جلباب المسلمة
حرَّم الإسلام كل ما يمكن أن يؤدي إلى إثارة غرائز الإنسان، أو تهييج شهواته، ولهذا جاء الأمر الرباني للمسلمين بأن يغضوا من أبصارهم، وأمر المسلمات بارتداء الحجاب، يحفظن به أنفسهن، وحرَّم عليهن التبرج والسفور، ومخالطة الرجال غير المحارم، قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
ولأن أمر الحجاب في الإسلام عظيم، فقد جاء الأمر الرباني للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام بأن يأمر أزواجه وبناته قبل نساء المؤمنين بارتداء الحجاب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59].
والجلباب ثوب أوسع من الخمار، تغطي به المرأة بدنها فهو فوق الثياب كلها، وهو يشبه العباءة، عندنا، وفي حديث أم عطية لمَّا أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بالخروج للعيد قالت: «يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟»، قال: «لتلبسها أختها من جلبابها»(1).
قال القرطبي: «والصحيح أنه [يعني الجلباب] الثوب الذي يستر جميع البدن»(2).
ونقل عن الإمام ابن حزم قوله: «والجلباب في لغة العرب، التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه»(3).
قال الشيخ بكر أبو زيد: «إن ستر الجلباب للوجه وجميع البدن وما عليه من الثياب، الزينة المكتسبة، هو الذي فهمه نساء الصحابة رضي الله عنهم»(4).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] فحجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج زينب بنت جحش، فأرخى الستر، ومنع النساء أن ينظرن، ولما اصطفى صفية بنت حُيَيّ بعد ذلك، عام خيبر، قالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، فحجبها، فلما أمر الله ألا يسألن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب هو الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره: الرداء، وتسميه العامة: الإزار، وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها.
وقد حكى أبو عبيد وغيره: أنها تُدْنِيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب، فكن النساء ينتقبن، وفي الصحيح أن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين(5)، فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب، كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب»(6).
قال الشيخ بكر أبو زيد: «معلوم أن العمل المتوارث، المستمر من عصر الصحابة رضي الله عنهم فمَن بعدَهُم، حجة شرعية يجب اتباعها، وتلقيها بالقبول، وقد جرى الإجماع العملي بالعمل المستمر المتوارث بين نساء المؤمنين على لزومهن البيوت، فلا يخرجن إلا لضرورة أو حاجة، وعلى عدم خروجهن أمام الرجال إلا متحجبات غير سافرات الوجوه، ولا حاسرات عن شيء من الأبدان، ولا متبرجات بزينة، واتفق المسلمون على هذا العمل، المتلاقي مع مقاصدهم في بناء صرح العفة والطهارة والاحتشام والحياء والغيرة، فمنعوا النساء من الخروج سافرات الوجوه، حاسرات عن شيء من أبدانهن أو زينتهن.
فهذان إجماعان متوارثان معلومان من صدر الإسلام وعصور الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حكى ذلك جمع من الأئمة، منهم الحافظ ابن عبد البر، والإمام النووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم يرحمهم الله تعالى، واستمر العمل به إلى نحو منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وقت انحلال الدولة الإسلامية إلى دول»(7).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لم تزل عادة النساء قديمًا وحديثًا أن يسترن وجوههن عن الأجانب»(8).
قال الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم، بعد أن نقل أقوالًا لكثير من علماء المذاهب الأربعة(9) تنبيهات:
الأول: نستطيع أن نخلص مما تقدم بأن علماء المذاهب الأربعة متفقون على وجوب تغطية المرأة جميع بدنها عن الأجانب، سواء من يرى أن الوجه والكفين عورة، ومن يرى أنهما غير عورة؛ لكنه يوجب تغطيتهما في هذا الزمان لفساد أكثر الناس ورِقّة دينهم، وعدم تورعهم عن النظر المحرم إلى وجه المرأة، الذي هو مجمع المحاسن، ومعيار الجمال، ومصباح البدن.
قال الدكتور عبد الله ناصح علوان، بعد أن ذكر الآيات والأحاديث وأقوال الفقهاء المتعلقة بموضوع تغطية الوجه: «ويتضح مما قاله الأئمة المجتهدون أن وجه المرأة عورة وأن ستره واجب، وأن كشفه حرام، حتى فقهاء الحنفية الذين ذهبوا إلى جواز الكشف فإنهم قيدوه بأمن الفتنة، وهل أحد ينكر إشاعة الفساد والفتنة في المجتمع الذي نتخبط فيه، وفي المحيط الذي نتعايش معه؟»(10).
