المرأة وطلب العلم
لا يخفى على كل ذي لب أهمية العلم الشرعي في حياة المسلم والمسلمة، فهو المطية الموصلة لغاية عظيمة خلق لأجلها الخلق، ألا وهي تحقيق عبودية الله جل وعلا في هذه الحياة الدنيا، ولقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على تأكيد فرضية العلم، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} [محمد:19] الآية.
فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، ليبيّن قيمة العلم، وعدم تهوينه والتساهل في طلبه.
وجاء أيضًا في السنة المطهرة بيان وجوبه، فقال عليه الصلاة والسلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»(1).
والآثار التي وردت في فضل العلم لا تقل عن الآثار التي وردت في فضل الجهاد، وكلاهما ينبعان من نبعة واحدة، وهي إعلاء كلمة الله، فالأول لبيان الحق، والثاني للذود عن حياضها، وتغيير السبل أمامها؛ حتى لَا يعوقها طاغ من طغاة الأرض(2).
وهذا الحديث يشمل الرجال والنساء على حد سواء، لا فرق بينهما في تحصيل العلم الشرعي، وكما هو معلوم أن الخطاب إذا ورد بلفظ المذكر كان خطابًا للرجال والنساء، إلا مواضع الخصوص، ويصدق هذا القول حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما النساء شقائق الرجال»(3)، فهن شقائق الرجال في جميع الأحكام الشرعية إلا ما خصه الدليل كما ذكرنا.
فمن هنا تظهر أهمية العلم في حياة المرأة المسلمة؛ وقد تفطنت الصحابيات الجليلات في عهد النبوة لحاجتهن إلى العلم الشرعي مثلهن في ذلك مثل الرجال، فطلبن من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصص لهن يومًا يجتمعن فيه يعلمهن مما علمه الله، هذا مع قيام أزواجهن بمهمة التبليغ، فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يومًا نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله)، فقال: (اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا)، فاجتمعن فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله»(4).
فأقرهن النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العلم والتعلم، واعتنى بهن، وكان عليه الصلاة والسلام حريصًا على تبليغهن أحكام الشريعة؛ ليتمكنَّ من عبادة الله عز وجل على أكمل وجه، ولا سبيل لذلك إلا بالعلم.
وللإمام ابن باديس رحمه الله تعالى كلام نفيس في هذا المقام، يقول فيه: «كان الرجال يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم فيحيطون به للتعلم، فلا يستطيع النساء مزاحمتهم عليه، وكن يجلسن في آخر صفوف المسجد، فإذا تحدث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعلم بعد الصلاة لا يتمكنَّ من كمال السماع، وكانت لهن رغبة في العلم مثل الرجال؛ إذ كلهن يعلمن أنهن مكلفات بأحكام الشريعة مثلهم؛ لذا سألن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيّن لهن يومًا باختياره هو يخصصهن به، فأجابهن إلى ما طلبن، ووعدهن يومًا بعينه، ووفى لهن بوعده، فلقيهن في ذلك اليوم وحدثهن، فوعظهن وأمرهن بأشياء مما عليهن من أمر الدين»(5).
فإذا كان هذا حال الصحابيات في القرون المفضلة، وقد شعرن رضي الله عنهن بحاجتهن إلى العلم، فما بال حال نسائنا في هذا الزمان، فهذه حقيقة لا بد أن تدركها النساء والأمهات والآباء والمجتمع بأسره؛ لأنه أصبح حاجتها إلى العلم أعظم من حاجتها إلى الطعام والشراب؛ وهذا ما ذكره الإمام أحمد، قال: «الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه في كل وقت»(6).
