السعادة الزوجية
عندما نتحدث عن عالم الحياة الزوجية السعيدة فإننا نأخذ بعين الاعتبار كون العلاقة الزوجية واحدةً من أكثر العلاقات تعقيدًا، وذلك بفعل الاختلافات والتغيرات التي يعيشها كل من الرجل والمرأة في هذه العلاقة المقدسة، التي يتشاركان من خلالها في أصغر تفاصيل حياتهما.
ولتحقيق الزواج السعيد لا بد من معرفة مفهوم السعادة الزوجية.
ويقصد به شعور الزوجين في توافقهما وتفاعلهما معًا، بالسكن والمودة والمحبة والرحمة، وما يتولد لديهما من أفكار حسنة نحو الزواج ونحو الشريك، حيث يجد أحد الزوجين في وجود الآخر معه الأمن والاستقرار، فيتمسك به، ويرتبط به، ويؤيده ويرعاه، ويحافظ عليه، ويتفاعل معه تفاعلًا إيجابيًا، ويتوافق معه توافقًا حسنًا، فالتأثير متبادل بين السعادة والتفاعل والتوافق، ومع هذا نستطيع القول أن السعادة الزوجية ثمرة جهود كل من الزوجين في تفاعلهما معًا وتوافقهما معًا، لأنهما لا يشعران بالسعادة الزوجية إلا بعد أن يختبر كل منهما الآخر في تفاعله وتوافقه معه.
والسعادة الزوجية مشاعر وأفكار نسبية، تختلف من زوج لآخر، فما يسعد أحد الزوجين قد لا يسعد الآخر، وما يسعد زوجين في تفاعلهما وتوافقهما معًا قد لا يسعد غيرهما من المتزوجين.
والسعادة الزوجية هي نتاج قدرة تحمل كلًا من الزوج والزوجة على تخطي العقبات التي يواجهونها في حياتهما معًا.
والإسلام لا ينظر للزواج باعتباره ارتباطًا بين جنسين فحسب، وإنما يعتبره علاقة متينة وشراكه وثيقة لا تنفصم عراها، تجمع بين متعاقدين؛ لبناء أسرة متماسكة، تربطها روابط الرحم، ومن ثم فقد أكد أن قوامها الوداد والتراحم والتعايش، {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
ومثلما أن هناك عوامل وأسبابًا يمكن أن تساهم في تعكير صفو هذه العلاقة، وربما تؤدي إلى هدمها، فكذلك ثمة عوامل وأسباب يمكن أن تقوي هذه العلاقة وتزيد من متانتها، وتساعد على غرس وتنمية السعادة الزوجية والمحافظة عليها بين الزوجين، ولعلنا نحاول أن نصل معًا إلى أهم تلك الأسباب متمثلة في النقاط التالية:
1- التدين الراشد:
الالتزام بأوامر الله عز وجل، والإكثار من ذكره، والبعد عن معاصيه، به تنشرح النفوس وتطمئن القلوب {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
واعلم أن السلف كانوا إذا رأوا من زوجاتهم نفورًا وعصيانًا أرجعوا سبب ذلك إلى ذنوبهم، حتى قال قائلهم: «إني لأرى أثر معصيتي في خلق دابتي وزوجتي».
فإذا أطعت الله تعالى سخر لك كل شيء، وأطاعتك الزوجة والولد والخادم.
وحينما نقول: إن التدين ينبغي أن يكون راشدًا فليس من أجل استتباب الحياة الزوجية فقط؛ بل الحياة كلها، بمعنى أن يكون التدين شاملًا عامًا، يشمل كافة مناحي الحياة اليومية، فالعبادات والقربات من الدين، وحسن التعامل مع الآخرين من الدين، وصلة الرحم، والابتسامة، وأداء الواجبات والحقوق للناس، فكلها من أمور الدين، كما لا بد أن يكون التدين متوازنًا، فليس من الفقه التوسع في النوافل مع إهمال حقوق الزوج أو رغباته، أو العكس؛ ولذلك لا يشرع للمرأة صيام النفل إلا بإذن زوجها.
