دور الأسرة في بناء القيم
إن القيم الخلقية تعد أحد الركائز الرئيسة في البناء الإنساني؛ ذلك أنها تتناول جميع مظاهر السلوك الفردي والاجتماعي، فهي تضبط الفرد وتوجه سلوكه إلى ما يعود عليه بالخير، وتحفزه إلى الترقي في مراتب الكمال، والسعي الجاد إلى معالي الأمور ومحاسن الأعمال، وهي ضرورة اجتماعية، تضمن للناس التعايش في أمن واستقرار، وتكاتف وتعاون.
والقيم الخلقية في الإسلام ركيزة من ركائز الدعوة، فعن طريق التعامل الخلقي القويم فتح الله لهذا الدين قلوبًا غلفًا، وأعينًا عميًا، وأسماعًا صمًا، كما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
ونحن نربي أبناءنا تعبدًا لله تعالى بأداء حقه هذا علينا؛ فالانشغال بتربية الابن عبادة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، قال الإمام الغزالي: «فالصبي أمانة عند والديه، فإن عُوِّد الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له»، فالتقصير في تربية الابن إذًا وزر وإساءة وتقصير في حق الله وحق الابن(1).
سبل الأعداء في محاربة القيم الخلقية:
ولقد أدرك أعداء الإسلام أهمية الأخلاق وأثرها في توجيه حياة المسلمين، وتقوية أواصر المحبة والألفة بينهم، فعملوا، بما أوتوا من قوة وبما تهيأ لهم من وسائل، على إفسادها وهدمها، وسلكوا لذلك طرقًا، أهمها :
1- العمل على قطع صلة القيم الخلقية بالمصادر الأصلية، بإظهار الإعجاب بالأفكار الفلسفية، وتعظيم من تبناها من المفكرين، وتشويه أو جحود الدراسات الأصيلة القائمة على الكتاب والسنة، وغمط أهلها.
2- السعي في تيسير الشهوات المحرمة، التي تضعف صلة المسلم بربه، وتفت في إيمانه بالله ويقينه بالدار الآخرة، فلا ينشط لفضيلة، ولا يرغب في إحسان.
ولقد استجد في المجتمعات الإسلامية اليوم، نتيجة عوامل داخلية وأخرى خارجية، تبدل في المفاهيم، وضياع للموازين، وانقلاب للقيم، حتى أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، فكان من نتيجة ذلك أن انغمس كثير من الناس في الشهوات المحرمة، وانحرفوا عن جادة الصواب، مع عدم الشعور بالذنب أو الرغبة في الإصلاح، يحدوهم الجهل بمصادر التلقي وصحيح الاقتداء؛ فتفرقت بالناس الأهواء، وتشتتت بهم السبل، ويمموا وجوههم شرقًا وغربًا، سيرًا مع الركب، وخوفًا من الانتقاد، وجبنًا عن المواجهة؛ لذا صارت الحاجة ملحة لإبراز القيم الخلقية في الإسلام، وبيان مصادرها الأصلية، وخصائصها المميزة، وأمثلتها الحية، وآثارها الجلية في النظم الإسلامية(2).
دور القيم في حياة المسلم:
وللقيم فوائد جمة، فهي التي تشكل شخصية المسلم المتزنة، وتوحد ذاته، وتقوي إرادته، والذي لا تهذبه القيم متذبذب الأخلاق، مشتت النفس، ينتابه الكثير من الصراعات، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22].
والقيم تحفظ الأمن، وتقي من الشرور في المجتمع؛ لأن تأثيرها أعظم من تأثير القوانين والعقوبات، فالقيم المتأصلة في النفس تكون أكثر قدرةً على منع الأخطاء من العقوبة والقانون.
وأصحاب القيم يؤدون أعمالهم بفعالية وإتقان، وسوء سلوك القائمين على العمل راجع إلى افتقادهم لقيم الإيمان والإخلاص والشعور بالواجب والمسئولية.
والقيم تجعل للإنسان قيمةً ومنزلة، ولحياته طعمًا، وتزداد ثقة الناس به، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
فعندما تنشأ القيم مع الفرد من إيمانه وعقيدته وخشيته لله ينمو مع نمو جسده فكر نقي وخلق قويم وسلوك سوي، وتغدو القيم ثابتةً في نفسه، راسخةً في فؤاده، لا تتبدل بتبدل المصالح والأهواء، كما هو في المجتمعات المادية، ويصغر ما عداها من القيم الأرضية الدنيوية، قال تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71].