وإننا نتعجب، والله، اليوم من أناس يثبّطون النساء عن طلب العلم، أو يزهدونهن في التحصيل العلمي؛ بل وينصحونهن بالاكتفاء بالطهارة وبعض مسائل الفقه التي لا بد منها، وكأن لسان حالهم يقول أن ميادين العلم الشرعي هي من اختصاص الرجال، فإني أقول لهؤلاء أن باستطاعة المرأة أن تنافس الرجل في كل علم وفن، وقد تفوق الرجال في سعة العلم والاطلاع، وقد سجّل التاريخ بالدليل والبرهان، كما جاء في بطون كتب السير خلال القرون الذهبية، أنه وجد من النساء من كن عالمات زاهدات، وشيخات فاضلات؛ بل ومحدثات حافظات، تتلمذ على أيديهن فحول العلماء من الرجال، وعلى رأسهن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن، اللواتي كن مرجعًا في شتى العلوم، يدلين من نبعهن السيّال ما نفع الله به الأمة بأسرها.
ألا يعلم هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فاظفر بذات الدين تربت يداك»(7)، فنبئوني يا أولي الألباب: هل تديّن المرأة يكون بغير علم؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه»(8).
ولا أبالغ إن قلت أن طلب العلم للمرأة أوكد في حقها من الرجال، لعظم المسئولية المناطة بها، لقوله عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»(9)، فإنه عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أجمل أولًا ثم فصل، فقال: «كلكم راع»، ثم خصص المرأة بالذكر فقال: «والمرأة راعية على بيت زوجها وولده»، للتنبيه على عظم مسئولياتها في بيت الزوجية؛ فهي مسئولة عن أعز ما يملك الرجل، وهو العرض والمال والأبناء؛ ولا يتأتى لها ذلك إلا بالعلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة من السعادة وثلاثة من الشقاء، فمن السعادة: المرأة الصالحة تراها فتعجبك، وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك»(10).
فالمرأة هي المدرسة الأولى لتكوين الرجال، ولا بد لهذه المهام من عدة، كما قال الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»(11)، معنى ذلك: من لم يرد الله به خيرًا لا يفقهه في الدين.
إن حضور المرأة المسلمة درس العلم النافع في المسجد، وغشيانها حِلق الذكر، محتسبةً خطواتِها التي تمشيها من بيتها إلى المسجد، وانطلاقًا من نية خالصة لله تعالى، وعزيمة صادقة على المثابرة، على تعلم العلم الذي يعرف به الله، وتتحقق به خشية المسلمة لربها، لهما من أهم العوامل المثبتة لها على طريق الهداية.
إن المرأة المسلمة عندما تحرص على حضور درس العلم ابتغاء مرضاة الله عز وجل، إنما بذلك تزيل الجهد عن نفسها، وتحسن عبادتها لله تعالى، وتتعرف على أخواتها المسلمات؛ فمن هذه تتعلم السمت الحسن، ومن هذه تتعلم التواضع وحسن الخلق، ومن هذه تتعلم كيف تحفظ كتاب الله، ومن هذه تتعلم كيف تستن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الفوائد والثمار التي تجنيها المسلمة من لزوم حضور درس العلم.
أليس درس العلم وجلسات حفظ القرآن وتلاوته وتجويده هي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده»(12).
إن كثيرًا من النساء اليوم لا يعلمن من الدين إلا القليل، فهي تتتعتع في تلاوة القرآن، ولا تعرف فقه الصيام، وتتخبط في أحكام العمرة والحج إن سافرت لتأديتهما، إلى غير ذلك من أبواب العبادات والمعاملات، وعلاج ذلك إنما هو العلم، إما بالقراءة، أو سماع الشريط الإسلامي، أو حضور دروس العلم.
إن المرأة الصالحة هي التي تحاول أن تأخذ بحظ وافر من العلم الشرعي، انطلاقًا من قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وقوله تعالى أيضًا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»(13).
وهذه نماذج بسيطة تبرز لنا مكانة المرأة في تحصيلها للعلم الشرعي، الذي به تخشى الله تعالى.
فهذه أم الدرداء تقول عن نفسها: «لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما أصبت لنفسي شيئًا أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم».
وهذه أم الخير الحجازية، تصدرت حلقات وعظ وإرشاد المسلمات بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه في القرن الرابع الهجري.
وهذه فاطمة بنت السمرقندي، كانت عالمة بالفقه والحديث، أخذت العلم عن جملة من الفقهاء، وأخذ عنها كثيرون، وكان لها حلقة للتدريس، وألفت مؤلفات عديدة في الفقه والحديث.
