logo

أبناؤنا واللغة العربية


بتاريخ : الثلاثاء ، 16 شوّال ، 1443 الموافق 17 مايو 2022
بقلم : تيار الاصلاح
أبناؤنا واللغة العربية

اللغة العربية عنوان هويتنا الإسلامية، وإهمال استخدامها إضعاف لهويتنا التي هي أساس نهضتنا وتطورنا، ومصدر عزنا وفخرنا، وإذا كانت كل أمة تتسابق لتسمو وتتشرف بين الأمم بلغاتها، فإن شرف أمتنا في اختيار الله تعالى للغة العربية لتكون لغة أفضل كتبه، وهو القرآن الكريم، قال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 192- 195].

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].

يقول ابن باديس: إن العرب قوم يعتزون بقوميتهم، وهم قوم ذوو عزة وإباء، خصوصًا في الجاهلية؛ فكان من حكمة القرآن أن يجلب نافرهم، ويقرب بعيدهم؛ بأن هذا القرآن أنزل بلسانهم.

ومن هذا الباب توسعة الله في قراءة القرآن على سبعة أحرف، وهي اللهجات التي تجتمع على صميم العربية، وتختلف في غير ذلك، وسع عليهم في ذلك لتشعر كل قبيلة أن هذا القرآن قرآنها؛ لأن اللسان الذي نزل به لسانها؛ وهذا هو ما يقصده القرآن.

فمن الطبيعة العربية الخالصة: أنها لا تخضع للأجنبي في شيء، لا في لغتها ولا في شيء من مقوماتها.

ولذلك نرى القرآن يذكرها بالشرف، ويحدثها كثيرًا عن أمة اليهود التي لا يناديها إلا بيا بني إسرائيل؛ تذكيرًا لها بجدها الذي هو مناط فخرها، كل ذلك لأنها أمة تحيا بالشرف والسمو والعلو.

ويذكرها بالذكر وهو في لسانها الشهرة الطائرة والثناء المستفيض، يقول تعالى لنبيه وهو يعني القرآن: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 43- 44] (1).

القرآن الكريم هو الذي حفظ لهذه اللغة بقاءها ونماءها وتطورها وتجددها وحيويتها، وهو الذي حفظ للأمة عزها وشرفها ومصدر اعتزازها وفخرها، ولهذا فإن علينا أن نفخر بانتمائنا للأمة العربية وللدين الاسلامي معًا، وعلينا أن نحرص على التحدث بها، ولا نستحي منها، ولا يكون عندنا عقدة نقص، فنتشدق ببعض الكلمات الأجنبية التي نحفظها ونهجر العربية، لغة القرآن.

يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة: اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية (2).

ولا بد من النظرِ إلى اللغة العربية على أنها لغةُ القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولغةُ التشريع الإسلامي؛ بحيث يكون الاعتزازُ بها اعتزازًا بالإسلام، وتراثه الحضاري العظيم، فهي عنصرٌ أساسي من مقوماتِ الأمة الإسلامية والشخصية الإسلامية، والنظر إليها على أنها وعاء للمعرفةِ والثقافة بكلِّ جوانبها، ولا تكون مجردَ مادةٍ مستقلة بذاتها للدراسة؛ لأنَّ الأمَّةَ التي تهمل لغتَها أمةٌ تحتقر نفسَها، وتفرضُ على نفسِها التبعية الثقافية.

قال ابن تيمية: فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون.

قال الشافعي: وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب، فأنزل به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم: ولهذا نقول: ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها؛ لأنه اللسان الأولى بأن يكون مرغوبًا فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجمية (3).

قال مصطفى صادق الرافعي: لا جرم كانت لغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين؛ فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلا من لغته؛ إذ يكون منشأ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله، وهو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه، ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ، لا صورة محققة في وجوده؛ فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكرة حتى أن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على أخرى، والثالث على لغة ثالثة، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء.

وما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار؛ ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضًا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها؛ فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثة في عمل واحد: أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجنًا مؤبدًا؛ وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا؛ وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لأمره تبع.