والشيطان قرين الغافلين عن الله وشرعه، وهو من أهم العوامل المفضية لغرس الكراهية وبث البغضاء بين الزوجين، وله في ذلك طرق ووسائل شتى، وحيل وحبائل عديدة؛ بل إن أدنى أعوان إبليس إليه منزلة هو ذلك الذي يعمد إلى التفريق بين الأزواج، ويفلح في إيقاع الطلاق بينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت»(1).
2- البعد عن الروتين وضرورة التجديد:
فالإنسان بطبعه يحب التجديد في كل أمر من أمور دنياه، والروتين أحد أسباب الملل وجلب الكآبة؛ لذلك ينبغي على الزوج والزوجة أن يضفيا على حياتهما نوعًا من التغيير، وألا يعكفا على نمط واحد؛ كأن تجتهد الزوجة في تغيير زينتها بما يناسبها، أو تتعلم نوعًا جديدًا من الأطعمة والمشهيات فتضيفه إلى مائدتهما، وعليها كذلك من وقت لآخر أن تغير من صورة بيتها بنقل الأثاث وتحويره من مكان إلى آخر، والزوج مطالب كذلك بأن يكسر الروتين بوسائل كثيرة، منها على سبيل المثال الخروج مع أهله للترويح عن النفس، من خلال الرحلات المشروعة من دون إفراط ولا تفريط.
3- غض الطرف عن بعض الهفوات واجب الزوجين:
فالكمال ليس من سمة البشر؛ بل الأصل في البشر الخطأ والزلل؛ ولذلك فمن الحق والعدل أن يغض الزوج والزوجة طرفهما عن الأخطاء الصغيرة والهفوات العابرة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر»(2)، (لا يفرك) أي: لا يبغض.
4- الملاطفة من أسباب دوام المحبة:
فعلى كل من الزوج والزوجة أن يحرصا على الملاطفة والملاعبة والمزاح، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه برغم جديته وشدته يقول: «ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمسوا ما عنده وجدوا رجلًا»(3).
وروت عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت: «فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملتُ اللحم سابقته فسبقني، فقال: (هذه بتلك السبقة)»(4).
5- احتواء المشاكل الطارئة وسرعة معالجتها:
في حال حدث خلاف بين الشريكين يجب تجنب الإسراع إلى الأهل للشكوى؛ فهذه طريقة غير مباشرة للسماح لهم بالتدخل بحياتك الشخصية، وما قد يدفعهم في بعض الأحيان إلى تكوين انطباعات سيئة وخاطئة عن الشريك.
ومعالجتها أولًا بأول، وعدم الهروب منها، فإن تراكمها وتطورها يقود إلى نتائج غير محمودة العواقب، ويجب ألا يسيطر اليأس على أحد الزوجين أو كليهما باستحالة الحل، فلكل مشكلة حل، ولكل خلاف علاج، وليحرص الزوجان على المحافظة على أسرار حياتهما الزوجية، وذلك من خلال الثنائية في طرق المشاكل والاتفاق على الحل، وألا يوسعا دوائر الخلاف بإدخال أطراف أخرى؛ لئلا تتسرب الأسرار وتتطور المشكلة، وإن كان لا بد من مشاركة طرف آخر فليكن الوسطاء من أهل العقل والتجربة والحكمة والصلاح، وممن يحفظون أسرار البيوت.
ويجب تخطي العقبات التي تواجه الزوجين بإيجابية، والاستفادة من الخبرة المكتسبة من المرور بهذه العقبات، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة عدم الوقوف عليها وتذكرها مستقبلًا، فأخطاء الماضي تبقى في الماضي.
