خاطِب قلبه، تُسمِع عقله
«إن البشر، كبارًا وصغارًا، هم كائنات عاطفية في المقام الأول، والجانب العقلاني فيهم أضعف مما نظن؛ ولذا، فإن معظم الناس توجههم عواطفهم في معظم شئونهم، ويتصرفون على مقتضى عقولهم ومسلماتهم الفكرية.
والأطفال على وجه الخصوص مشاعرهم كاملة، وتجاربهم محدودة؛ ولهذا السبب فإن المسائل العاطفية تكون شديدة التأثير فيهم.
إن عالَم الأطفال عالم غريب، والتأثير فيه يتطلب أن نتمكن من الدخول إليه، فما هو الطريق الذي يوصلنا إليه؟ وما هو الباب الذي يمكننا أن نلج منه؟
ليس هناك سوى باب واحد، هو باب اللطف والرحمة والعطف والحنان والبذل، من خلال الهدية والخدمة والملاطفة والبسمة والنظرة، فتطفح نفوس الأطفال بالسرور والرضا والسعادة والأمن، وفي تلك اللحظة يصبح الباب مفتوحًا للدخول إلى نفوسهم وعقولهم، وزرع القيم والمبادئ والمفاهيم والأفكار فيها»(1).
إن كثيرًا من الآباء والأمهات يسعون بكل عزيمة وقوة إلى أن يمتلكوا قلوب وعقول أبنائهم؛ حتى يوجهوهم التوجيه الصحيح في حياتهم العملية والعلمية والدينية، وتصويب علاقاتهم الاجتماعية، وغير ذلك من أمور الحياة، والأبوان لن يصلا إلى تلك المرحلة إلا إذا استطاعا أن يخاطبا أولادهما بالطريقة المناسبة، وهي الخطاب بالحب.
إن التحدث إلى الأبناء وتربيتهم بالحب هو أسرع وأقصر الطرق إلى قلب الأبناء، فهو يبني ولا يهدم، يرفع ولا يخفض، يشجع ولا يثبط، يُطَمْئِن ولا يخوف.
فالحب يبني جسور التواصل والاتصال الفعال، فيكون سببًا لوجود هذا الجو الدافئ بين الآباء والأمهات.
إن الآباء والأمهات حين يغرسون بذرة الحب في قلوب أبنائهم، فهم بذلك يحولونهم إلى جنود يحرسونهم، ومحبين يسهرون على خدمتهم، ويسعون إلى تلبية طلباتهم؛ لأن الذي يحب أحدًا يحرص كل الحرص على أن يسعده، وأن يلبي رغباته؛ بل إن الابن يظل متشوقًا لتلبية ما يطلبه منه أبوه أو أمه، فالدنيا كلها تختزل في شخص الوالدين، فيصبح إرضاء الوالدين وسعادتهما إرضاءً للدنيا كلها، ويشعر بأن السعادة تملأ عليه نفسه.
وعليه، فإن نصائح الآباء والأمهات لأبنائهما لن تكون مجرد كلام جاف خالٍ من المشاعر والأحاسيس، ينتهي أثر هذا الكلام بمجرد الانتهاء من لفظه؛ بل يجب أن تكون هذه النصائح رغبات للأبناء أنفسهم، ومطالب تأتي على لسان الآباء والأمهات.
يجب على الآباء والأمهات أن يُبَيِّنا لأبنائهما أن حبهما إياهم هو ما يدفعهم إلى توجيههم وتصحيح أفعالهم، وهما في ذلك يقتديان بالقدوة العظمى محمد صلى الله عليه وسلم.
عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده يومًا ثم قال: «يا معاذ، والله إني لأحبك»، فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا والله أحبك، قال: «أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»(2).
في هذا الموقف الرائع، من النبي صلى الله عليه وسلم، يستطيع الآباء والأمهات أن يتعلما كيفية التعامل مع أبنائهم إذا ما أرادوا أن يمنحوهم نصيحة ما.
في أول الأمر أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد معاذ رضي الله عنه، وهذه هي الخطوة الأولى، أن تشعر ابنك بلمسة الحب والحنان والعطف، مسحة على الرأس، وضع الكف على صدره والدعاء له، كل هذه الأمور تزيل جبالًا من العواقب والعوائق التي تقف بين الابن ووالديه.