والذين يتعلقون اللغات الأجنبية ينزعون إلى أهلها بطبيعة هذا التعلق، إن لم تكن عصبيتهم للغتهم قوية مستحكمة من قبل الدين أو القومية؛ فتراهم إذا وهنت فيهم هذه العصبية يخجلون من قوميتهم ويتبرءون من سلفهم وينسلخون من تاريخهم، وتقوم بأنفسهم الكراهة للغتهم وآداب لغتهم، ولقومهم، وأشياء قومهم، فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه؛ إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة، وينقادون بالحب لغيره، فيتجاوزونه وهم فيه، ويرثون دماءهم من أهلهم، ثم تكون العواطف في هذه الدماء للأجنبي، ومن ثم تصبح عندهم قيمة الأشياء بمصدرها لا بنفسها، وبالخيال المتوهم فيها لا بالحقيقة التي تحملها؛ فيكون شيء الأجنبي في مذهبهم أجمل وأثمن؛ لأن إليه الميل وفيه الإكبار والإعظام (4).

قال المستشرق الألماني يوهان فك: إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي أساسيًا لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربية والإسلامية رمزًا لغويًا لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية، لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية (5).

لكن هذه اللغة المقدسة العريقة النفيسة تواجه اليوم تحديات كثيرة، وأشد التحديات ألمًا هجر الأبناء للغة العربية «اللغة الأم» فما يؤسى له أن نجد اليوم كثيرًا من أبنائها انصرفوا عنها وتفاخروا بالتحدث باللغات الأجنبية، من غير أن يدركوا ما يقترفونه في حق لغتهم وحق أمتهم... والأمرّ من ذلك عندما يقف هذا الموقف من اللغة العربية بعض المثقفين، الذين يعتقدون أن التكلم بلغة أجنبية هو مقياس الرقي..

وترى بعضهم يتحدثون بلغة غريبة هي مزيج من العربية والأجنبية.

كما أنهم يخاطبون أبناءهم بتلك اللغة، إضافة إلى أن كثيرًا من أبنائهم يتعلمون باللغة الأجنبية ويتحدثون باللغة الأجنبية فيما بينهم في المدرسة وخارجها.

وهذه الظاهرة آخذة في الاتساع، رغم ما تنطوي عليه من مخاطر قد تغيب عن أذهان بعضهم.

قال المستشرق الألماني يوهان فك: إنَّ العربيةَ الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزِها العالمي أساسيًّا لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنَّها قد قامت في جميعِ البلدان العربية والإسلامية رمزًا لغويًّا لوحدة عالم الإسلامِ في الثقافة والمدنية، لقد برهن جبروتُ التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كلِّ محاولةٍ يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامِها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائلُ، فستحتفظ العربيةُ بهذا المقامِ العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية.

وقال جوستاف جرونيباوم: عندما أوحى الله رسالته إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنزلها قرآنًا عربيًّا، والله يقول لنبيِّه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97]، وما من لغةٍ تستطيعُ أن تطاولَ اللغةَ العربية في شرفِها، فهي الوسيلةُ التي اختيرت لتحملَ رسالةَ الله النهائية، وليست منزلتها الروحية هي وحدها التي تسمو بها على ما أودعَ الله في سائرِ اللغات من قوةٍ وبيان، أمَّا السعة فالأمرُ فيها واضح، ومن يتتبع جميعَ اللغات لا يجد فيها على ما سمعته لغة تضاهي اللغة العربية، ويُضاف جمال الصوت إلى ثروتِها المدهشة في المترادفات، وتزين الدقة ووجازة التعبير لغة العرب، وتمتازُ العربيةُ بما ليس له ضريب من اليسرِ في استعمالِ المجاز، وإن ما بها من كناياتٍ ومجازات واستعارات ليرفعها كثيرًا فوق كلِّ لغة بشرية أخرى، وللغةِ خصائصُ جمَّة في الأسلوبِ والنحو ليس من المستطاع أن يكتشف له نظائر في أيِّ لغةٍ أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصرُ اللغاتِ في إيصال المعاني، وفي النَّقلِ إليها، يبين ذلك أنَّ الصورةَ العربية لأيِّ مَثَل أجنبيٍّ أقصر في جميعِ الحالات (6).