ومن القيم بر الوالدين، الإنفاق، الصدق، الوفاء، إعمار الأرض، استثمار الوقت، إتقان العمل، الإنصاف، الشعور بالمسئولية، أداء الفرائض، الامتناع عن المحرمات.
ومن قيم الإسلام الخالدة الصبر، حب الخير، جهاد النفس والهوى والشهوة.
ومن القيم الحياء، العفة، الاستقامة، الفضيلة، الحجاب.
ولكن ما أهمية القيم في حياة أبنائنا؟
- تحدد للأبناء أساليب التعامل والتواصل وقواعد الاتفاق والاختلاف بين الناس.
- يستطيع الأبناء التكيف مع البيئة التي يعيشون فيها.
- تساعدهم على زيادة التفاعل بينهم وبين ما يريدون تحقيقه.
- تعد عاملًا مهمًا في ربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض، وتوحيد وجهتهم.
- تسمو بالأبناء فوق الماديات الحسية.
- تعد باعثة ومحفزة للأبناء على العمل.
- لها دلالة على المجتمع وتقدمه.
ولقد كانت هذه القيم وغيرها مغروسةً في أجيال السلف الصالح قولًا حكيمًا وفعلًا ممارسًا من حياته صلى الله عليه وسلم، التي كانت مصابيح تربوية في ليله ونهاره وصبحه ومسائه، أضاءت سيرته الطريق لأجيال الصحابة، فتشربوا القيم الخالدة، حتى غدت نفوسهم زكيةً وعقولهم نيرة، وغيروا بذلك الدنيا، وأصلحوا الحياة، لم يعرف الخلق منذ النشأة الأولى مجتمعًا تجلت فيه القيم بأسمى معانيها مثل المجتمعات الإسلامية.
وقد رسخت الدعوة الإسلامية القيم، انتشرت بالقيم، تغلغلت في النفوس بما تحمل من قيم، شملت مختلف جوانب الحياة؛ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية، منظومة متكاملة لا يمكن فصلها.
وتُظهِر الأيام عظمة القيم في الإسلام، فهذه الأمم اليوم تترنح، ويتوالى الانهيار منذ فجر التاريخ، تنهار الأمم لضمور المبادئ وهشاشة القيم التي أقيمت عليها، وتقف أمة الإسلام شامخةً بإسلامها، قويةً بإيمانها، عزيزةً بمبادئها؛ لأنها أمة القيم والمثل والأخلاق.
وانهيار الأمم والحضارات المادية دليل على أن قيمها ومثلها ضعيفة نفعية؛ بل هي مفلسة في عالم القيم، كيف لا وهي من صنع البشر؟! كم من القتلى! كم من الجرحى! كم من التدمير يمارس اليوم باسم الحرية والحفاظ على المصالح!
والقيم تدفع المسلم، وإن كان في ضائقة مالية، إلى إغاثة الملهوف وإطعام الجائع، وتجد المسلم المؤمن يمتنع عن الرشوة والسرقة، والمرأة تحافظ على كرامتها، وتصون عفتها، وتنأى بنفسها عن مواطن الفتنة والشبهة، ولا تستجيب للدعاوى المغرضة والمضللة؛ ذلك أن الإيمان هو النبع الفياض الذي يرسخ القيم، وتُبنى به المجتمعات، ويوفر لها الصلاح والفلاح والأمن والتنمية.
أي عمل اجتماعي أو اقتصادي، لحل مشكلات المجتمع، يهتم بالقيم المادية ويتجاهل القيم الإيمانية فإنه يسلك طريق الضعف، ويقذف بالجيل إلى حياة الفوضى والعبث، ويقتل فيه روح المسئولية والفضيلة.
وما أصاب المسلمين اليوم من قصور ليس مرجعه قيم الإسلام ومبادئه ومقاصده وغاياته، وإنما سببه الفرق بين العلم والعمل، والفصل بين العقيدة والمبادئ والقيم، واللحاق بركب الحضارة لا يكون على حساب الثوابت، إن ثوابتنا وقيمنا، نحن المسلمين، هي سبب عزنا، وهي سبب تقدمنا، ويجب أن يعرف كل فرد في الأمة، التي تريد النهوض إلى المجد، أن العقيدة هي التي تبني القوى، وتبعث العزائم، وتضيء الطريق للسالكين.