الثاني: أجمع العلماء على مشروعية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب، فقد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن المنذر أنه قال: «أجمعوا على أن المرأة المحرمة تلبس المخيط كله، والخفاف، وأن تغطى رأسها، وتستر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الأجانب»(11).
وهذا يقتضي أن غير المحرمة مثل المحرمة فيما ذكر؛ بل أوْلى(12)، وفيه دليل واضح، وكشف فاضح لجهل من ادعى أن النقاب بدعة لا أصل لها في الإسلام.
الثالث: أنه رغم الخلاف القديم بين الفقهاء في هذه المسألة إلا أنه بَقِيَ خلافًا نظريًا إلى حد بعيد، حيث ظل احتجاب النساء هو الأصل في الهيئة الاجتماعية خلال مراحل التاريخ الإسلامي، وفيما يلي نُقُول عن بعض الأئمة تؤكد أن التزام الحجاب كان أحد معالم سبيل المؤمنين في شتى العصور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الحرة تحتجب والأَمَة تبرز»(13).
ونقل الإمام ابن رسلان رحمه الله اتفاق المسلمين على منع خروج النساء سافرات(14).
وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: «لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات»(15).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: «إن العمل استمر على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال»(16).
قال الشيخ بكر أبو زيد: «وهذه الآية صريحة على أنه يجب على جميع نساء المؤمنين أن يغطين ويسترن وجوههن وجميع أبدانهن وزينتهن، وفي هذا تميز لهن عن اللائي يكشفن من نساء الجاهلية؛ حتى لا يتعرضن للأذى ولا يطمع فيهن طامع، ومعنى الجلباب في الآية هو معناه في لسان العرب، وهو اللباس الواسع الذي يغطي جميع البدن، وهو بمعنى الملاءة والعباءة، فتلبسه المرأة فوق ثيابها من أعلى رأسها مُدْنية ومُرخية له على وجهها وسائر جسدها، وما على جسدها من زينة مكتسبة، ممتدًا إلى ستر قدميها»(17).
الدليل الخامس: قال صلى الله عليه وآله وسلم: «المرأة عورة»(18) قال الشيخ التويجري: «وهذا الحديث دالٌّ على أن جميع أجزاء المرأة عورة في حق الرجال الأجانب، سواء في ذلك وجهها وغيره من أعضائها»(19).
وفي الحديث الصحيح في قصة الإفك لما تخلفت عائشة عن الركب، وجاء صفوان بن المعطل ووجدها، وكان قد تخلف عن الجيش، فجعل يسترجع ويقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، قالت عائشة: «فاستيقظتُ [كانت نائمة] لاسترجاع صفوان، فخمرت وجهي بجلبابي، وكان يعرفني قبل الحجاب»، فهذا الحديث رواه البخاري في الصحيح، وهو يدل على أن النساء قبل الحجاب كن يكشفن الوجوه، وبعد الحجاب كن يسترن الوجوه، قالت: «فاستيقظت لاسترجاع صفوان، فخمرت وجهي بجلبابي، وكان يعرفني قبل الحجاب»(20).
فقوله تعالى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، الإدناء شيء زائد على لبس الجلباب، يقال: أدن الثوب من وجهك، يعني: غطه به.
هذا كلام العلماء في غير زمان الغربة الذي نحن فيه الآن، حيث صار كل من هب ودب يتطاول على الدين، ويسترسل مع الموجة الشيطانية، التي نحن فيها، حيث صرنا نسمع نوعًا من الافتراء على الله وعلى كتاب الله تبارك وتعالى في تفسيره، فهذه الآية باتفاق المفسرين في هذا المعنى.
فقوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ}، يعني: هن في الأصل لابسات الجلباب، لكن أمرن بشيء زائد على الجلباب، ألا وهو الإدناء بتغطية الوجه.
شروط الجلباب:
1- استيعاب جميع البدن.
2- ألَّا يكون زينةً في نفسه.
3- أن يكون صفيقًا لا يشف.
4- أن يكون فضفاضًا غير ضيق.
5- ألا يكون مبخرًا مطيبًا.
6- ألا يشبه لباسَ الرجل.
7- ألا يشبه لباسَ الكافرات.