المؤامرة على اللغة العربية في بلادنا:

ولما كانت هذه هي منزلة العربية من دين الإسلام؛ فإن أعداء الملة كرسوا حربهم لها، وسلقوا ألسنتهم بتحقيرها وتصغيرها، وسنوا أقلامهم لنقدها وعيبها؛ لأنها لسان القرآن وبيانه، ولعلمهم أنها وعاء الإسلام وشعاره، فتنفير الناس منها، وصرفهم عنها ما هو إلا صرف عن كتاب الله تعالى وعن دين الإسلام.

واشتدت على لغة القرآن حربهم، وتنوعت أساليبهم ووسائلهم، وما وهنت عزيمتهم، ولا يأسوا من تحقيق مرادهم، وكان من محاولاتهم البائسة: ادعاؤهم صعوبة العربية، ودعوتهم إلى إصلاحها والتعديل عليها، فمنهم من دعا إلى إلغاء الإعراب وتسكين أواخر الكلمات.

وسخر أحدهم من قواعد العربية، ودعا إلى تركها في مقالة عنونها بقوله: (هذا الصرف وهذا النحو أمَا لهذا الليل من آخر).

وآخرون منهم ركزوا هجومهم على الخط العربي، ودعوا إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية بعد أن أقنعهم بعض المستشرقين بهذا الإثم المبين، وألفوا كتبًا في ذلك، وقاموا بتجارب ومحاولات استجلبوها من فعل الترك لما كتبوا اللغة التركية بالأحرف اللاتينية.

وكانت أكبر محاولة لإلغاء لغة القرآن دعوة بعضهم إلى اللهجات العامية المحلية بديلًا عن اللغة العربية، ونشط المستشرقون وأذناب المستعمرين لإنجاح هذه المحاولة.

وفي القرن الماضي بذلوا جهودًا مضنية في هذا السبيل المظلم، وتفرغ بعض الأوربيين لدراسة لهجات مدن مصر والشام، وألفوا كتبًا فيها، ووضعوا بزعمهم قواعد لها.

ودعا أحدهم إلى أن تكون اللهجة العامية هي اللغة الوحيدة للبلاد المصرية.

وألقى مستشرق محاضرة قال فيها: إن ما يعيق المصريين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى.

وهذا مفتون آخر يقول: فتَّشْتُ طويلًا عن انحطاط المسلمين فلم أجد غير سببين أولهما: حجاب المرأة، والثاني: هو كون المسلمين ولا سيما العرب منهم يكتبون بلغة غير التي يحكونها.

وقام طه حسين وأذنابه ومن معه بحركة إلغاء الإعراب، وإشاعة قاعدة: سَكِّنْ تسلم، وإلغاء الحركات الإعرابية، كرفع الفاعل، ونصب المفعول به، وهذا كله لعمل فجوة بين الأمة وفهم كتاب الله.

أسباب تدهور اللغة العربية:

إن أسباب تراجع اللغة العربية عند الأطفال والمراهقين متعددة وذات جذور مختلفة، والأسرة ضمن تلك الأسباب هي فاعل ومفعول به في ذات الوقت، فعلى الرغم مما تواجهه الأسرة من تحديات في مسألة تقدم اللغة لدى أبنائها، إلا أنه لا شك أنها سلمت -بشكل نسبي- لموجات التهجين اللغوي والتشويه الثقافي الذي يجتاح عالمنا، فقليل من الأسر يُرتب لمواجهة هذه الموجات، وقد صار لدى الأسرة العربية إلحاق الابن بالمدارس الأجنبية حلمًا تسعد الأسرة لتحقيقه.