لقد تعرضت القيم الإيمانية على امتداد التاريخ لموجات متتالية من العبث، وتيار جارف من الانهيار، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
ويتقوى المجتمع بتحصين القيم من ضرر يصيبها أو تيار جارف يهدمها، وذلك بتأسيس الجيل منذ نشأته على القيم، وإبراز القدوات الصالحة للأجيال المؤمنة، والله تعالى يبين لنا نماذج من القدوة الصالحة التي يجب أن تقدم للأجيال حتى يتخلقوا بأخلاقها، ويسيروا على نهجها، أجلّ القدوات رسولنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21].
ولم يحفل تاريخ بخيرة الناس وعظمائهم، الذين زكى الله نفوسهم وطهر قلوبهم، مثلما حفل به تأريخنا الإسلامي، فلِم تعمى الأبصار عنهم؟! {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
وأخطر ما يهدد القيم ويزعزع بنيانها القدوات السيئة، المزيَّنة بالألقاب، من الوضيعين والوضيعات، الذين يفتقد الواحد منهم إلى التحلي بأبجديات الآداب والأخلاق الإسلامية، هذه القدوات السيئة تعمل على خلخلة القيم، وتشكل نفوسًا فارغة من القيم، سابحةً في الضيق، كما تروج له القنوات الفضائية من عري فاضح، وسلوك منحط، وتحلل خاطئ، يحطم القيم ويدمر الأخلاق، ودعوة صريحة لنبذ الفضيلة، {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25].
وتذبل القيم وتتوارى في المجتمع إذا ضعف التدين في الفرد والمجتمع، فعقوق الوالدين، والكذب، والغش، وتضييع الأوقات، والاختلاط، وخروج المرأة عن سياج الحشمة والعفاف، والانكباب على الدنيا، وغير ذلك أثر ضعف التدين ووهن علاقة الناس بربهم؛ لأنهم يفقدون الطاقة الإيمانية والشعور بالجزاء الأخروي، فأزمة الأمة اليوم أزمة قيم إيمانية، لا قيم مادية، وقد سجلت الأمة، في فترات رسوخ الدين وعلو الإسلام، مبادرات من الأعمال الخيرة والسلوك الرشيد، أثارت الإعجاب وأدهشت المنصفين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17](3).
إن الطفل، في بداية حياته المعرفية، بحاجة إلى أن يتعلم مُثلًا وقيمًا أخلاقية أساسية، لحياته الفردية والاجتماعية مستقبلًا، كما هو بحاجة إلى اللعب والترفيه؛ حتى لا يقع فريسة الضياع والاستهتار، ويعيش سعيدًا مستقرًا، ولقد أثبتت الدراسات الإنسانية أن السعادة والاستقرار والنجاح الفردي، وحتى الجماعي، يرتبط بالسلوك الذي تحكمه القيم الأخلاقية، فهناك علاقة أبدية بين الأخلاق والسمو والارتقاء وبين الانهيار والتدني الأخلاقي، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16].
والأسرة هي المؤسسة التربوية الأولى، المسئولة عن تنشئة الأفراد على احترام القيم السائدة فيها، واحترام الأنظمة الاجتماعية ومعايير السلوك، والحفاظ على حقوق الآخرين، ونبذ السلوكيات الخاطئة.
ولا يخفى على أحد أن موضوع الأسرة من القضايا العالمية التي زاد الحديث عنها مؤخرًا، على مستوى الدول والهيئات والمنظمات الدولية، وكل منها يحاول إيجاد صبغة جديدة مبتكرة للأسرة، بعضها دعا إلى نبذ الأسر التقليدية وتطوير بنائها، والآخر دعا إلى تحريرها من القيود القانونية، وإطلاق العنان لكل شراكة، حتى وإن قامت على علاقة شاذة محرمة، واعتبارها، مجازًا، نمطًا جديدًا من الأسر، وبالمقابل يظهر المنهج الإسلامي المتوازن لتكوين الأسرة ورعايتها والحفاظ على أفرادها، هذا مع التأكيد على أن الأسرة هي أهم مؤسسة تربوية لتعليم النشء، وهي الحاضنة الأولى لتعزيز القيم الأخلاقية.
