دور الآباء في نقل الخبرات للأبناء
إن الإنسان يعيش في هذه الحياة الدنيا كالطفل الذي يتعلم كل يوم جديد، وذلك من خلال المواقف والأحداث التي تمر بالإنسان، حتى يصبح لدى الإنسان رصيد من التجارب والخبرات، التي تساعده على فهم الحياة، وتجاوز المواقف الصعبة التي يمر بها في الحياة.
هذه المواقف والتجارب والخبرات يجب ألا تقف عند الآباء والأمهات؛ بل لا بد من نقلها إلى الأبناء.
فالابن خامة أولية، ليس لديه أي تجارب أو مواقف سابقة يستطيع من خلالها الحكم على الأشياء، أو التصرف الصحيح حيال بعض المواقف الصعبة؛ لذلك فلا بد للآباء والأمهات من نقل هذا الرصيد من الخبرات إلى الأبناء؛ حتى لا يكون يوم الأبناء كأمس الآباء والأمهات، وحتى لا يكون غد الأبناء كيوم الآباء والأمهات، فينبغي ألا يتلاشى رصيد خبرات الآباء والأمهات بانتهاء تلك المواقف والتجارب؛ بل لا بد من أن يتراكم هذا الكم من التجارب والخبرات في نفوس الأبناء، وذلك عبر تعليم الأبناء كل ما يمر به الآباء والأمهات من تجارب وخبرات، عملًا بقاعدة "نبدأ من حيث انتهى الآخرون".
وهكذا عندما يقوم الآباء والأمهات بنقل التجارب والخبرات إلى الأبناء، فإن الأبناء يستوعبون بعضها ولا يقدرون على استيعاب البعض الآخر، لكن ولا شك فإن يوم الأبناء سيصبح أفضل من غد الآباء والأمهات، وأمسهم أفضل من يوم الآباء والأمهات؛ ذلك لأنهم فهموا ووعوا ما لم يفهمه ويعيه آباؤهم وأمهاتهم إلا بعد التجربة وبعد طول زمان، أما الأبناء فقد تعلموا وهم صغار، وفهموا ما ألقاه إليهم والدهم ووالدتهم.
إن المواقف السابقة تفيد أي شخص في تغيير مواقفه وسلوكه وردة فعله حسب ما تعلمه من تلك المواقف، سواء حدثت له تلك المواقف أو سمع عنها من غيره، وعند تلك النقطة تظهر أهمية أن يقوم الوالد والوالدة بسرد وحكاية بعض الأخبار والمشاكل التي مر بها من قبل، أو حتى حدثت لأبيه أو جده أو سمع عنها من غيره، وكذلك حكاية ردة فعله تجاه تلك المواقف والأحداث التي مر بها؛ حتى يكون هذا سببًا لجعل الأبناء أكثر قدرة على مواجهة مواقف الحياة المختلفة إذا تعرضوا لها في المستقبل.
إن نقل تلك التجارب والخبرات لن يكون إلا عن طريق الحكاية والسرد، سواء كانت هذه المواقف قد حدثت للأب شخصيًا أو قرأها، أو سمعها، ويفضل التنبيه على ذلك قبل سرد القصة، بأن ينبه أن هذا الموقف قد حدث معه شخصيًا، وهكذا، والطريقة المثلى لصياغة مثل تلك المواقف للأبناء، هي تكرار بعض العبارات بين الفينة والأخرى، خاصة تلك التي يهدف الأب من خلالها إيصال المعلومة الهامة إلى أبنائه، وأن يكون ذلك "على فترات متباعدة، وبأساليب مختلفة، ومن غير تكلف، فقد أثبتت الدراسات أن الفكرة إذا ذكرت مرة واحدة للمستمع فإنه في نهاية الشهر يتذكر عشرة في المائة منها، ولكن إذا ذكرت ست مرات على فترات مختلفة فإنه في نهاية الشهر يتذكر تسعين في المائة منها"(1).
ولا يقتصر الأمر في تعليم الأبناء بأحداث الحياة على الحكاية فقط؛ بل إن من توفيق الله عز وجل للوالد أن ينتهز حادثة ما أو مرور موقف بأبنائه، ثم يعلمهم التصرف الصحيح تجاه هذا الموقف، فيكون لذلك الأثر الطيب في نفوسهم، والنافع لهم في ردود أفعالهم اليومية، وليس الهدف من هذه الحكايات هي معرفة فقط كيفية التصرف الصحيح عند وقوع مثلها، وإنما أيضًا بناء مفاهيم صحيحة عما يدور حولنا، وعن قيمة هذه الحياة الدنيا، وكذلك بيان أهمية العقيدة في حياة المسلم، فكم من المواقف التي نأخذ منها الدروس والعبر مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمسألة عقيدة المسلم وثقته في الله.
وإن الوالد في هذا يقتدي بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق، داخلًا من بعض العالية، والناس كَنَفَتَهُ، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟» فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: «أتحبون أنه لكم؟» قالوا: والله، لو كان حيًا كان عيبًا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: «فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم»(2).
وروى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه طارحة ولدها في النار؟»، قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: «الله أرحم بعباده من هذه بولدها»(3).
"وهكذا في كل موقف من مواقف الحياة، وعند مرور أي حدث أو مناسبة، لا يترك المربي هذه المواقف، وتلك الأحداث تذهب سدى بدون عبرة وبغير توجيه، وإنما يستغلها لتربية النفوس وصقلها، وغرس المفاهيم الإيمانية في أعماقها، طرقًا لمشاعر الأبناء (على الساخن)؛ لأن التوجيهات التي تأتي في هذه الحالة تكون في أعقاب حدث يهز النفس كلها هزًا؛ فتكون أكثر قابلية للتأثر، ويكون التوجيه أفعل وأعمق وأطول أمدًا في التأثير من التوجيهات العابرة التي تأتي (على البارد) بغير انفعال"(4).
"والمربي لا يستطيع بطبيعة الحال أن يفتعل الأحداث، فهي تجري بقدر الله في الصغيرة والكبيرة سواء، ولكن تطبيق المنهج يقتضي منه أن ينتهز الفرص المناسبة ليلقي دروسه التربوية في الأحداث التي تقع، بقدر الله، والتي يرى أنها صالحة لتوجيه تربوي معين، سواء كان الانفعال بالحدث قائمًا في نفس الطفل بالفعل، أو كان على المربي أن يثير ذلك الانفعال بتعليقاته عليه، حتى إذا علم أن التوهج الشعوري قد حدث داخل نفسه أعطاه التوجيه المطلوب"(5).
__________________
(1) فنون الحوار والإقناع، لمحمد ديماس، ص194.
(2) صحيح مسلم (2957).
(3) صحيح البخاري (5999)، وصحيح مسلم (2754).
(4) اللمسة الإنسانية، لمحات في فن التعامل مع الأبناء، للدكتور محمد محمد بدري.
(5) منهج التربية الإسلامية (2/389).