وهذه زوجة الحافظ الهيثمي، كانت تساعد زوجها في مراجعة كتب الحديث.
وهذه أم زينب فاطمة بنت عباس البغدادية، كانت تصعد المنبر، وتعظ النساء، وانتفع بتربيتها والتخرج عليها خلق كثير، وكانت عالمة موفورة العلم في الفقه والأصول(14).
المرأة تطلب العلم لأمور، منها:
1- رفع الجهل عن النفس: ولا شك أن هذا من المطالب الشرعية، فالجاهل عدو لنفسه؛ فهو قد يورد نفسه موارد الهلاك بترك بعض العبادات التي هي من قبيل الواجبات، وقد يؤديها على غير وجهها الشرعي، فهي إلى البطلان أقرب.
تقول إحدى الفتيات كنت في الثانوية، وبالتحديد في السنة الثانية منها، فكنت أصلي صلاة المغرب وبجواري فتاة أصغر مني، تقول: فقمت ولم أجلس للتشهد الأول، فلما انتهيت من الصلاة قالت لي تلك الفتاة: لماذا لم تسجدي سجود السهو؟، تقول: فنظرت إليها بازدراء، فقلت في نفسي: ما أجهلها، وكنت أظن أن صلاة المغرب ليس فيها إلا تشهدًا واحدًا، وإذا بي قد خلفت ورائي سنين عديدة لا أجلس لصلاة المغرب إلا في التشهد الأخير جهلًا مني، وهذه الفتاة إنما أنكرت عليً ظنًا منها أنني لا أعرف حكم سجود السهو، فكيف لو علمت أنني لا أعلم كيف أصلي المغرب؟
قلت: ولا شك أن هذه صورة من الصور التي تتكرر في أوساط النساء، مع بالغ الأسف، والمتأمل في حال النساء في مسائل الحيض مثلًا يدرك حاجتهن إلى العلم الشرعي ورفع الجهل عن أنفسهن.
2- ما يلحظ في هذه الآونة من الحملات المستعرة ضد المرأة المسلمة، من خلال تلك الهجمات على المسلمات، والثوابت الشرعية، من خلال إثارة الشهوات والشبهات في طريق المرأة المسلمة.
إن من أعظم الوسائل المعينة على الثبات حتى الممات التعبد لله تعالى على بصيرة وسنة، وهذا لا يكون إلا بطلب العلم الشرعي؛ ليكون هذا العلم حاجزًا ومانعًا من التأثر بذلك النتن الذي يثيره أعداء الإسلام والملة، في كل مناسبة وفي كل حين، وعند هذا المعنى يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في منظومة القواعد الفقهية:
اعلم هديت أن أفضل المنـن علم يزيل الشك عنك والدرن
ويكشف الحق لذي القلوب يوصل العبـد إلى المطلوب(15).
فقد ذكر رحمه الله تعالى في هذين البيتين أن العلم الشرعي، وهو المراد به هنا؛ لأن العلم إذا أطلق فإنما يراد به العلم الشرعي، وأما غيره من العلوم فلا يذكر إلا مقيدًا، فيقال علم الطب مثلًا، وهكذا، أقول: فهو يبين من خلال هذين البيتين أن العلم الشرعي يزيل أدران الشهوات والشبهات، وأنه يوصل العبد إلى المطلوب؛ أي الدار الآخرة، وهذه هي الغاية التي من أجلها خلق الإنسان.
3- إصلاح الخلل من الفتن والمنكرات التي تعج بها أوساط النساء، وكم يوجد بحمد الله تعالى من نسائنا من لا تقر المنكر ولا ترتضيه، لكن بضاعتها في العلم مزجاة، فهي تنكر بعاطفتها ليس إلا؛ ولذا فهي تقف حائرة في كثير من الأحيان، فقد تطلب منها فلانة، وهي محقة في ذلك، الدليل على حرمة ما ارتكبته مثلًا، وقد تبتلى بمعاندة تورث الشبهات، فما لم تكن الفتاة الخيرة عندها علم بما تدعو إليه فقد تفسد أكثر مما تصلح، وهذا هو المعني بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨]، ولا سبيل للدعوة إلى الله على بصيرة إلا بالعلم الشرعي، ولكن مع ذلك أقول: لا يشترط في الآمرة الناهية أن تكون علَّامة بما أمرت به أو نهت عنه .