والمشكلة أن الأزمة تتراكم عواملها، وكل جيل يسلم لمن يليه مجموعة من المخالفات والتأخر اللغوي الذي يورث زائدًا عليه مؤثرات باقي روافد الحياة، فالأسرة في مواجهة مع التلفزيون والمدرسة والنادي والشارع والأصدقاء الأجانب وغير ذلك من مضعِفات اللغة عند أبنائها، ولا شك أنها مواجهة صعبة، لكن لابد أن تتحرك الأسرة تجاه هذه المشكلة ولو تحركًا مبدئيًّا يدعو باقي المؤسسات للوقوف بجانبها.

إن الأسرة تشارك في إضعاف اللغة العربية لدى الأطفال باستخدام لغات أخرى حتى داخل البيت وأثناء الحديث مع الأولاد، اقتناعًا منها بأن هذا مظهر من مظاهر الوعي والتحضّر والتنشئة السليمة، وهي لا تدري بأنها بذلك تضع الطفل في موقف الحائر، مما ينتج عنه لغة هجين، بل مشوَّهة يستخدمها الأطفال.

والمشكلة ساعتها لا تصبح فقط ضعف الطفل في لغته الأم؛ بل إنها تلقي بظلالها على ثقافة الطفل ومدى انتمائه وتمسكه بهويته، كما أن الأب والأم يمارسان أحيانًا لغتهما المهنية أو لغة عملهما في التعامل مع الأولاد، فنرى الأب الطبيب يُكثر من التحدث بالإنجليزية، والأم المهندسة كذلك، أو الأب مدرس اللغات يتحدث في البيت بلغة مهنته، ولهذا أثر عميق في إضعاف اللغة الأم عند الأطفال.

إن تحجيم دور القرآن في التعامل اللغوي من قِبَل الأسرة سبب رئيسي في ركاكة اللغة وضعفها لدى الأبناء، فاعتياد سماع الأطفال لمفردات القرآن وألفاظه يرصّن من لغتهم ويوفر عليهم صعوبة فهمه فيما بعد، فنجد أن الأطفال يستغربون ألفاظًا مثل "قسورة" و"ضيزى" و"وِزْر" وغيرها من الألفاظ بشدة، بل -وأحيانًا في مرحلة متقدمة- تقل رغبتهم في معرفة معانيها، كم من الآباء يجمع أبناءه في وقت محدد أسبوعيًّا لقراءة القرآن والوقوف على ألفاظه ومفرداته؟ وما مدى تعلق الطفل بالقرآن الكريم مقارنة بأجيال سابقة كان القرآن يشكل طبيعة لغتهم وثقافتهم؟

إن من علامات الفتنة باللغات الأجنبية من أبناء جلدتنا:

- أن يُضمِّن حديثه ألفاظًا أجنبية لغير حاجة، وذلك مِن باب حب الظهور على مَن يجلس معهم في محاورتهم.

- تأثر بعض المبتعثين من أبناء جلدتنا إلى دول الغرب بتلك اللغات، والتحقير من شأن لغتنا وحضارتنا.

- ينظر بعض المتحدثين بلغة أجنبية أنه سيد قومه، أو سيد الجالسين، وهذه دلالة على الغرور.

- تجد بعض المثقفين يظن أن مَن يملك لغة أجنبية دلالة على ثقافته رغم جهالته بلغته الأصلية، وهذا لا يصح أبدًا؛ لأنه لو انطبق عليه ما ذكرتُ آنفًا لدلَّ ذلك على أنه يجهل أبجديات المعرفة.

- من المتخصصين في بعض اللغات الأجنبية لو جلستَ معه لأول مرة، تجد عنده حرصًا غير عادي في إظهار تخصصه في لغة أجنبية؛ لحب الظهور على مَن يحاوره.

إن تعلم اللغة الأجنبية والتمكن منها، أمر لا خلاف حوله لأهميته، فاللغات الأجنبية الحيوية مهمة جدًا، وتعلمها ضرورة حتمية إلا أن ذلك يجب أن يتم في السن المناسبة، وبالطريقة التربوية الصحيحة، ويعزز بالوسائل التقنية المتعددة.. ولا يكون على حساب «اللغة الأم» فينشأ الفرد وهو لا يتقن لغته، فيبدو غريبًا في قومه، وعندها تكون معالجة القصور مهمة صعبة، وغير مضمونة النتائج.