فالأسرة هي رابطة اجتماعية، تتكون من زوج وزوجة وأطفالهما، وتشمل الجدود والأحفاد وبعض الأقارب، على أن يكونوا مشتركين في معيشة واحدة، ويتم فيها تنشئة الفرد اجتماعيًا، واكتساب معارفه ومهاراته واتجاهاته في الحياة.
منهج الأسرة في الإسلام:
يعتبر نظام الأسرة في الإسلام من أهم الأنظمة الاجتماعية، الذي ما زال محافظًا على تماسكه، بفضل تعاليم الإسلام السمحة، الصادرة عن العقيدة الصحيحة المنسجمة مع الفطرة السليمة، وما نراه من تردي أخلاق بعض الأمم ليس إلا بسبب ضبابية مفهوم الأسرة لديها وعدم تماسكها.
وعندما جاء الإسلام لم يكن للأسرة كيان واضح أو أسس متينة من الزواج الصحيح، ليس للأنثى فيها، مهما كان موقعها، مكانةً أو حظًا من العيش الكريم؛ توأد البنت، وتظلم الزوجة، وتقهر الأم، وتصادر حقوق الأخت، فوضع الإسلام منهجًا للأسرة يقوم على ميثاق غليظ لا يخضع للأهواء، بيَّن فيه حقوق وواجبات جميع أفرادها، وحث على الترابط الأسري وحسن المعاشرة، وألزمها بوظائف عدة جعلها جزءًا من العبادة، يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، وما كانت هذه الوظائف إلا لتوفير الجو الملائم لتنشئة الأفراد على منظومة عالية من القيم المستمدة من الأخلاق الإسلامية.
فالأسرة المتماسكة تؤدي غرضها الشرعي والاجتماعي؛ ذلك أن الأمومة والأبوة ليست واجبًا فحسب، وليست كذلك وظيفةً آلية؛ وإنما هي علاقة إنسانية حميمة، تحيط بالفرد لينشأ متوازنًا، توفر الراحة والسعادة لكل من انطوى تحتها(4).
وتتجلى هذه الوظائف فيما يلي:
1- وظيفة التنظيم الجنسي {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]، وعن علقمة قال: «كنت مع عبد الله، فلقيه عثمان بمنى، فقال: (يا أبا عبد الرحمن، إن لي إليك حاجة)، فَخَلَوا، فقال عثمان: (هل لك يا أبا عبد الرحمن في أن نزوجك بكرًا، تذكرك ما كنت تعهد؟)، فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة إلى هذا أشار إليَّ، فقال: (يا علقمة)، فانتهيت إليه وهو يقول: أما لئن قلت ذلك، لقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)»، ولذلك دار حكم الزواج مع الأحكام الفقهية الخمسة(5).
2- وظيفة التناسل والإنجاب.
3- وظيفة الحماية والوقاية من الأمراض والانحلال الخلقي.
4- الوظيفة العاطفية والروحية والسكينة.
5- الوظيفة الاقتصادية.
6- الوظيفة التربوية والتنشئة الاجتماعية، والتي تعتبر أهم وظائف الأسرة، وتتمثل بالتربية الجسدية والنفسية والاجتماعية والخلقية والدينية والترفيهية.
وأول مبادئ هذه التربية تربية الأبناء على الالتزام بالمبادئ الدينية، والتأدب بمكارم الأخلاق، وهذا الأمر أمانة يشترك بها الوالدان بمساعدة كافة أفراد الأسرة، كل حسب موقعه؛ إذ يكتسب عن طريق الأسرة ما يؤهله لممارسة حياته المستقبلية، وتتأثر هذه العملية التربوية بالجو الأسري، وما يسوده من تعاون واستقرار أو تشاحن واضطراب، وكلما قامت العلاقة على المحبة والتفاهم كانت التنشئة سليمة وصحيحة، وكلما كانت الأسرة متماسكة ومتمسكة بقيم دينها انعكس ذلك على تربية الأبناء، وتمسكهم بالقيم والمنظومة الأخلاقية.
وبالمحصلة، فإن تربية الأبناء على المنظومة القيمية فرض عين على الوالدين، تأتي ضمن الأمانة التي حملها الإنسان بقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].