4- موقع المرأة في المجتمع، فهي المجتمع بأسره، فهي نصفه وتربي النصف الآخر، فأنظار الأطفال في البيت تتوجه إليها أكثر من أنظارهم إلى والدهم؛ لطول مكثهم معها، وإباحة الأولاد بأسرارهم لأمهاتهم أكثر لحنانهن وعاطفتهن، فقد يتجاسر الأولاد على الأم ما لا يتجاسرون مع الأب؛ فلهذا وغيره يظهر أهمية العلم بالنسبة للمرأة؛ لتكون تربيتها لأولادها مستقاة من هذه الشريعة المباركة، وهذا لا يتأتى إلا بالعلم الشرعي.
5- مجابهة تلك الدعوات الآثمة؛ من خلال تلك التجمعات النسائية المشبوهة، من ثلة تحللن من ربقة الحياء والشرف، فيضعن الخطط والبرامج من أجل قذف المرأة في مهاوي الردى والرذيلة؛ ولذا كان لزامًا على الثلة الصالحة أن يجتمعن على هدي الكتاب والسنة، ويربين غيرهن على ذلك، ويمسكن بزمام الأمور قبل أن يفلت القيد وتحل الخطيئة فتقع المصيبة، ولا نجاح لرد تلك الدعوات الآثمة إلا بدعوة النساء إلى الكتاب والسنة، وهذا إنما يكون عن طريق طلب العلم الشرعي قبل التصدر لذلك.
6- إدراك فضيلة العلم الشرعي، والنساء إنما هن شقائق الرجال، لما روى أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النساء شقائق الرجال»(16)، فإدراك فضيلة العلم والحث على ذلك إنما هو للمرأة كما هو للرجل، إن فضل العلم لعظيم، وإن شرفه لعال رفيع، فكم من وضيع رفعه العلم إلى مصاف الشرفاء، وكم من حقير نظمه العلم في سلك العظماء، به شرف آدم في الملأ الأعلى، وبه فاز أهله بالدرجات العلى، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، ولو لم يكن العلم أشرف شيء في الحياة لما طلب الله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل المزيد منه في {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
ألا وإن من فضائل العلم ما رواه مسلم في صحيحه أن عمر سأل أحد ولاته قائلًا: «من استخلفت على أهل الوادي؟»، يريد مكة، قال: «استخلفت ابن أبي أبزى، رجل من موالينا»، فقال عمر: «استخلفت عليهم مولى؟!»، فقال: «يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاص»، فقال عمر: «أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين)»(17)، فلننظر كيف رفع العلم مولى من موالي العرب إلى مقام عليتهم.
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(18).
والآيات والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصر، وإنما يُكتفى من السوار ما أحاط بالمعصم، ولهذا تفطن سلف هذه الأمة إلى هذه المنقبة العظيمة، فكانت لهم مآثر وأقوال حول فضل طلب العلم.
ودلالة هذا الخبر على فضيلة العلم أنه خير ما يكتسب المرء في هذه الحياة، فهو أفضل حتى من نوافل العبادات، إلى غير ذلك من النصوص والنقولات التي تدل على مكانة العلم وفضله، ولا شك أن المرأة المسلمة مطالبة بالسعي إلى إدراك هذا الفضل، فتنبهي لذلك يا طالبة العلم.
7- تنوع المصادر العلمية الخسيسة الرخيصة التي توجه من خلالها السهام إلى المرأة المسلمة: من خلال المجلة الهابطة، والقصص الغرامية الداعرة، ومجلات الأزياء التي تورث التبعية والتشبه بالكافرات، فما لم يكن للمرأة المسلمة حظًا من الانكباب على قراءة الكتب النافعة، خاصة الفتاة القارئة، فإنه حري بها أن تنزلق في مهاوي الردى، حينها لا تعدو ثقافتها إلا بتعلم وسائل الشهوة، وإثارتها بنفسها، وبغيرها من خلال المصادر المتقدمة الآثمة، وكم نرى في واقعنا من فتياتنا من تكتب في الحب والغرام وللحب والغرام؛ بل وتقتني كل ما يدعو إلى ذلك من أي المصادر المقروءة، فعلى الفتاة المسلمة أن تنكب على طلب العلم من مصادره الشرعية السليمة الموثوقة؛ لتسلم حينها من الانزلاق في مستنقعات الفكر والثقافة الغربية أو المستغربة الحاقدة(19).
