أثر التربية في الصغر
يمر الإنسان، ذكرًا كان أو أنثى، بمرحلة مهمة دائمًا من مراحل حياته، فهو يتذكرها دائمًا، وفي غالب الأحيان تنبنى عليها حياته التالية، وهي مرحلة تتميز بالتعب والشقاء والإرهاق، وتسمى "المراهقة" وكأن هذا الاسم يدل على كم كبير من التعب والإرهاق يمر به الإنسان، وكذلك يمر به الوالد والوالدة؛ وذلك لما يبذلانه من جهد جهيد مع هذا المراهق حتى يساعدانه على تجاوز هذه المرحلة المهمة من حياته.
والغلام المراهق الذي يمر بتغيرات فسيولوجية في جسده، تجعله يفكر في نفسه وفي تلك التغيرات، وفي نفس الوقت يشعر من نفسه بأنه قد اكتملت رجولته، إن كان ذكرًا، وتشعر الأنثى بأنها أصبحت مكتملة الأنوثة، وهذا التفكير في حد ذاته إرهاق وتعب؛ ذلك لأن المراهق حينها سيشعر أنه يملك أمر نفسه بعض الشيء، وأنه يستطيع اتخاذ القرارات من تلقاء نفسه، ويستطيع التفكير والمضي وحده في هذه الحياة، فهو قد أصبح إنسانًا ناضجًا في نظر نفسه.
وبالتالي نرى المراهقين على نوعين: نوع شرد وبَعُد عن أخلاقه وعن عقيدة دينه، وأصبح يحب صحبة السوء، ويهوى تجربة الأشياء السيئة، وتطوق نفسه إلى سفاسف الأمور وأقبحها، وهذا لا شك قد يضيع كثير من مستقبله؛ بل قد يصبح بعد ذلك ثقلًا على والديه، وغالبًا ما يكون كذلك.
وهناك نوع من المراهقين تنازعه نفسه على تلك الشهوات والأفعال السيئة، وصحبة السوء، وغير ذلك، إلا أنه قد ينساق حينًا وحينًا يعود، ثم بعد ذلك يستمر هذا النزاع النفسي داخله، فيسقط حينًا وأحيانًا كثيرة يلجأ إلى ربه، ويحتمي بحماه، ويصاحب أهل الخير الذين يملئون وقت فراغه، ويدلونه على الخير والطاعات، وهذا لا شك سيوفقه الله عز وجل في حياته إن استمر مع هذه الصحبة الطيبة، وبَعُد عن صحبة السوء والأخلاق السيئة.
وهنا يأتي سؤال مهم، لماذا المراهق الأول شرد وبَعُد والآخر نجا وأفلح؟
والإجابة على هذا السؤال ترجع إلى الوالدين، فالمراهق الأول تهاون معه والداه، وفي تربيته وتغذيته بالأخلاق الإسلامية، ومبادئ العقيدة الإسلامية، ولم يبينا له ما يجوز وما لا يجوز، وما يليق وما لا يليق، وكان الوالدان دائما التسويف مع هذا المراهق، ولسان حالهم ومقالهم: "دعوا الطفل يعيش أيامه، حينما يكبر سيعلم الخطأ من الصواب"، "لا أريد أن يخرج الولد مكتئبًا من كثرة الأوامر والتكليفات، وافعل هذا ولا تفعل هذا"، وغير ذلك من الأقوال التي أودت بمستقبل كثير من الشبان والشابات، وبالتالي عندما دخل المراهق في هذه المرحلة المهمة لم يكن لديه من الضوابط ما يمنع شروده عن الأخلاق ونفوره عن القيم والإسلامية.
