتدعو بالماء فتصبه في جيبها وتقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أبردوها بالماء، فإنها من فيح جهنم» (26).
وأخرج ابن سعد عن هشام بن عروة، أن المنذر ابن الزبير قدم من العراق، فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بكسوة من ثياب مَرْويَّة وقوهيَّة رِقاق عِتاق بعدما كُف بصرها، قال: فلمستها بيدها ثم قال: أف ردُّوا عليه كسوته قال: فشقَّ ذلك عليه وقال: يا أمه، إنه لا يُشِف، قالت: إنها إن لم تشف فإنها تَصِف، قال: فاشترى لها ثيابًا مرويَّة وقوهيَّة، فقبلتها، وقالت: مثل هذا فاكسُني (27).
عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها قالت: أي بني، هل غاب القمر ليلة جمع؟ وهي تصلي، ونزلت عند المزدلفة، قال: قلت: لا فصلت ساعة، ثم قالت: أي بني، هل غاب القمر؟ أو قد غاب، فقلت: نعم، قالت: فارتحلوا إذًا، فارتحلنا بها حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزله، فقلت له: أي هنتاه لقد غلستنا، قالت: كلا يا بني، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن (28).
ويروي عن هشام بن عروة عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها كانت تلبس الثياب المعصفرات وهي محرمة، ليس فيهن زعفران (29).
وعن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: ما رأيت أسماء لبست إلا المعصفر، حتى لقيت الله، وإن كانت لتلبس الثوب يقوم قيامًا من العصفر (30).
***
___________________
(1) كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (6/ 520).
(2) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (69/ 6).
(3) أخرجه مسلم (2545).
(4) أخرجه البخاري (2979).
(5) طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 276).
(6) أخرجه ابن عساكر في تاريخه (19/ 193).
(7) أخرجه البخاري (5224).
(8) أخرجه مسلم (2761).
(9) الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 104).
(10) المطالب العالية (5/ 617).
(11) الأدب المفرد (ص: 106).
(12) أخرجه البخاري (2590).
(13) شرح السنة للبغوي (6/ 153).
(14) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 284).
(15) سير أعلام النبلاء (2/ 292).
(16) أخرجه البخاري (304)، ومسلم (79).
(17) شعب الإيمان (3/ 417).
(18) صور من حياة الصحابيات (ص: 52).
(19) أخرجه البخاري (2620).
(20) سير أعلام النبلاء (2/ 291).
(21) أخرجه مسلم (1333).
(22) صور من حياة الصحابيات (ص: 57).
(23) المعجم الكبير للطبراني (13/ 94).
(24) تاريخ دمشق (ص: 23).
(25) حياة الصحابة (3/ 396).
(26) أخرجه مسلم (2211).
(27) حياة الصحابة (3/ 544).
(28) شرح معاني الآثار (2/ 216).
(29) شرح معاني الآثار (4/ 250).
(30) إتحاف المهرة لابن حجر (16/ 828).