وبدلاً من تذكير الطرف الآخر بالإخفاقات الماضية لا بد من تعزيز السلوك الإيجابي لديه، والاستمتاع بالوقت الحالي، مع اليقين بأن تذكر الماضي لن يغير شيئًا سوى أنه يحرك مشاعر دفينة ممتلئة بالحزن والأذى.
6- تبادل الهدايا تغرس المحبة في النفوس:
تبادل الهدايا بين الأزواج، لا سيما هدايا الزوج للزوجة، إحدى أسباب غرس المحبة بينهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا»(5).
فالهدية هي تعبير عن المودة، وهي كسر لجمود ورتابة العلاقات الإنسانية، فإن كانت مثل هذه الهدايا تفعل فعلها وسط الأصدقاء والمعارف، فإن تأثيرها وسط الأزواج أكثر فاعلية وأعظم أثرًا، ولا يشترط أن تكون الهدايا من تلك المقتنيات الثمينة الفاخرة؛ لأن الغرض من الهدية هو إظهار مشاعر الود والألفة في المقام الأول، وذلك يتحقق بأي مستوى من القيمة المادية للهدية.
7- الغيرة المحمودة تؤثر على العلاقة:
مع عدم المبالغة في الغيرة؛ بل تكون باعتدال وروية، وهي بذلك تكون مؤشرًا على محبة كل من الطرفين للآخر، وعدم تفريطه فيه، أو السماح بالنيل منه بشكل غير مشروع، فيجب على الزوج أن يعتدل في هذا الشأن، ولا يبلغ إساءة الظن والتعنت وتجسس البواطن، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تتبع عورات النساء: «إن من الغيرة ما يحب الله عز وجل، ومنها ما يبغض الله عز وجل، ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل، ومنها ما يبغض الله عز وجل، فأما الغيرة التي يحب الله عز وجل فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله عز وجل فالغيرة في غير ريبة، والاختيال الذي يحب الله عز وجل اختيال الرجل بنفسه عند القتال، وعند الصدقة، والاختيال الذي يبغض الله عز وجل الخيلاء في الباطل»(6)؛ لأن ذلك من سوء الظن الذي نهانا الله تعالى عنه، فإن بعض الظن إثم.
وأما الغيرة التي تكون في محلها فهي مطلوبة شرعًا ولا بد منها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «إن الله يغار، وإن المؤمن يغار...»(7).
فالمطلوب إذًا هو الاعتدال، بحيث يغار الزوج في المواطن التي تجب فيها الغيرة، ويمسك فيما عدا ذلك من غير ضعف ولا تنطع.
8- العقلانية في الطلبات:
بحيث لا تكلف الزوجة زوجها بطلبات ترهق ميزانيته أو وقته أو صحته، وتضيف عليه أعباءً جديدة، خاصة إن لم يكن قادرًا على توفيرها، وكذلك الزوج مطالب هو أيضًا ألا يحمل زوجته ما لا تطيق من أعباء وتكاليف، سواء كان ذلك في التعامل أو المسئوليات أو غيره، قال تعالى في محكم تنزيله: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
9- الاحترام المتبادل يزيد في الود والمحبة:
إن العلاقة المبنية على الاحترام لا يمكن لرياح الفراق أن تهزها، فالاحترام هو ركن أساسي من أركان العلاقة الزوجية السعيدة، وهو ينم عن حب الآخر وتقديره، ولا يترجم من خلال الكلمات؛ بل هو عبارة عن تصرفات يومية نقوم بها كسلوك دائم؛ كتقدير الشريك، والتكلم عنه باحترام أمام الآخرين، واحترام رأيه، وتقدير مشاعره.
