تسلية النساء لفقد الأبناء
غرس الله في قلوب الآباء محبة الأولاد والشغف بهم، فلا تكاد تجد أبًا أو أمًا إلا وهو متعلق بأولاده، كلف بهم، مهما بلغ جفاء قبله وخشونة أخلاقه، وقد أشار إلى ذلك المولى جل وعلا في كتابه الكريم بقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14]، وقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].
وقال مذكرًا خلقه بهذه النعمة وممتنًا عليهم بها: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]، وقال: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء: 133]، وقال: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12].
حتى بلغت الشفقة بالآباء أن ذهب يعقوب عليه السلام يوصي أولاده بقوله: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} [يوسف: 67]، مع أنه {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68].
وذهب نوح عليه السلام يدعو ابنه إلى الركوب معه في السفينة فقال: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42].
ثم سأل الله تعالى أن يرده إليه: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45].
وابتلى الله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ووحيده إسماعيل عليه السلام {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]؛ ليمتحن صبره وجلده على أقدار الله فكان من الصابرين المتحسبين، وقد وصف الله ذلك بأنه بلاء مبين {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106].
يخطو إلى التنفيذ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103].
ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة، وعظمة الإيمان، وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان.
إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعدادًا، وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعًا، وقد وصل الأمر إلى أن يكون عيانًا.
لقد أسلما؛ فهذا هو الإسلام، هذا هو الإسلام في حقيقته، ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم وتنفيذ.
وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.
إنها ليست الشجاعة والجراءة، وليس الاندفاع والحماسة، لقد يندفع المجاهد في الميدان، يقتل ويقتل.
ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود، ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر.. ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص، إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون، لا بل هنا الرضى الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل، وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا، كانا قد أسلما، كانا قد حققا الأمر والتكليف، ولم يكن باقيًا إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه، وهذا أمر لا يعني شيئًا في ميزان الله، بعد ما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما.
كان الابتلاء قد تم، والامتحان قد وقع، ونتائجه قد ظهرت، وغاياته قد تحققت، ولم يعد إلا الألم البدني.
وإلا الدم المسفوح، والجسد الذبيح، والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء، ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا، وقد حققوا التكليف، وقد جازوا الامتحان بنجاح.
وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 104- 108].
قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلًا، فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد، ولو كانت هي النفس والحياة.
وأنت- يا إبراهيم- قد فعلت، جدت بكل شيء، وبأعز شيء، وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين، فلم يبق إلا اللحم والدم، وهذا ينوب عنه ذبح، أي ذبح من دم ولحم، ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت، يفديها بذبح عظيم، قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلًا من إسماعيل، وقيل له: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 105]، نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء، ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء، ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء، ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء! ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان (1).
لم تستطع السيدة هاجر عليها السلام أن تصبر على بكاء رضيعها من شدة الجوع والعطش وكاد عقلها أن يطيش تبحث له عن أسباب البقاء على قيد الحياة، تسعى بين الصفا والمروة في فزع شديد وخوف وهلع على فلذة كبدها، حتى أنقذهما الله ببئر زمزم.
هذه الأم الحنونة يأتيها الشيطان يخبرها بأن إبراهيم عليه السلام يريد أن يذبح ولده، فتسأله لما؟ فيجيب بأنه يزعم أن الله أمره بذلك، فتقول بصدق ويقين وإيمان بالله تعالى، تقول: فقد أحسن أن يطيع ربه.
من هذا نلمح مدى ما يتمتع به الأولاد من مكانة عالية في نفوس أهليهم، ولذلك فالابتلاء فيهم له وقع شديد على النفوس، وأثر لا تمحوه الأيام، إلا من تذرع بالصبر، وفوض أمره إلى الله كما قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86].
يقول الله تبارك وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» (2)، وفي حديث آخر من رواية صهيب رضي الله عنه قال: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» (3).
الصبر في قمة الأعمال الصالحة التي وعد الله عليها بالثواب الوافر {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان: 75].
{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12]، وأصبر الناس على بلاء الله هم الأنبياء {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].