فقد أظهرت نتائج العديد من الدراسات، أهمية إتقان الأطفال لغتهم الأم قبل تعلمهم اللغة الأجنبية، وإن وضع الأطفال الصغار في برامج الطفولة المبكرة من دون دعم من اللغة الأم له آثار سلبية على الأطفال؛ حيث إن القدرة على القراءة باللغة الأم تشكل القاعدة المهمة التي يبني عليها الطفل مهاراته القرائية باللغة الثانية.

إن حماية اللغة العربية وهي تواجه مختلف تحديات العصر، مسؤولية مشتركة تبدأ من الأسرة وتتوسع المسؤولية لتشمل جهات متعددة.. لها مجال آخر، حيث إن التركيز هنا على أهمية دور الأسرة في غرس حب العربية «اللغة الأم» وتنميتها؛ فالأسرة هي المؤسسة التربوية الاجتماعية الأولى، المسؤولة عن تنشئة الأبناء.. ونظرًا إلى أهمية مرحلة الطفولة؛ كونها من أهم مراحل تشكيل شخصية الإنسان وميوله؛ فإن ذلك يضاعف دور الأسرة، وواجبها في غرس حب اللغة العربية في الأبناء، والعمل على تمكينهم منها؛ فهي المؤثر الأول للطفل، وهي تضع بذور كثير من الدوافع والاتجاهات، ويتشكل فيها سلوك الطفل من خلال تفاعله مع التوجيهات التي يتلقاها والنماذج التي يراها.

إن تعلم الأطفال لغتهم الأم وتمكنهم منها، يساعدهم في بناء الأساس الأكاديمي الذي يضمن نجاحهم وتفوقهم، ويؤكد الخبراء ان تعلم اللغة العربية في الصغر، يكسب الأطفال الطلاقة اللفظية والقدرة التعبيرية.

والقراءة مهمة للأطفال لدعم قدراتهم الإبداعية؛ فعلى الأسرة تشجيعهم على القراءة بكل السبل، وتوفر لهم قصص الأطفال الشائقة، وكتيبات الأناشيد الجميلة، والكتب العربية وفقًا لمراحل نموهم، وتشركهم في اختيار الكتب التي يرغبون في قراءتها، وتقوم بتعزيز القراءة لدى الطفل، فتناقشه فيما يقرأ ويشاهد، وذلك بتوجيه بعض الأسئلة حول ما يرى في الصور أو يقرأ في القصص، وذلك باستخدام اللغة العربية الميسرة، وهذا يساعد الطفل على التعبير وتنظيم الأفكار.

كما أن تعلم القرآن الكريم وحفظه منذ الصغر، بالغ الأهمية في النمو اللغوي والقدرات الذهنية، كما أوضحته دراسات حديثة، فقد جاءت نتائج دراسة علمية حول أثر تعلم القرآن على مستوى النمو اللغوي والذهني للطفل، وتنمية الذكاء لدى الأطفال، لتؤكد أن حفظ القرآن الكريم في الصغر، يضمن تفوق الأبناء، فهو ينمي مدارك الأطفال واستيعابهم بدرجة أكبر من غيرهم. وتشير الدراسات إلى أهمية البدء في تعلم القرآن وحفظه في سن مبكرة نظرًا إلى سهولة الحفظ في هذا السن.

كذلك من الضروري توجيه الأبناء إلى استخدام الوسائل التقنية الحديثة، في التعلم الذاتي وليس في اللعب فقط -كما هو الحال عند بعضهم- فذلك من شأنه توسيع مداركهم، وتطوير قدراتهم الإبداعية ومهاراتهم اللغوية.

كما يجب تشجيعهم على استخدام الألعاب التعليمية اللغوية... وكذلك مشاهدة أفلام الرسوم المتحركة في المحطات الناطقة باللغة العربية الفصيحة، لما في ذلك من تأثير كبير في اكتساب اللغة العربية.