8- ألا يكون لباسَ شُهرة.
واعلم أن بعض هذه الشروط ليست خاصة بالنساء؛ بل يشترك فيها الرجال والنساء معًا كما لا يخفى، وبعضها يحرم عليها مطلقًا، سواء كانت في دارها أو خارجها؛ كالشروط الثلاثة الأخيرة(21).
وقال الحافظ ابن كثير: «أي: لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابن مسعود: كالرداء والثياب، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكن إخفاؤه»(22).
قال ابن عطية: «ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن، ونحو ذلك فـ {مَاَ ظَهَرَ} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه»(23).
ولذلك قال الإمام الذهبي في كتابه (الكبائر): «ومن الأفعال التي تُلْعَن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ تحت النقاب، وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت، ولبسها الصباغات والأُزر الحريرية والأقبية القصار، مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها، وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه، ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة، ولهذه الأفعال، التي قد غلبت على أكثر النساء، قال عنهن النبي صلى الله عليه وسلم: «اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء»(24)»(25).
قال الألوسي في روح المعاني: «ثم اعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ثيابهن، ويستترن به إذا خرجن من بيوتهن، وهو غطاء منسوج من حرير ذي عدة ألوان، وفيه من النقوش الذهبية والفضية ما يبهر العيون، وأرى أن تمكين أزواجهن ونحوهم لهن من الخروج بذلك، ومشيهن به بين الأجانب، من قلة الغيرة، وقد عمت البلوى بذلك»(26).
ومثله ما عمت البلوى به أيضًا من عدم احتجاب أكثر النساء من إخوان بعولتهن، وعدم مبالاة بعولتهن بذلك، وكل ذلك مما لم يأذن به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأمثال ذلك كثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قدم من العراق المنذر بن الزبير، فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر، أمه، بكسوة من ثياب مَروية، أي منسوبة إلى مرو، وقُوهية، أي منسوبة إلى قوهستان وهي ناحية بخراسان، رقاق عتاق بعدما كف بصرها، فلمستها بيدها ثم قالت: «أُف، ردوا عليه كسوته»، فشق ذلك عليه، وقال: «يا أمَّه، إنه لا يشف»، قالت: «إنها إن لم تشف فإنها تصف»(27).
وقد قال أُسامة بن زيد: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطيةً كثيفة، مما أهداها له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال: «ما لك لم تلبس القبطية؟»، قلت: كسوتها امرأتي، فقال: «مُرها فلتجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها»(28).
ولذلك قال الشوكاني في شرح هذا الحديث ما نصه: «والحديث يدل على أنه يجب على المرأة أن تستر بدنها بثوب لا يصفه، وهذا شرطُ ساتر العورة، وإنما أمر بالثوب تحته لأن القباطي ثياب رقاق لا تستر البشرة عن رؤية الناظر؛ بل تصفها»(29).
وهو كما ترى قد حمل الحديث على الثياب الرقيقة الشفافة التي لا تستر لون البشرة، فهو على هذا يصلح أن يورد في الشرط السابق، ولكن هذا الحمل غير متجه عندي؛ بل هو وارد على الثياب الكثيفة التي تصف حجم الجسم من ليونتها، ولو كانت غير رقيقة وشفافة، وذلك واضح من الحديث لأمرين:
الأول: أنه قد صرح فيه بأن القبطية كانت كثيفة؛ أي: ثخينة غليظة، فمثله كيف يصف البشرة ولا يسترها عن رؤية الناظر؟ ولعل الشوكاني رحمه الله ذهل عن هذا القيد (كثيفة) في الحديث، ففسر القبطية بما هو الأصل فيها.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح فيه بالمحذور الذي خشيه من هذه القبطية، فقال: «إني أخاف أن تصف حجم عظامها».
وقد قالت عائشة رضي الله عنها: «لا بد للمرأة من ثلاثة أثواب تصلي فيهن: درع وجلباب وخمار»، وكانت عائشة تحل إزارها فتجلبب به(30).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل»(31).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال»(32).
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخَنَّثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: «أخرجوهم من بيوتكم»، قال: فأخرج النبي فلانًا، وأخرج عمر فلانًا»(33).