ثم بعد ذلك أعلم ابنك أنك تحبه، لا بد من ذلك، فكثير من الآباء يقولون ويعلنون أن أبناءهم هم أهم شيء في هذا الوجود، وهذه حقيقة، لكن هل يعلم الأبناء أنفسهم هذه الحقيقة، إن الآباء والأمهات يتفانون في العمل الشاق لأجل الأبناء، وفي جلب كل ما يحتاجونه إليهم، لكن لا بد من إخبار الأبناء أننا نحبهم ونقدرهم، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأوصى من يحب شخصًا أن يخبره بذلك، فعن ابن عمر قال: بينما أنا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فسلم عليه ثم ولى عنه، قلت: يا رسول الله، إني لأحب هذا لله، قال: «فهل أعلمته ذاك؟»، قلت: لا، قال: «فأعلم ذاك أخاك»، قال: فاتبعته، فأدركته، فأخذت بمنكبه، فسلمت عليه وقلت: والله، إني لأحبك لله، قال هو: والله إني لأحبك(3).
فلا ينبغي للآباء والأمهات أن يتركوا للأبناء قراءة حبهما لهم من بين السطور؛ بل يجب أن يصرحا لهم بذلك، فيقولا لهم مثلًا: محمد، إني أحبك يا بني، وإني أُقدِّر ما تفعله.
إن من الأمور الخاطئة، التي غالبًا يقع فيها أكثر الآباء والأمهات، اعتقاد أن دليل محبتهم للأبناء هو جلب الهدايا والملابس وغير ذلك، وهذا خطأ؛ ذلك لأن الحب الحقيقي يتلخص في احترام مشاعر الأبناء وتفهم أحاسيسهم، فلا بد للوالدين أن يصبحا صفحة ماءٍ صافية، يرى فيها الابن مشاعره وأحاسيسه معكوسة فيها، فإذا ما أَلمَّ به أمر، كان على الوالدين أن يتشاركا معه في هذا الشعور والإحساس، وذلك بإعلامه أنهما حزينان لِما ألمَّ به، وحينها يشعر الابن بأن والديه هما حقيقة يعلمان ويشعران ويحسان بما في داخله.
ومن الخطأ أن يتعامل الوالدان مع شعور الابن بطريقة التساؤل عن سبب ما هو فيه، فعندما يعود الابن من المدرسة غاضبًا ويقول: «ضُربت في المدرسة»، فلا ينبغي للوالدين أن يسألا ابنهما عن سبب ضرب المدرس أو المدرسة له، أو أن يقولا له: «لا بد أنك فعلت ما تستحق عليه الضرب»، هذا كله خطأ؛ لأنه يُشعِر الابن أن والديه لا يشعران بذلك الألم الذي بداخله نتيجة لما وقع به.
لذا، ينبغي على الوالدين أن يسترسلا مع ابنهما في شعوره هذا، ثم يحاولان بعد ذلك تصحيح الموقف، فإن مشاعر الابن تقل حدتها، وتضعف شدتها، وتفقد قسوتها عندما يتقبلها والداه بالمواساة والفهم والاحترام.
«إن العظمة الحقيقية في تربية أبنائنا أن نتعامل معهم ونحن مشبعون بروح التفهم لمشاعرهم، والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، والرغبة الحقيقية في تصويب أخطائهم، مع الحفاظ على مشاعرهم وأحاسيسهم عبر منحهم العطف على أخطائهم، والود الحقيقي لهم، والعناية باهتماماتهم وهمومهم.
ومن ثم يمنحونا هم، في المقابل، هذا الذي أعطيناهم، حبهم ومودتهم وثقتهم؛ لأنهم شعروا بالأمن في جوارنا، وبالثقة في مودتنا، وبالسعة في صدورنا لكل ما يقولون أو يفعلون، وقبل كل ذلك وبعده، شعروا بتفهمنا لمشاعرهم، وأننا نعكسها لهم كأفضل ما تكون "مرآة المشاعر"»(4).