كذلك على الأسرة أن تشجع الأبناء على متابعة البرامج التعليمية العربية، والاطلاع على تراث الأجداد الذين أسهموا في بناء الحضارة الإنسانية؛ وبذلك ينشأ الأبناء على حب اللغة والتمكن منها، والانتماء إليها وإلى حضارة الأمة (7).

كم كنت أتمنى أن تبذل جهودًا لتغيير الطريقة التقليدية في تعليم لغتنا العربية وتدريسها من مدرسيها، بدلًا من ذلك الجفاف والجمود، ومحاولات تعقيدها لإظهار صعوبتها، كنت أتوقع أن تعود إلى مدارسنا مادة الخط العربي، والتعبير والمطالعة، فلعل التقسيم السابق لم يعمل على تشتيت مادة اللغة العربية بوضع فروعها كما كانت، ولا جمعها في كتاب أو منهاج واحد بهدف شمولية اللغة العربية، قد أدى إلى حفظ اللغة العربية والاهتمام بها في ظل الهجمات عليها من كل حدب وصوب، في ظل وجود وسائل الإعلام الجديد الذي تعج ساحاته بالأخطاء الإملائية والأسلوبية التي أسهمت في تكريس الخطأ الإملائي بين الناس.

لا غريب ما يدور في الوسط العربي بين أبنائنا من إقحام كلمات أجنبية يتداولونها في محادثاتهم الشفاهية ورسائلهم الهاتفية التي باتت تجرد العربية من خصائصها وتسبغ عليها شِرعة الجهالة، ألعيب يعتري لغتنا التي قال الله تعالى عنها في محكم تنزيله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 28]، أم استُنفذت كلمات العربية، فما بقي لها إلا الجهالة والغربة والناس أعداء ما جهلوا.

إنَّ اللغة العربية هي السبيل لمعرفة هوية أمتنا الإسلامية وخصائصها، وهي اللغة التي ما فتئ عطاؤها من إثراء العرب وإذكائهم فكريًا وحضاريًا واجتماعيًا، حتى أضحت نواتهم الأساسية والموجهة لسفينتهم في بحر الحياة، وهي لغة القرآن الكريم الذي وصفه الله تعالى بقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، فعُلم هنا أن سائر اللغات قاصرة عنها، كيف لا وقد كلّلها الله بها الشرف والعظمة والخلود.

ومن أهم مظاهر عزلة اللغة العربية عن الألسن هو ابتعاد الناس عنها بدعوى صعوبة اللغة وصعوبة قواعدها.

وصعوبة اللغة علة يركن إليها كثير من الناطقين بالضاد على اختلاف بلدانهم، إذ نجد بلدانًا عربية تعاني من الازدواجية بين اللغة الفصحى واللهجة العامية إلى الحد الذي لا يستطاع به تمييز اللغة الأصيلة عن اللغة الدخيلة، وهذا بحد ذاته سبب أساسيّ لضعف اللغة العربية.

من ذلك أيضًا الانسلاخ عن اللغة من بعض الطبقات دون غيرها، وهذا يختلف من طبقة إلى أخرى بحسب تشرّبها للمؤثرات الأجنبية، ومحاولتها إضفاء الصبغة الأجنبية محل اللغة العربية، فقد نجد بعض الأسر يتحادث أفرادها فيما بينهم باللغة الأجنبية زعمًا منهم بأن اللغة الأجنبية هي اللغة العصرية وحال العربية بات قاصرًا عن مواكبة تطورات الحياة ومستجداتها.

وهذه النظرة صاحبت فئة من المجتمع العربي ممن يتناولون الأمر بالتفكير والفلسفة، ولكننا نجد فئات من المجتمعات العربية تختلف عندها أسباب الانسلاخ، فقد يكون السبب هو التباهي أو التعالي أو تجهيل ما عداهم.

إن لمجامع اللغة العربية في الوطن العربي دورًا هامًّا وللهيئات المعنية والجمعيات الرسمية والأهلية كذلك، ولكن الدور الأكثر أهمية –في نظري– هو وجوب البحث في كيف يمكن لكل عربي أن يكون فاهمًا للغته متقنًا لها معتزًّا بها فخورًا بانتسابه إليها.