تنبيه لا بد منه:
يتعجب المرء عجبًا شديدًا، ومخيفًا في نفس الوقت، عندما يرى بنات المدارس والجامعات ومدى إقبالهن على العلم الدنيوي والحرص عليه، وبذل الوقت والجهد في تحصيله من أجل قروش زهيدة، أو مكانة اجتماعية زائلة، ثم لا يرى منهن، ولو النزر اليسير، في السؤال عن دينهن، والحرص على طلب العلم فيه.
ينقسم النساء إزاء طلب العلم الشرعي إلى ثلاثة أقسام:
- قسم يطلبه بجد وإخلاص واجتهاد.
- وقسم أهمله بالكلية وأعرض عنه تمامًا.
- وقسم يأخذ منه تارة ويعرض عنه تارة أخرى.
لذا كان من الجدير بالذكر هنا ذكر أهم الوسائل المعينة والمحمسة لطلب العلم، حتى تتدارك المهملة نفسها، وتنتبه المقصرة إلى تقصيرها.
لذا فإني أوصي النساء بدراسة هذه الوسائل جيدًا، ومراجعتها بين الحين والآخر كلما فترت همتهن، وضعفت عزيمتهن، وهذه الوسائل:
1- معرفة فضل العلم:
قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، فالذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم (20).
والعلماء هم الذين أوجب الله الرجوع إليهم في المسائل والنوازل والحوادث، وأنهم هم الذين يخشون الله حق خشيته، وهم الذين قرن شهادتهم وشهادة الملائكة على أعظم شيء وهو التوحيد، وهم الذين ألزمهم الله تعالى دراسة الشريعة والفقه في الدين، وهم الذين يأتون القيامة مكرمين بين يدي ربهم؛ لأنهم هم الذين درسوا وحيه، وأوصلوه إلى الناس، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، وقال أيضًا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال أيضًا: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
وقال أيضًا: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].
وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حضر العلماء ربهم يوم القيامة كان معاذ بن جبل بين أيديهم بقذفة حجر»(21).
وعن أبي عنبة الخولاني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة»(22).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا»(23).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة»(24).
2- الحاجة إلى العلماء:
قال الحسن رضي الله عنه: «لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم»(25).
فلو لم يكن ثم عالم فمن يفتي الأمة؟ ومن يجادل أعداء الله؟ ومن يدافع عن الدين؟ ومن يقيلنا من عثرتنا؟
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أصحابه، وإدبار الدين موت العلماء»(26).
3- أن تَعلم المسلمة أن فضل العلم أحسن من فضل العبادة وأحب إلى الله:
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع»(27).
ولو قارنا مثلًا بين العلم والمال لوجدنا:
العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الأغنياء.
العلم يحرس صاحبه، والمال يحرسه صاحبه.
صاحب العلم يدخل معه علمه إلى قبره، والمال يغادر صاحبه إذا دخل القبر.
العلم يدعو إلى التواضع، والمال يدعو إلى الطغيان والفخر والخيلاء.
المال تذهبه النفقات، والعلم يزكو بالنفقة.
4- التفكر في الجهل وعاقبته ومغبته، قال الشعبي: «اتقوا الفاجر من العلماء، والجاهل من المتعبدين؛ فإنه آفة كل مفتون»(28).
فالجهل مصيبة المصائب، وآفة الآفات في المجتمعات، فإذا حلَّ الجهل في أمة من الأمم لا يكون مصيرها إلا الهلاك والبوار.
5- التدبر في أن العلم يعصم الناس من الفتن، فأهل العلم هم الذين يثبتون في المحن والابتلاءات ويثبتون الناس(29).