لذا ينبغي على الزوجة أن تحترم زوجها، وأن تعترف له بالقوامة، وعدم منازعته في الاختصاصات التي يجب أن ينفرد بها، وإنزاله منزلته التي أنزله الله إياها، من كونه رب الأسرة وسيدها وحاميها والمسئول الأول عنها، وإذا أرادت الزوجة أن تشاركه الرأي في بعض اختصاصاته فيجب أن يتم ذلك بتلطف ولباقة، واختيار الوقت والزمان المناسبين لمناقشة مثل هذه القضايا وطرح الأفكار، على ألا تصر الزوجة على رأيها أو موقفها إن وجدت منه تمنعًا؛ بل عليها أن تؤجل الأمر حتى تسنح الفرصة، ويتهيأ بذلك المناخ المناسب لمعاودة الطرح.
وكذلك على الزوج أن يحترم زوجته ويقدرها ويراعي مشاعرها، ويشاركها أموره، ويشاورها في شئونه، لتشعر بكرامتها وآدميتها.
10- التشاور وتبادل الرأي:
ويتم ذلك من خلال عقد جلسات عائلية داخل المنزل من وقت لآخر، يتشاور فيها الزوجان عما يجب عمله في الأمور المهمة في حياتهما المشتركة، ويتم من خلال ذلك تقويم تجاربهما الماضية، والتخطيط للمستقبل، وذلك عبر رؤية مشتركة، فإن القرارات إذا أخذت باتفاق لا شك أنها أفضل من نظيراتها الفردية.
11- ضبط النفس وعدم التنابز:
يجب ضبط النفس عند وقوع الخلافات بين الزوجين، والبعد عن استخدم العبارات الجارحة أو انتهاج السلوك المؤذي بين الزوجين؛ كأن يعيّر الزوج زوجته بنقص فيها، أو أن تخدش الزوجة زوجها بنقائصه، خاصة إن كانت تلك النقائص مما لا يؤثر في الدين والخلق أو يجرح الاستقامة والسلوك، وفي ذلك يجب أن يكون النقد أو التوجيه بأسلوب رقيق تلميحًا لا تصريحًا، ثم المصارحة بأسلوب المشفق الودود، وليس هناك أي مبرر مثلًا لكي يعيب الزوج على الزوجة عدم إتقانها لفن الطبخ؛ بل عليه بدل ذلك أن يحضر لها الكتب المتخصصة في هذا الشأن.
ومن الممكن أن يوجهها بعبارات لائقة؛ كأن يقول لها: لو فعلت ذلك لكان خيرًا، ولو امتنعت عن ذلك لكان أفضل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يصحح الأخطاء تلميحًا لا تصريحًا، فكان يقول: «ما بال أقوام»(8)، وكذلك أيضًا ما عاب طعامًا قط، فالانتقاد الحاد والهجوم الصارخ من الممكن أن يقود إلى التعنت، ويؤدي إلى العزة بالإثم.
12- القناعة بمبدأ الخصوصية بين الزوجين:
عدم السماح للغير، خاصة الأقربين، بالتدخل في الحياة الزوجية وتناول الأمور الخاصة بالزوجين، فأغلب هذه التدخلات لا تأتي بخير، فأهل الزوجة غالبًا ما يتدخلون لصالح ابنتهم، وكذلك فأهل الزوج يتدخلون لمناصرة ابنهم، الأمر الذي يعمل على إيجاد المشاكل وتأزمها بين الزوجين، وكثير من الخلافات الزوجية إنما تنجم بسبب تدخلات الأقارب في الشئون الزوجية، فحياة الزوجين هي ملك لهما فقط، لا ينبغي أن تعكر صفوها التدخلات الخارجية، مهما كانت درجة القرابة.
إن النقطة الأساسية للسعادة الزوجية هي إبعاد الأهل وعدم إقحامهم في مشاكل الزوجين؛ حيث يجب أن تتمتع العلاقة الزوجية بخصوصية تامة، بعيدة كل البعد عن الأهل الذين قد لا يغفرون بعض الأشياء والخلافات، والتي ربما كانت لتمر بسلام، كأي خلافات بسيطة في كل علاقة؛ ولذلك يجب الإبقاء عليها طي الكتمان.