أما المراهق الآخر فإن والديه قد اعتنيا به، واهتما بتعليمه أخلاق هذا الدين العظيم، وعلماه سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان دائمًا ما يحوطانه في تلك المرحلة المهمة حتى لا يشرد بعيدًا، وبالتالي مرت هذه المرحلة من حياة هذا المراهق بأقل الخسائر الممكنة في سلوكياته وأخلاقه؛ بل إنه قد تعلم منها الكثير والكثير، وأصبح عنده قدرة على التعامل مع المراهقين مثلما كان يتعامل معه والده في تلك المرحلة المهمة.
وإذا أردنا أن نختبر قوة تأثير التربية السليمة والعقيدة الصحيحة على الأبناء من سن التمييز إلى الدخول في سن المراهقة، وهو السن الذي أرى أنه ينبغي على الوالدين والمربين أن يبدأ فيه بترسيخ القيم، والمبادئ، وأصول العقيدة الإسلامية في نفوس الأبناء، فعلينا أن نعيش مع قصة سيدنا يوسف عليه السلام.
إن سيدنا يوسف عليه السلام عندما ألقي في الجب كان غلامًا صغيرًا، والغالب أنه لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره أو على الأرجح الرابعة عشر؛ لأنها أكبر سن يمكن أن يقول فيها يعقوب عليه السلام لإخوته حينما أرادوا أن يذهبوا به: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13]؛ إذ لا يصدق أن يكون أكبر من ذلك ويخاف عليه سيدنا يعقوب من الذئب، فضلًا عن السيارة الذين كانوا يبحثون عن الماء، حينما وجدوا سيدنا يوسف {قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَام} [يوسف:19]، ثم بعد ذلك يذهب سيدنا يوسف إلى حياة القصور، وما أدراك ما حياة القصور؟، نجدها باختصار في هذا المشهد، بعد أن حاولت امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام فتأبى، وألفيا سيدها لدى الباب فكان الجواب الصاعقة {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف:29].
لقد كانت "حياة يوسف فترة مراهقته كلها في جو هذا القصر، مع هذه المرأة بين سن الثلاثين وسن الأربعين، مع جو القصور، وجو البيئة التي يصورها قول الزوج أمام الحالة التي وجد فيها امرأته مع يوسف:
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} وكفى!
والتي يتحدث فيها النسوة عن امرأة العزيز، فيكون جوابها عليهن، مأدبة يخرج عليهن يوسف فيها، فيفتتن به، ويصرحن، فتصرح المرأة:
{وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
فهذه البيئة التي تسمح بهذا وذلك بيئة خاصة، هي بيئة الطبقة المترفة دائمًا، ويوسف كان فيها مولى، وتربى فيها في سن الفتنة، فهذه هي المحنة الطويلة التي مر بها يوسف، وصمد لها، ونجا منها ومن تأثيراتها ومغرياتها وميوعتها ووسائلها الخبيثة"(1).
بل إن الأمر أعمق من هذا، فإن سيدنا يوسف حينما دخل السجن وأتى إليه صاحباه في السجن، فكان أول ما دعاهما إليه هو دعوة التوحيد وعبادة الله عز وجل، وبيان زيف ما كان عليه قومهما من الباطل والشرك بالله؛ رغم أنه في تلك الفترة، التي كانت بين إلقائه في الجب ودخوله السجن، لم يعلمه أحد العقيدة أو الأخلاق الحسنة وغير ذلك، إنما كان كل هذا رصيد والده يعقوب عليه السلام، فهو الذي علمه العقيدة الصحيحة، ورسخ وأسس في وجدانه وفي جوارحه الأخلاق الحسنة الطيبة، فصمد حينها سيدنا يوسف عليه السلام أمام كل تلك المغريات والفتن.
هذا درس عظيم جدًا لا بد وأن يتعلمه كل مربٍ، كل والد ووالدة، كيف أن التربية الصحيحة في الصغر، وتعليم الطفل تعاليم هذا الدين، وتحفيظه لكتاب الله عز وجل يظل مؤثرًا في حياته كلها بعد ذلك، وكما قيل: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر.
______________
(1) في ظلال القرآن (4/ 1980).