في مواقف الضيق والحرج يمتحن الإيمان، وتظهر للناس خبيئته، حيث تتجرع النفس مرارة الألم، وتعبس الدنيا ويكفهر وجهها، هناك تتجلى قيمة الصبر وفضائله، متى استطاع الإنسان بعزيمته الصادقة وتسليمه بقضاء الله، أن يكبح جماح نفسه الشموس، ويأخذ بمجامعها إلى الجادة، فإذا ذاقت حلاوة الصبر وبرد الإيمان، هجعت واطمأنت، وذهب عنها وهج الحزن وكدره، حتى ترجع أصلب ما تكون عودًا، وأقوى في مصاولة خطوب الدنيا ونكساتها.
وبهذا الدرع الفريد، يتجاوز المسلم أزماته؛ ليحمل مشعل الحياة الكريمة في دروب الأرض وفجاجها الواسعة، ويقوم بالمهمة التي خلق من أجلها، وليكمل مسيرة الخير تحت راية التوحيد الخالدة، فتتحول المنغصات الخانقة، إلى محرك نشط يدفع بالأمة إلى واجهة التاريخ، ويصقل بخشونته النفوس فتعود أكثر تألقًا؛ لتعيش هنيئة راغدة في ظل دوحة الإسلام الوارفة، تتفيأ ظلالها وتتقلب في خيراتها (4).
في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك، فواعدهن يومًا لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: «ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها، إلا كان لها حجابًا من النار»، فقالت امرأة: واثنين؟ قال: «واثنين» (5).
قال المباركفوري: وفي الحديث ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعلم أمور الدين، وفيه أن أطفال المسلمين في الجنة: وأن من مات له ولدان حجباه من النار (6).
ويستفاد منه عظم أجر المصيبة في الولد، وكونه لا جزاء لها إلا الجنة، فمن فقد ثلاثة أو اثنين وصبر نجا من النار بنص هذا الحديث، وكذلك من فقد واحدًا (7).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم» (8).
قال القرطبي: وإنما خصت الثلاثة بالذكر لأنها أول مراتب الكثرة، فبعظم المصيبة يكثر الأجر (9).
وقال بعض العلماء: الثلاثة داخلة في حيز الكثير، وقد يصاب المؤمن فيكون في إيمانه من القوة ما يصبر للمصيبة، ولا يصبر لتردادها عليه، فلذلك صار من تكررت عليه المصائب فصبر، أولى بجزيل الثواب، والولد من أجل ما يسر به الإنسان لقد يرضى أن يفديه بنفسه، هذا هو المعهود في الناس والبهائم، فلذلك قصد رسول الله إلى أعلى المصائب والحض على الصبر عليها (10).
ودل هذا الحديث على ما يأتي: أولًا: بيان أجر المصيبة في الأولاد ولو ماتوا صغارًا، فإنه لا جزاء لذلك إلا الجنة.
ثانيًا: أن محبة الأبوين لولدهما ورقة قلبهما عليه، وإن كان غريزة طبيعية في النفس، إلا أن المرء يثاب عليها، ولذلك عوض عن فقد الأولاد بالجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: «إلّا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم»، والمطابقة: في قوله: «أدخله الله الجنة» (11).
عن معاذ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة، إذا احتسبته» (12).
وعن معاوية بن قرة، عن أبيه رضي الله عنه، أن رجلًا كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه ابن له، فقال له: «أتحبه؟» قال: أحبك الله كما أحبه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال «ما فعل ابن فلان؟» قالوا: يا رسول الله، مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: «أما تحب أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة، إلا وجدته ينتظرك؟» فقال رجل: يا رسول الله، أله خاصة أم لكلنا؟ قال: «بل لكلكم» (13).
وأخرج الطبراني من حديث ابن عمر نحوه، ولكن قال فيه: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أو ما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم يلاعبه تحت ظل العرش؟» قال: بلى يا رسول الله (14).
وفي المعنى أحاديث كثيرة جدًا، وقد كان الصحابة يرجون ذلك عند موتهم، كما روي عن أبي ذر أنه لما حضرته الوفاة بكت أم ذر فقال لها: أبشري ولا تبكي؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة، فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبدًا» (15).
قال علي بن الحسين: فقد الأحبة غربة، وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوائع العيون علانيتي، وتقبح في خفيات العيون سريرتي، اللهم كما أسأت وأحسنت إليّ فإذا عدت فعد علي، وكان يقول: إن قومًا عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وقومًا عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار (16).