13- العدل:
إذا كان الرجل متزوجًا أكثر من واحدة فيجب عليه الاجتهاد أن يعدل بين أزواجه، وألا يفضل إحداهما أو إحداهن دون غيرها، فالشعور بالظلم من قبل الزوجة سيولد مشاكل، ولربما يكون سببًا في هدم العلاقة الزوجية.
كما أنه ليس من الحكمة في شيء أن يبوح الزوج بحبه وتقديره لإحدى زوجاته دون غيرها من نسائه في وجود الضرة، ولا أن يتكلم عن محاسن وإيجابيات إحداهما في وجود الأخرى، حتى وإن كان صادقًا ومحقًا في ذلك.
فالغيرة تعد طبيعة فُطِرت عليها النساء، ولم يسلم منها حتى أمهات المؤمنين من زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعائشة كانت تغار من خديجة رضي الله عنهما برغم أنها لم تدركها، وكانت تنكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم مدحه وثناءه عليها، فتقول: «قد أبدلك الله خيرًا منها»(9)، وهو من كلام السيدة عائشة رضي الله عنها، فإن كان هذا هو شأن عائشة مع خديجة رضي الله عنهما، فكيف يكون الحال بالنسبة لمن عداها من النساء؟!(10).
14- الثقة والأمان:
إن تعامل الزوجين مع بعضهما البعض بشفافية، وتشاركهما أسرار بعضهما البعض، وبوح أحدهما للآخر بما يشعر، وتشاركهما في تفاصيل الحياة، كفيل بأن يخلق الثقة والأمان، وهما من أهم الجسور المتينة في الحب والسعادة الزوجية.
ولكن لهذه الثقة ضوابط شديدة الحساسية؛ حيث أنها معرضة للانكسار في حال تم كشف أحد هذه الخصوصيات أمام الآخرين، بغض النظر عن الدافع، بمعنى أن ما يحدث بين الزوجين يجب أن يبقى بينهما وحسب، ويستطيعان أخذ الإذن إذا أراد أحد الزوجين التحدث للآخرين عن أمرٍ خاص من الطرف الآخر؛ لذا على الزوجين أن يثقا ببعضهما أكثر من أي أحد آخر، والواجب ألا يعرضا هذه الثقة للخطر.
15- ذكاء المسافة:
ألّا تقترب كثيرًا فتُلغي اللهفة، ولا تبتعد طويلًا فتُنسى.
هذه القاعدة من أول أسرار نجاح العلاقة بين الرجل والمرأة، وربما أغلب العلاقات الاجتماعية، فالذكاء هنا هو أن تعطي من شريكك مساحته من الحرية الشخصية، وألا تكوني بجانبه طوال اليوم لحد الاختناق، فلا ترهقيه طوال الوقت بأسئلة من نوعية عما يفكر، عما يفعل، من قابل اليوم، لماذا سيفعل ذلك.
وفي الوقت ذاته لا تبتعدي عنه كثيرًا لحد الإهمال؛ فيبدو الأمر كأنك غير مهتمة لأمره.
لا تعتقدي أن اقترابك الزائد سوف يكون مقابله التقدير طوال الوقت؛ بل العكس، فالرجال يحتاجون إلى الاهتمام، ولكنهم ينفرون من المرأة المبالغة في إظهار مشاعرها، وكذلك المرأة اللحوحة والزنانة.
السعادة الزوجية في بيت النبوة:
ولقد ضرب لنا الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في علاقته بزوجاته، فكان لهن الزوج والحبيب والأخ والأب والناصح والصديق والرفيق، فينصحهن، ويمازحهن، ويداعبهن، ويقدر مشاعرهن، ويسمع شكواهن، ويكفكف دموعهن، ويصبر على أذاهن، ويقف بجوارهن، ويؤازرهن في السراء والضراء، فكان صلى الله عليه وسلم خير زوج شهدته البشرية في تاريخها، وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لم يكن صلى الله عليه وسلم ليلفظ بما يجرح شعور زوجاته، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليفعل ما يمس مشاعرهن وأحاسيسهن، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «إني لأعرف غضبك ورضاك»، قالت: «قلت: (وكيف تعرف ذاك يا رسول الله؟)»، قال: «إنك إذا كنت راضية قلت: بلى ورب محمد، وإذا كنت ساخطة قلت: لا ورب إبراهيم»، قالت: «أجل، لست أهاجر إلا اسمك»(11).