قال الذهبي: «فإذا لبست المرأة زي الرجال، من المقالب والفرج والأكمام الضيقة، فقد شابهت الرجال في لبسهم، فتلحقها لعنة الله ورسوله، ولزوجها إذا أمكنها من ذلك، أو رضي به ولم ينهها؛ لأنه مأمور بتقويمها على طاعة الله، ونهيها عن المعصية، لقول الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راع في أهله ومسئول عنهم يوم القيامة»(34).
قال شيخ الإسلام: «وكذلك الأمَة إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها وتحتجب، ووجب غض البصر عنها ومنها، وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء، ولا ترك احتجابهن وإبداء زينتهن، ولكن القرآن لم يأمرهن بها أمر الحرائر، والسنة فرقت بالفعل بينهن وبين الحرائر، ولم يفرق بينهن وبين الحرائر بلفظ عام، بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء، واستثنى القرآن من النساء الحرائر القواعد، فلم يُجْعَلْ عليهن احتجاب، واستثنى بعض الرجال وهم غير أولي الإربة، فلم يمنع من إبداء الزينة الخفية لهم لعدم الشهوة في هؤلاء وهؤلاء، فأنْ يستثنى بعض الإماء أولى وأحرى، وهن من كانت الشهوة والفتنة حاصلة بترك احتجابها وإبداء زينتها، وكما أن المحارم أبناء أزواجهن ونحوه ممن فيه شهوة وشغف لم يجز إبداء الزينة الخفية له، فالخطاب خرج عامُّا على العادة، فما خرج عن العادة خرج به عن نظائره، فإذا كان في ظهور الأمة والنظر إليها فتنة، وجب المنع من ذلك كما لو كانت في غير ذلك»(35).
إن المقصد الأعلى الذي يريد أن يحققه الإسلام من خلال نظامه الاجتماعي هو صون الأعراض، وكبح جماح الشهوات وترويضها وضبطها، وتقييدها بضوابط أخلاقية تضمن استعمالها في خير الإنسان وطهارته، بدل إهمالها أو تضييعها في الفوضى والهمجية.
ولقد رأى المبشرون أن حجاب المرأة المسلمة يقف سدًا منيعًا دون إفسادها ليتسنى إفساد الأجيال المؤمنة بعد ذلك، فبذلوا كل جهودهم لإخراجها من حرزها المصون الذي لم يستطيعوا اقتحامه عليها.
إن ما رخص فيه للمرأة في النظام الإسلامي هو أن تبدي وجهها وكفيها إذا دعت الضرورة، وأن تخرج من بيتها لحاجتها، ولكن هؤلاء يجعلون هذه الرخصة نقطة البدء وبداية المسير، فيقومون إلى آخر حدود الإسلام، ويتقدمون في سبيل الحرية، ويتمادون إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوب الحياء والاحتشام، فلا يقف الأمر بإناثهم عند إبداء الوجه والكفين؛ بل يجاوزه إلى تعرية الوجه والذراع والنحر... إلى آخر هذه الهيأة القبيحة المعروفة، وهي الهيأة التي لا تخص بها المرأة الأزواج والأخوات والمحارم فقط؛ بل يخرجن بكل تبرج من بيوتهن ويمشين في الأسواق، ويخالطن الرجال في الجامعات، ويأتين الفنادق والمسارح، ويتبسطن مع الرجال الأجانب.
ثم يأتي القوم فيحملون رخصة الإسلام للمرأة في الخروج من البيت للحاجة، وهي الرخصة المشروطة بالتستر والتعفف، على أنها يحل لها أن تغدو وتروح في الطرقات، وتتردد إلى المنتزهات والملاعب والسينما، في أبهى زينة وأفتنها للناظرين، ثم يتخذ إذن الإسلام لها في ممارسة أمور غير الشئون المنزلية، ذلك الإذن المقيد المشروط بأحوال خاصة، يتخذ حجةً ودليلًا على أن تودِّع المرأة المسلمة جميع تبعات الحياة المنزلية، وتدخل في النشاط السياسي والاقتصادي والعمراني تمامًا، وحذو القذة بالقذة كما فعلت الإفرنجية.