وهذا عبد الله بن مطرف يوم مات ولده، فقال: والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربة من ماء لرأيتها لتلك الشربة أهلًا؛ فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟ (17).
إذا ما لقيت الله عني راضيًا فإن شفاء النفس فيما هنالك
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيرًا منها؛ إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها» قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: ومن خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم عزم الله عليَّ، فقلتها، قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خير من رسول الله؟ (18).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل؛ يُبتلى الناس على قَدر دينهم؛ فمن ثَخُنَ دينه اشتد بلاؤه، ومن ضَعُف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئة» (19).
وفي سنن الترمذي: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة» (20).
في هذا الحديث: أنَّ المصائبَ والمتاعب النازلة بالمؤمن الصابر من المرض، والفقر، وموت الحبيب، وتلف المال، ونقصه؛ مكفَّرات لخطاياه كلها (21).
عن أبي هريرة، قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها، فقالت: يا نبي الله ادع الله له، فلقد دفنت ثلاثة، قال: «دفنت ثلاثة؟» قالت: نعم، قال: «لقد احتظرت بحظار شديد من النار» (22)، أي: لقد احتميت بحمى عظيم من النار؛ فما أعظم الأجر، وما أكمل الثواب، وما أجدر أن يُستعذَب العذاب في طلب مثل هذا الثواب، وجاء في الحديث الصحيح: «إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ قال: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد» (23).
يا لها من بشارة بالموت على الإيمان؛ لأن الله إذا أمر ببناء بيت لأحد عبيده لا بد لذلك العبد من سكنى ذلك البيت يومًا من الأيام.
يُذكر أن أعرابية فقدت أباها، ثم وقفت بعد دفنه، فقالت: يا أبتِ؛ إن في الله عوضًا عن فقدك، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة، ثم قالت: ربِّ لك الحمد، اللهم نزل عبدك مفتقرًا من الزاد، مخشوشنَ المهاد، غنيًّا عمَّا في أيدي العباد، فقيرًا إلى ما في يدك يا جواد، وأنت يا رب خير من نزل بك المُرملون، واستغنى بفضلك المُقِلُّون، وولج في سعة رحمتك المذنبون.
ويذكر ابن الجوزي -عليه رحمة الله- في عيون الحكايات قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق؛ فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدنا نحوها، فسلمنا؛ فإذا عجوز ترد السلام، ثم قالت: من أنتم؟ قلنا: قوم ضللنا الطريق، وأَنِسْنَا بكم، وقوم جياع.
قالت: ولُّوا وجوهكم حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل.
ففعلنا، وجلسنا على فراش ألْقَتْهُ لنا، وإذا ببعير مقبل، عليه راكب، وإذا بها تقول: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ولدي، وأما راكبه فليس بولدي.
جاء الراكب، وقال: يا أم عقيل! السلام عليك أعظم الله أجرك في عقيل، فقالت: ويحك! أوقد مات عقيل؟ قال: نعم.
قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل، ودفعت له كبشًا، ونحن مدهوشون، فذبحه وأصلحه، وقرَّب إلينا الطعام، فجعلنا نتعجب من صبرها؛ فلما فرغنا قالت: هل فيكم أحد يحسن من كتاب الله عز وجل شيئًا فقلنا: نعم.
قالت: فاقرءوا عليَّ آيات أتعزَّى بها عن ابني، قال: قلت: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155- 157]، قالت: آللهِ إنها لفي كتاب الله؟ قلت: والله إنها لفي كتاب الله.
قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، صبرًا جميلًا، وعند الله أحتسب عقيلًا، اللهم إني فعلت ما أمرتني به؛ فانجزني ما وعدتني، ولو بقي أحد لأحد لبقي محمد صلى الله عليه وسلم لأمته.
قال: فخرجنا، ونحن نقول: ما أكمل منها ولا أجزل! لما علمت أن الموت لا مدفع له ولا محيص عنه، وأن الجزع لا يجدي نفعًا، وأن البكاء لا يرد هالكًا؛ رجعت إلى الصبر الجميل والرضا بقضاء السميع العليم، فاحتسبت ابنها عند الله عز وجل ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة (24).