تعزيز منظومة القيم:
تتشكل منظومة القيم من القيم الإيمانية والقيم الأخلاقية، التي تعد اللبنات الأساسية في حياة الأسرة والأفراد، فالقيم الإيمانية هي المبادئ والأحكام والأصول الثابتة المستمدة من العقيدة، وتمثل الدستور الذي يحكم علاقة الفرد بربه، وهي من الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، والتي يجب أن يربى عليها الفرد، وتظل معه طوال حياته.
أما القيم الأخلاقية فهي السجية والعادات الفطرية والمكتسبة، التي تصدر عنها أفعال الإنسان في علاقته مع الناس، وتستمد من القيم الإيمانية، أما عن السن المناسبة لغرس هذه القيم فقد أجمعت الدراسات التربوية، التي أخضعت مراحل عمر الإنسان للدراسة، قابليته للتربية في مرحلة الطفولة المبكرة والمتأخرة، وقال بعضها أنها قبل ذلك وهو جنين؛ إذ بها تكون لدى الطفل قابلية التعلم والتقليد، ومنها تتكون شخصيته المستقبلية(6).
ولذلك فقد اهتم الإسلام بالتربية على النهج السليم، ورتب على الوالدين مسئوليةً كبرى في هذا التعليم، وعزز ذلك من خلال:
1- القدوة الصالحة: بأن يجعل الآباء من أنفسهم قدوة صالحة بامتثال ما يعلمان، فالأخلاق لا تكتسب بالنصائح العابرة؛ بل بالقدوة والمثل الأعلى، فهناك قدر كبير من سلوك الأطفال يكتسب عن هذا الطريق، ملاحظة النموذج أو القدوة، وما يؤيد ذلك سلسلة التجارب والبحوث التي دارت حول السلوك العدواني لدى الأطفال، حيث تبين أن السلوك العدواني يظهر لدى الأطفال الذين يظهر كلا والديهم، أو أحدهما، سلوكًا عدوانيًا أمام الطفل، فيقوم الطفل بتقليد تلك الاستجابات العدوانية مع الآخرين.
وقد يشاهد الطفل نموذجًا لشخصية عدوانية في التلفزيون فيقوم بتقليد ذلك النموذج، وبالعكس إذا شاهد الطفل نموذجًا متسامحًا محبًا فيقلد سلوك الحب والتسامح، على أن تحظى تلك الشخصية بملاحظة الطفل، وعلى تقبلها واستيعابها كأنموذج أو قدوة.
2- التقليد: يكتسب الطفل الكثير من القيم والسلوك المعبر عن تلك القيم من خلال التقليد، والتقليد آلية مهمة في نمو الطفل ونضجه، فعن طريق تقليد الحركات الصحيحة يتعلم الطفل المشي، ويكتسب المهارات اللغوية، والمعارف والسلوكيات الاجتماعية المقبولة، وسلوكيات النمط الجنسي الذي ينتمي إليه، والعادات الصحية السليمة وغيرها.
ويمارس الطفل تقليد أفعال الآخرين منذ الأشهر الأولى، وهو يعتمد في البدء على الملاحظة المباشرة للفعل، ثم يتطور تقليده للفعل من خلال احتفاظه بصورة ذهنية للفعل، يسترجعها في وقت لاحق، فنرى الطفل وقد بدأ في محاولات تقليد حركات الآخرين أو وضعيات جلوسهم في أفعال لا تخلو من الطرافة، فالطفل حينما ينجح في تقليد فعل ما فإنه يشعر بمتعة كبيرة؛ لأن هذا الفعل أصبح له، ومن الآن فصاعدًا يستطيع استخدامه متى يشاء، ولا شك أن كل مهارة يكتسبها الطفل تمكنه من التكيف السليم مع المحيط، وتزيد من شعوره بإمكانية السيطرة على البيئة.
3- الثواب والعقاب: يستخدم الثواب والعقاب، كآلية لترسيخ القيم أو إحلال قيم جديدة محل قيم أخرى غير مرغوب بها، على نطاق واسع من قبل الآباء والمربين، فيكافئ الوالدان طفلهما حينما يقوم بالسلوك المرغوب فيه؛ كأداء الأمانة، أو التعاون مع الأصدقاء، أو المشاركة في بعض الأعمال المنزلية، وقد يلجأ الآباء إلى معاقبتهم إذا لم يفعلوا ذلك.