ويرى كثير من العلماء أنَّ الكلام بغير العربية دون حاجة هو من قبيل النفاق، ونرى أن البعض الآخر قد أوجب تعلمها وإتقانها، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعلموا العربية فإنها تثبت العقل، وتزيد في المروءة (8)، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: أن مر من قبلك بتعلم العربية؛ فإنها تدل على صواب الكلام، ومرهم برواية الشعر؛ فإنه يدل على معالي الأخلاق (9).

إن الاهتمام باللغة والحفاظ عليها واجب بأعناقنا، فنحن كعرب من واجبنا أن نفخر باللغة العربية ونعملها أطفالنا ونؤصل حبها في نفوسهم.

نحن مع تعدد اللغات وأن يتعلم أبناؤنا اللغات الأخرى؛ لأن ذلك من مصلحتنا ومصلحة بلداننا وأوطاننا، ولكن يجب ألا يكون ذلك على حساب لغتنا الأصلية.

يجب العمل على إيجاد الوسائل الكفيلة بحماية لغتنا العربية والحفاظ عليها، وذلك بهدف توفير الحماية الواجبة لمستقبل الطفل المسلم، حتى يظل فخورًا بلغته وبثقافته وبتقاليده وأعرافه وبشخصيته المميزة وبهويته الخاصة.

حلول ممكنة:

إن أمام الأسرة حلولًا ممكنة لتلك المشكلة؛ منها استغلال اهتمام الطفل العربي بالقصِّ؛ فالقص ‏يحتل مكانة كبيرة في مرحلة الطفولة، حيث يستمع الطفل للحكاية بآذان مصغية وعيون مفتوحة‏، ودهشة غير محدودة،‏‏ يطلق خلالها العنان لخياله‏، معبرًا عن توق فطري لدى الإنسان منذ نشأته‏ إلى عالم سحري،‏‏ فيجب على الأسرة ألا تواجه الطفل حين يبدأ بالتساؤل‏‏ خلال رحلته المعرفية، بسدٍّ من المعوقات ولغة ضعيفة تسهم في تراجع دور اللغة في تكوين شخصية الطفل، إن اللغة من خلال القص من الممكن أن تأخذ أبعادًا أشمل وأوسع من كونها مفردات وألفاظًا، فنكوِّن من خلالها الشخصية ونصقل اتخاذ القرار ونعزز لدى الطفل هويته.

من الممكن أن نفعِّل المكنونات اللغوية داخل الأطفال عن طريق تنظيم نشاطات لغوية، يكون محتواها اللغة السهلة البسيطة، بعيدًا عن التقعر والتصعيب، مثل الحرص على إشراك الأبناء في مسابقات اللغة والقصة والرواية، بل وعمل مسابقات داخل الأسرة نفسها، وتهيئة جو لغوي سليم من خلال إحياء روح التنافس على الخطابة مثلًا أو الشعر بين الأبناء.

ولا بد من إنشاء علاقة صحية وإيجابية بين الأولاد وبين أعلام اللغة وروادها، فلا يصح أن ينشأ الطفل العربي ولا يعرف إلا القليل عن فحول اللغة والأدب والشعر، بل يجب على الأبوين الحرص على تعريف هؤلاء الأعلام للأبناء وربطهم بأعمالهم ربطًا مباشرًا منذ الصغر.

إن ثمة أهمية قصوى لإدراك تطور اللغة على أنها كائن بشري، فمشكلة اللغة الهجين أو المشوهة المنتشرة في أوساط أبنائنا يكمن مضمونها في أن ثمة فريقين أحدهما يريد العودة إلى التقعر والتشدق والوقوف عند ما وصل إليه المجتمع القديم من مفردات وألفاظ، والفريق الآخر يهاجم اللغة وقواعدها ويدعو إلى تركها على عدة أسس لا مجال لها من الصحة، والموازنة هنا مطلوبة فلا بد من مراعاة التطور واستخدام الألفاظ السهلة الميسرة بعيدًا عن التقعّر والمبالغة.