فما أجمل الرضا بقضاء الله في كشف محن المصاب ومكروباته! هذه سجايا السلف؛ صبرٌ واحتسابٌ، وتجلُّدٌ وتحمُّلٌ، ورضا واسترجاعٌ، وبُعْدٌ عن الجزع والتسخُّط والتذمُّر عند المصاب.
عن أسامة بن زيد، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رسول إحدى بناته، يدعوه إلى ابنها في الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب»، فأعادت الرسول أنها قد أقسمت لتأتينها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، فدفع الصبي إليه ونفسه تقعقع كأنها في شن، ففاضت عيناه، فقال له سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» (25).
وذكر ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد قال: حدثني بعض من قرأ في الكتب: أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها، وبلغ أرض بابل مرض مرضًا شديدًا، فعلم أنه مرض الموت، وأشفق على نفسه، فكتب إلى أمه معزِّيًا في ذكاء قائلًا: يا أماه! إذا جاءكِ كتابي فاصنعي طعامًا، واجمعي من قدرت عليه من الناس، ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة، واعلمي هل وجدتِ لشيء قرارًا.
إني لأرجو أن يكون الذي أذهب إليه خيرًا مما أنا فيه.
فلما وصل كتابه صنعت طعامًا عظيمًا، وجمعت الناس، وقالت: لا يأكل هذا من أُصيب بمصيبة، فلم يتقدم أحد للأكل من هذا الطعام، فعلمت مراد ابنها، فقالت: بني! من مبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت؛ فعليك السلام حيًا وميتًا (26).
فما من مصيبة أصيب بها مصاب إلا وهناك ما هو أعظم منها عند غيره.
وفي العاقبة للإشبيلي يروي أن امرأة من الأعراب حجَّت، ومعها وحيدها، فمرض عليها في الطريق، ومات، فدفنته بمساعدة الركب الذين معها، ثم وقفت بعد دفنه، وقالت: يا بني! والله لقد غذوتك رضيعًا، وفقدتك سريعًا، وكأن لم يكن بين الحالتين مدة ألتذُّ بها بعيشك، وأتمتع فيها بالنظر إلى وجهك، ثم قالت: اللهم منك العدل، ومن خلقك الجور، اللهم وهبتني قرة عين، فلم تمتعني به كثيرًا بل سلبتنيه وشيكًا، ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك، ورضيت قضاءك، فلك الحمد في السَّراء والضَّراء.
اللهم ارحم غربته، واستر عورته يوم تُكشف العورات وتظهر السوءات، رحم الله من ترحَّم على من استودعته الردم، ووسدته الثرى.
ثم لما أرادت الانصراف قالت: أي بني! لقد تزودت لسفري فيا ليت شعري ما زادُك لسفرك ويوم ميعادك؟! اللهم إني أسألك الرضا عنه برضائي عنه، اللهم إني أسألك الرضا عنه برضائي عنه، أستودعك بني من استودعني إياك جنينًا في الأحشاء، ومن يجازي من صبر في السراء والضراء (27).
-----------
(1) في ظلال القرآن (5/ 2994- 2996).
(2) أخرجه البخاري (5641).
(3) أخرجه مسلم (2999).
(4) تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال (ص: 3)، بترقيم الشاملة آليًا.
(5) أخرجه البخاري (101).
(6) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 503).
(7) منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (1/ 199).
(8) أخرجه البخاري (1381).
(9) فتح الباري لابن حجر (3/ 122).
(10) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/ 367).
(11) منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (2/ 367).
(12) أخرجه ابن ماجه (1609).
(13) أخرجه أحمد (15595).
(14) أخرجه الطبراني (14096).
(15) أخرجه ابن حبان (6671).
(16) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 134).
(17) برد الأكباد لابن ناصر الدين (ص:84).
(18) أخرجه مسلم (918).
(19) أخرجه ابن حبان (2920).
(20) أخرجه الترمذي (2399).
(21) تطريز رياض الصالحين (ص: 51).
(22) أخرجه مسلم (2636).
(23) أخرجه الألباني في الصحيحة (1408).
(24) دروس للشيخ علي القرني (7/ 13)، بترقيم الشاملة آليًا.
(25) أخرجه البخاري (7377)، ومسلم (923).
(26) دروس للشيخ علي القرني (7/ 22)، بترقيم الشاملة آليًا.
(27) العاقبة في ذكر الموت (ص: 155).