وها هو ذا المودودي رحمه الله يصرخ في وجوه هؤلاء الأحرار في سياستهم، العبيد في عقليتهم، قائلًا: «ولا ندري أيُّ القرآن أو الحديث يستخرج منه جواز هذا النمط المبتذل من الحياة؟ وإنكم، يا إخوان التجدد، إن شاء أحدكم أن يتبع غير سبيل الإسلام فهلا يجترئ ويصرح بأنه يريد أن يبغي على الإسلام ويتفلت من شرائعه؟ وهلا يربأ بنفسه عن هذا النفاق الذميم والخيانة الوقحة، التي تزيِّن له أن يتبع علنًا ذلك النظام الاجتماعي، وذلك النمط من الحياة الذي يحرمه الإسلام شكلًا وموضوعًا، ثم يخطو الخطوة الأولى في هذا السبيل باسم اتباع القرآن؛ كي ينخدع به الناس فيحسبوا أن خطواته التالية موافقة للقرآن»(36).
إن الهجمة على الحجاب هي جزء من الحرب الشاملة ضد الإسلام، بهدف تربية أجيالٍ بلا عقيدةٍ، ولا تؤمن بفكرة المقاومة للمشروع الصهيوني الأمريكي المستهدف للعالَم العربي والإسلامي، وإذًا فَمِن السهل احتلال الأوطان، وسلب الثروات، وتدمير كل شيء، فهي من وسائل تفكيك المجتمعات.
إن الحرب ضد الحجاب في مصر لها أهداف سياسية، تتمثل في إرسال إشارات معينة للخارج تفيد بأن هناك أصحاب توجه حداثي وتحديثي، يرغبون في نقل مصر من مرحلة التدين والانتشار الإسلامي إلى مسايرة القيم الغربية، حيث يريد أصحاب هذا التوجه تقديم أنفسهم للغرب باعتبارهم الأقرب للتوجهات الغربية.
إن القوى المناهضة للحجاب والتابعة للغرب تعتبر انتشار المظاهر الإسلامية، مثل الحجاب، يمثل إظهارًا لقوة الإسلاميين ومدى انتشارهم؛ مما يمهد الطريق إلى سيطرة إسلامية على الحكم، وبالتالي إلغاء مبدأ فصل الدين عن الدولة، والذي يقتات العلمانيون به.
وفوق هذا وذاك فإن المنظومة الاقتصادية الغربية، التي تقدس المادة إلى أبعد الحدود وتعتبر الربح هدفًا في حد ذاته، تعتبر أن الحجاب منافس لكثير من صناعات الملابس في الغرب، وقد يشكل انتشاره بين الفتيات المسلمات والأوروبيات إلى حرمان هذه الشركات المنتجة للملابس، والخليعة منها على وجه التحديد، من الرواج المطلوب؛ حيث إن الحجاب بات يصدم أصحاب الفكر المادي ماديًا وروحيًا(37).
***
_____________
(1) أخرجه مسلم (890).
(2) تفسير القرطبي (7/ 243).
(3) المحلى بالآثار (2/ 248).
(4) حراسة الفضيلة، للشيخ بكر أبو زيد، ص41.
(5) أخرجه البخاري (1838).
(6) مجموع الفتاوى (11/ 424-425).
(7) حراسة الفضيلة، ص29-30.
(8) فتح الباري (9/ 224).
(9) عودة الحجاب (3/ 417-433).
(10) إلى كل أب غيور يؤمن بالله، ص28.
(11) فتح الباري (3/ 406).
(12) الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور، للشيخ التويجري، ص83.
(13) تفسير سورة النور، ص56.
(14) عون المعبود (4/ 106).
(15) إحياء علوم الدين (4/ 729).
(16) فتح الباري (9/ 337).
(17) حراسة الفضيلة، ص39-40، بتصرف.
(18) أخرجه الترمذي (1173).
(19) الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور، ص96.
(20) أخرجه البخاري (4141)، ومسلم (2770).
(21) مختصر جلباب المرأة المسلمة، ص15.
(22) تفسير ابن كثير (6/ 41).
(23) أضواء البيان (5/ 512).
(24) أخرجه البخاري (3241).
(25) الكبائر، ص131.
(26) روح المعاني (6/ 56).
(27) الجامع الصحيح (9/ 403).
(28) أخرجه أحمد (21786).
(29) نيل الأوطار (2/ 97).
(30) الجامع الصحيح (24/ 355).
(31) أخرجه أبو داود (4098).
(32) أخرجه أحمد (6876).
(33) أخرجه البخاري (5886).
(34) أخرجه أبو داود (2928).
(35) مجموع الفتاوى (15/ 373).
(36) عودة الحجاب (1/ 23).
(37) حرب الحجاب.. والقابضات على الجمر، موقع: الألوكة.