وترى نظريات التعلم، وعلى الخصوص النظريات السلوكية، بأن الثواب والعقاب لا يقتصر أثرهما على الاستجابات المعززة أو المعاقبة عليها فحسب؛ بل إن أثرها يشمل الشخصية ككل، فتتكون السمات العامة والاتجاهات والقيم.
ويؤكد المنهج التربوي الإسلامي على ضرورة التوازن بين الثواب والعقاب في تربية الطفل؛ حيث أكدت الروايات الكثيرة على الاعتدال في التعامل مع الطفل، فلا إفراط ولا تفريط.
ويعتبر المنهج التربوي الإسلامي أن العقوبة العاطفية هي عقوبة مؤثرة وفاعلة، ومن الممكن أن تؤدي إلى تغيير السلوك الخاطئ للطفل، فإقناع الطفل بأن سلوكه السلوك الخاطئ سوف يؤدي إلى فقدانه لهذا الحب، وإلى إضعاف تلك المحبة والمقبولة التي يحوزها من والديه؛ ومن ثم يمكن أن يأتي دور التأنيب والزجر.
4- التدريب المستمر والصبر وبذل الجهد.
5- رعاية الأبناء وإحاطتهم بالحب والحنان، فالحب شرط أساسي في التربية، ولقد أوصى بعض التربويين بأن أهم العوامل التي تساعد الطفل على الطاعة والالتزام بالقيم هو الحب والحنان، الذي يشعر الطفل بقيمته وكيانه، وبأنه فرد هام في الأسرة؛ بل إن هذا الحب هو ما يساعده على استيعاب القيم.
6- توفير المناخ والجو الملائم للنمو الأخلاقي، من خلال قيام الوالدين بمسئوليتهما في التربية، التي تتجلى بالمسئولية الأخلاقية والجسمية والنفسية والعقلية والاجتماعية والجنسية.
7- التحدث عن القيم من خلال طبيعة الحياة التي عاشها الوالدان عندما كانوا أطفالًا، فيتناقش الوالدان معهم في الصعوبات والنجاحات التي حققوها في حياتهم.
8- استغلال النشاطات اليومية:
اقرأ لأطفالك الكتب التي تناقش القيم والأخلاق، عن طريق قصص مشوقة، أو قدِّم لهم كتبًا تعلمهم القيم التي تحاول غرسها فيهم.
9- تشجيع الطفل على خوض التحديات، التحديات جزء لا يتجزأ من الحياة، يمكن أن يؤدي تشجيع الطفل إلى خوض تحديات مفيدة؛ مثل زراعة حديقة مع أطفالك؛ حتى يتعلموا قيمة الحفاظ على الزرع وعدم تقطيعه.
10- المناقشة وتجنب أسلوب النصيحة الصريحة:
معظم الأشخاص، وخاصة الأطفال، يكونون أكثر تقبلًا للمعلومات التي يتم مشاركتها خلال النقاش، عوضًا عن المعلومات التي توجه إليهم بصيغة الأمر(7).
ومما يؤسف له اهتمام الإعلام، بكافة أنواعه، بنماذج وأنماط تربوية سلوكية بعيدة عن ثقافة مجتمعاتنا ومنهجها القويم، واعتمدت ثقافات مستوردة تبعث على العنف والتفلت والاسترخاء والاعتماد على الغير؛ مما يعني نذير خطر على الأجيال القادمة، فلقد اهتزت أركان الأمة بغياب منظومة القيم، ووهنت كافة مؤسساتها، وعانى الكثير من اختلاط الأوراق، وظهرت أنواع من الفساد في كل مكان، ووقع أبناؤنا فريسة إما للعنف والتشدد أو للتسيب والإباحية.
المبادئ الأساسية في الأخلاق:
ومن أهم المبادئ الأساسية في الأخلاق، التي ينبغي تسليط الضوء عليها، وتعليمها للأطفال وتعويدهم عليها، هي:
الاحترام:
يعد الاحترام من أهم الخصال التي ينبغي على الآباء تعليمها لأبنائهم؛ لأنها سر نجاح أي علاقة في الحياة، بحيث يقدم الآباء لأنفسهم وللمجتمع ولأطفالهم خدمة تصب في المصلحة العامة، بحيث تحثهم على التعامل بكل احترام، مع مختلف الفئات والبيئات.