فثمة لغة قويمة هذه الأثناء تنتشر بين بعض وسائل الإعلام المحترمة في الفضائيات والصحف، فلماذا لا يتم الاعتماد عليها كمرحلة نحو العودة إلى اللغة الرصينة والمُحكمة.

ضرورة عودة اهتمام الآباء بمجالس الآباء في مدارس أبنائهم والتشاور مع أعضائها في كيفية تنمية اللغة العربية لدى أبنائهم، حيث قلّ التركيز على تلك المجالس التي كان يخرج الآباء منها قديمًا بخطط وجداول لتنمية مهارات أطفالهم، كما كان من خلالها يتم التواصل بين الأسر بما يعم بالإفادة على الأبناء.

بعض الأبناء يظهر لديهم مواهب عديدة متعلقة باللغة كالشعر، الخطابة، الكتابة والتأليف من صغرهم، وتندثر لعدم اهتمام أسرهم بها وعدم الحرص على تنميتها.

إن تعلق الطفل بالنموذج في حياته وسيلة رائعة لتدشين قواعد وحب اللغة لديه، فدائمًا ما نرى أن المهتمين باللغة كان لديهم مثُل عليا يقتدون بها متمثلة في أشخاص كانوا أيضًا يهتمون باللغة، فإذا أحب الطفل والده وارتبط به أكثر وكان الأب يتحدث لغة سليمة ويحب الشعر وعلوم اللغة، نجد شخصية الطفل تتعلق -بشكل أو بآخر- بنسبة معينة من ذلك الاهتمام.

ستظل اللغة العربية في أجيالنا حبيسة التخلف على شتى المستويات، ولن تعود إلى سابق عزها إلا بالعمل على ارتقاء المكانة الأعلى بين الأمم، والتاريخ يؤكد ذلك؛ فعصور الازدهار والمد الإسلامي الحضاري لم يُرصَد فيها أي مظهر من مظاهر تراجع اللغة مهما تعددت اللغات الأخرى، وصدق المؤرخون حين تنبئوا بسقوط الأندلس مع بداية انهيار اللغة فيها (10).

وعلينا أولًا أن نهيئهم لتعلم العربية الفصحى بأن نشرح لهم مزايا اللغة العربية الفصحى، وأهمية تعلمها لارتباطها بالقرآن الكريم، فجعل الطفل يحب لغته ويفتخر بها ويعتقد أن اللغة العربية هي الأروع والأجمل بين اللغات.

الاهتمام بتحفيظه القرآن من الصغر وتعليمه لفظ الحروف بشكلها الصحيح، وعلينا أن نوفر لهم بيئة غنية بممارسة اللغة العربية الفصحى في بيوتنا وأثناء اجتماعاتنا الخاصة؛ بحيث نتيح لهم الفرصة للاستماع والتكلم باللغة العربية الفصحى بقدر ما نستطيع، وأن نوفر لهم كتبًا مناسبة لأعمارهم باللغة العربية يمارسون من خلالها القراءة، ونوفر نماذج للتدريب على الخط العربي يحاكونها في كتاباتهم.

ويستحسن أن يخصص رب الأسرة حوافز تشجيعية لمن يحفظ مزيدًا من القرآن، ومن يلتزم بممارسة العربية الفصحى من أبنائه داخل المنزل (11).

_________________

(1) تفسير ابن باديس (ص: 389- 390).

(2) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 527).

(3) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 519- 520).

(4) وحي القلم (3/ 27).

(5) أرشيف منتدى الفصيح – 1/ الموسوعة الشاملة.

(6) الفصحى لغة القرآن (ص: 301)، وما بعدها.

(7) لغتنا العربية ودور الأسرة في حمايتها/ أخبار الخليج.

(8) شعب الإيمان (1556).

(9) كنز العمال (10/ 300).

(10) تشويه لغة الضاد على يد الأحفاد/ صحيفة اللغة العربية.

(11) أبناؤنا ومستقبل اللغة العربية في بلاد الغرب/ موقع الراشدون.