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة جار له إلى الطعام إلا بصحبة إحدى زوجاته، احترامًا لمشاعرهن، وتكريمًا لهن بالصحبة، فعن أنس أن جارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسيًا كان طيب المرق، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يدعوه، فقال: «وهذه؟» لعائشة، فقال: «لا»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا»، فعاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهذه؟»، قال: «لا»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا»، ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهذه؟»، قال: «نعم» في الثالثة، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله(12).
وفي رواية الدرامي: فانطلق معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة فأكلا من طعامه(13).
وكان نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم خبيرًا بنفوس النساء، عليم بنفوسهن، فكان يدرك صلى الله عليه وسلم طبيعة المرأة الغيور، وأنها تغار على زوجها حتى وإن كانت هذه المرأة هي زوج نبي الأمة؛ لذا حرص صلى الله عليه وسلم دائمًا على أن يراعي تلك الطبيعة الأصيلة لدى النساء، فهو يقدر حب زوجاته له وغيرتهن عليه.
وليس أدل على ذلك من الموقف النبوي الشريف، الذي رواه أنس رضي الله عنه، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: (غارت أمكم)، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت»(14).
وكان نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم رقيقًا حنونًا في تعامله مع زوجاته، وكان يحسن ملاطفتهن ومداعبتهن، وذلك على الرغم من الأعباء والمهام الثقال الملقاة على عواتقه، وهموم الدعوة والأمة وغيرها، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: «رفقًا بالقوارير».
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى، فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة(15).
كذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم دائمًا على إدخال البهجة والسرور على قلوب زوجاته، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «كان الحبش يلعبون بحرابهم، فسترني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو»(16).
وأقر الرسول صلى الله عليه وسلم نوعًا آخر من الترفيه، فقد روي عن البخاري بإسناده عن الربيع بنت معوذ قالت: «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم غداة بُنِيَ عَلَيَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يَعْلم ما في الغد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين)»(17).
ومما تروي أيضًا السيدة عائشة رضي الله عنها عن ملاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: «خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: (تقدموا)، فتقدموا، ثم قال لي: (تعالي حتى أسابقك)، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس تقدموا فتقدموا، ثم قال: (تعالي حتى أسابقك)، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: (هذه بتلك)»(18).
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتصيد الأخطاء لزوجاته، ولم يكن يعاتبهن على تقصيرهن في بعض الشئون الزوجية أو الأسرية؛ بل كان صلى الله عليه وسلم يلتمس لهن دائمًا الأعذار ويعطي لهن الفرصة؛ كي تصلح من شأنها وتستدرك تقصيرها، ومن ذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يفاجئ الزوجة وهي على حال لم تكن لترغب أن يراها عليه، وقد روى البخاري بإسناده عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله، كان لا يدخل إلا غدوة أو عشية»(19)، والطرق هو الحضور المفاجئ بالليل.
ولم يقتصر إحسان النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته على النواحي المعيشية والزوجية والمعاملتية فحسب؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يبذل النصح الصادق لهن، ويقدم النصيحة المخلصة الأمينة حتى في أوقات الخلاف والعتاب، ففي ذات مرة، وكان المسلمون قد حققوا انتصارات عظيمة في خيبر وعادوا بغنائم كبيرة، فرغبت زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن ينالين حظهن من هذا المتاع، الأمر الذي أغضب النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة وقال لها: «يا عائشة، إني أريد أن أعرض عليك أمرًا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك»، قالت: «وما هو يا رسول الله؟»، فتلا عليها الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28]، فقالت السيدة عائشة: «أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت».