الطاعة:
تعتبر من الأمور التي لا تأتي بشكل طبيعي، فهي صفة مكتسبة، بحيث يرغب الأشخاص بطبعهم إلى التمرد، وكسر القوانين والقواعد في أغلب الأحيان، فلا أحد يحب أن يتم تقييده أو إلزامه بأمور لا يرغب بها؛ لذلك يجب على الآباء تربية أطفالهم بحزم، أو الترغيب في حال كانوا مطيعين، وكان سلوكهم إيجابيًا.
الأدب:
ينبغي على الآباء القيام بتذكير أبناءهم بضرورة التصرف بلباقة وأدب في كل مواقف الحياة، كطريقة لتهذيب أنفسهم، وترسيخ هذه القيم في أذهانهم لتصبح جزءًا لا يتجزأ من شخصيتهم؛ كاستعمال بعض الكلمات التي تدل على ذلك؛ مثل: شكرًا، ومن فضلك.
المسئولية:
يمكن تعليم الأطفال المسئولية في سن مبكر، وذلك عن طريق إعطائهم أعمالًا سهلة يمكن القيام بها؛ كالتقاط ألعابهم من الأرض، أو وضع ملابسهم النظيفة في مكانها الصحيح، أو تنظيف أسنانهم، كل ذلك يغرس في أنفسهم الانضباط وحب المسئولية.
التواضع:
يعد التواضع من أهم جوانب الحياة التي ينبغي للآباء التركيز عليها، وتنميتها في نفوس أطفالهم؛ من أجل إبعادهم عن الشعور بالفخر والتباهي في كل مواضع حياتهم، خاصة إذا أخطئوا بحق أحدهم، فإنه من التواضع المبادرة بالاعتذار والتأسف، وهذا ما يجب على الآباء تعليمه لأطفالهم.
الصداقة:
لا بد من تشجيع الود والانخراط الاجتماعي بين الأطفال، مع ضرورة مراقبتهم وتوجيههم لمخاطر التحدث مع الغرباء، وفتح المجال أمامهم لتكوين صداقات جيدة، مبنية على الثقة، تساعدهم في صقل شخصياتهم مستقبلًا.
الصدق:
كما يقال دائمًا الصدق منجاة من الكذب؛ لذلك لا بد من تعليم هذه الخصلة وصقلها في شخصية الطفل منذ الصغر؛ لتنشئتهم تنشئة سليمة بعيدة عن الغش والخداع.
وأخيرًا، لا بد من التنبيه إلى أهم الأخطاء التي تقع فيها الكثير من الأسر:
1- الشدة والصرامة، خلافًا للحزم.
2- الدلال الزائد والتسامح الدائم، خلافًا للرحمة، قال عليه الصلاة والسلام: «ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا»(8).
3- التذبذب في التربية، وعدم الثبات في المعاملة؛ فيقع الطفل بصعوبة التفريق بين الصواب والخطأ.
4- عدم العدل بين الإخوة والتمييز بينهم؛ مما يجعل الطفل فريسة السلوك الخاطئ بهدف الانتقام والانتصار للذات، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»(9).
5- الغفلة عن الأبناء، وعدم متابعتهم في ترسيخ المنظومة القيمية، والانشغال عنهم؛ مما يؤدي إلى انهيار المنظومة القيمية(10).
وعليه، فإن إعادة بناء منظومة القيم وتعزيزها لن يتحقق بعقد الندوات واللقاءات والمؤتمرات فقط؛ فلا بد من إرادة حقيقية من الجميع، وتضافر جهود الأسرة والمدرسة والمسجد والإعلام وجميع المؤسسات التربوية، وأؤكد على دور الأسرة المستمر والمتواصل، فإذا صح حال الأسرة صح حال المجتمع بأسره.
***
_________________
(1) إحياء علوم الدين (8/ 130-131).
(2) سلسلة القيم الخلقية في ضوء السنة النبوية، عبد الله بن محمد العمرو.
(3) أهمية القيم في بناء الأفراد والأمم، موقع: المنبر.
(4) دور الأسرة في تعزيز منظومة القيم، المنتدى العالمي للوسطية.
(5) أخرجه البخاري (5065).
(6) دور الأسرة في تعزيز منظومة القيم، المنتدى العالمي للوسطية.
(7) ترسيخ القيم عند الطفل، مجلة النبأ (العدد:77).
(8) أخرجه الترمذي (1919).
(9) إرواء الغليل (1598).
(10) دور الأسرة في تعزيز منظومة القيم، المنتدى العالمي للوسطية.