وأفلح تعليم المرأة المسلمة في عصور الإسلام الزاهية، فكانت نوابغ النساء في كافة الفنون، وتشهد بذلك مدونات الإسلام، ويفتخر عددٌ من الرجال بمشيخة عددٍ من النساء، مع كمال الحشمة والعفة والوقار، وظلت المرأة المسلمة نموذجًا يحتذى في العلم والفقه والعزة بالإسلام، لا في عصر النبوة فحسب؛ بل فيما تلاها من القرون أيضًا، وإذا تجاوزنا أمثال عائشة رضي الله عنها، نموذج العلم والفقه الأول، فهذه بنت سعيد بن المسيب رحمهما الله، حين دخل بها زوجها وكان من طلبة والدها، وأصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج، فقالت له زوجته، بنت سعيد: «إلى أين تريد؟»، قال: «إلى مجلس سعيد أتعلم العلم»، فقالت له: «اجلس أعلمك علم سعيد»(30).
ومن لوازم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [التحريم:6]، أن يُعلِّمَ الوالد أهله، سواءً كانت زوجة أو كانت ابنة أو كان ابنًا، فالوقاية من النَّار تكون بالعمل الصالح، والعمل الصالح لا يكون صالحًا إلا إن كان بعِلم.
الشاهد أن المرأة يجب عليها أن تتعلم دين الله، وهذا وجوب عيْنِي عليها فيما يخص الواجبات في اليوم والليلة، فالمرأة تعيش وتموت ولا تعرف أحكام الحيض، وأحكام الحيض تلزمها كل شهر، هذا استخفاف بالدين؛ لذا النساء يُكثِرْنَ من السؤال عن أحكام الحيض في رمضان، والصلاة، الصلاة أهم من الصيام، الصلاة تضيع كثير من النساء إذا لم تعلم أحكام الحيض، تصلي وهي حائض إن كانت تميل للشدة، أو كانت تميل للدعة والسهولة، تترك الصلاة وهي طاهرة؛ لأنها لا تحسن وضع الضوابط الشرعية ومعرفة القضايا بالتفصيل، ثم هذا الأمر لا يخصها فقط، فهذا الأمر يخص بناتها، فإذا هي لم تتعلم فبناتها لم يتعلمن، وما أنجبت هذه البنات من بنات كذلك لا يتعلمن، تبقى هذه السلسلة إلى يوم الدين، وهذه مصيبة كبيرة من المصائب، أن يضيع وأن يفرط المرء في دين الله جل في علاه(31).
***
______________
(1) أخرجه ابن ماجه (224).
(2) زهرة التفاسير (7/ 3485).
(3) أخرجه أبو داود (236).
(4) أخرجه البخاري (7310)، ومسلم (2633).
(5) آثار ابن باديس (2/ 198).
(6) المرأة وطلب العلم الشرعي، موقع: أخوات طريق الإسلام.
(7) أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466).
(8) صحيح الترغيب والترهيب (1/ 136).
(9) أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829).
(10) صحيح الجامع الصغير (3053).
(11) أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037).
(12) أخرجه ابن حيان (855).
(13) أخرجه أبو داود (3641).
(14) المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها (3/ 98).
(15) ملتقى أهل اللغة (10/ 1496).
(16) تقدم تخريجه.
(17) أخرجه مسلم (817).
(18) أخرجه الترمذي (1376).
(19) لماذا تطلب المرأة العلم الشرعي، موقع: المجلس العلمي.
(20) تفسير القرطبي (15/ 240).
(21) صحيح الجامع الصغير (1680).
(22) صحيح الجامع الصغير (7692).
(23) أخرجه مسلم (2674).
(24) أخرجه الترمذي (2646).
(25) إحياء علوم الدين (1/ 11).
(26) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، ص37.
(27) أخرجه الحاكم في المستدرك (314).
(28) مختصر منهاج القاصدين، ص15.
(29) المرأة وطلب العلم، منتديات الألوكة.
(30) عناية النساء بالحديث النبوي، ص6.
(31) فضل طلب العلم للنساء، فضيلة الشيخ مشهور بن حسن.