وعند ذلك تبدو صورة أخرى من صور الإحسان، إنها نعمة عدم التعنت والتعسف؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا»(20)، صلى الله عليك يا رسول الله، يا نبي الرحمة، يا نورًا أهداه الله للعالمين أجمعين.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي زوجاته بأحب الأسماء إليهن، أو بتصغير أسمائهن من أجل تسهيله وتليينه، فقد ورد في أحاديث عديدة أنه كان ينادي عائشة: «يا عائش»، وكان يقول لها أيضًا: «يا حُمَيْرَاء».
ومن الصور الأخرى لملاطفته نسائه أنه كان يطعمهن بيده؛ لذلك يعتبر إطعام الزوج لزوجته بيده من الأمور التي يُؤجر عليها، وليس فقط وسيلة لكسب قلب الزوجة والتقرب إليها.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطيب بأجمل أنواع المسك والطيب؛ رغبةً منه في إرضاء زوجاته وإسعادهن، كما أنه اهتم كثيرًا برائحة جسده، وكل أمور النظافة التي تزيد من الود والحب بين الأزواج، وابتعد عن كل مظاهر الزينة النسائية؛ مثل: الحلي، والأساور، والملابس.
ولم ينس الحبيب عليه الصلاة والسلام وعلى آله رومانسيته مع زوجاته، حتى وقت الشدة والحروب، رغم المسئوليات والمشقة، فعن أنس قال: «خرجنا إلى المدينة قادمين من خيبر، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب»(21)، فلم يخجل الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم من أن يرى جنوده هذا المشهد، وهو يظهر الحب والمودة لزوجته السيدة صفيه.
وكان يطيب خاطرها إذا حزنت، فقد كانت السيدة صفية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، وكان ذلك يومها، فأبطأت في المسير، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تبكي، وتقول: «حملتني على بعير بطيء»، فجعل رسول الله يمسح بيديه عينيها ودموعها ويسكتها(22).
بل كان يترك المجال لزوجاته رضي الله عنهن أن يمزحن، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «زارتنا سودة يومًا، فجلس رسول الله بيني وبينها، إحدى رجليه في حجري، والأخرى في حجرها، فعملت لها حريرة فقلت: (كلي)، فأبت، فقلت: (لتأكلي، أو لألطخن وجهك)، فأبت، فأخذتُ من القصعة شيئًا فلطخت به وجهها، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجله من حجرها لتستقيد مني، فأخذت من القصعة شيئًا فلطخت به وجهي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك(23).
ويجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب أعظم مسئولية في التاريخ، يجلس إلى زوجته لتتحدث معه وتحكي له، فلا يقاطعها ولا يمانعها، وإنما يجاملها، كما في حديث أم زرع الطويل.
***
________________
(1) أخرجه مسلم (5032).
(2) أخرجه مسلم (2672).
(3) إحياء علوم الدين (2/ 44).
(4) أخرجه أبو داود (2214).
(5) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/ 612).
(6) أخرجه النسائي (2558).
(7) أخرجه مسلم (2761).
(8) أخرجه البخاري (436)، ومسلم (2487).
(9) أخرجه البخاري (3536)، ومسلم (4467).
(10) رفقًا بالقوارير، نصائح للأزواج، ص219-233، بترقيم الشاملة آليًا.
(11) أخرجه البخاري (6078).
(12) أخرجه مسلم (2037).
(13) أخرجه الدارمي (2111).
(14) أخرجه البخاري (5225).
(15) أخرجه البخاري (1161).
(16) أخرجه البخاري (5190).
(17) أخرجه البخاري (4001).
(18) أخرجه النسائي (8894).
(19) أخرجه البخاري (1800).
(20) أخرجه مسلم (1478).
(21) أخرجه البخاري (2235).
(22) أخرجه النسائي (9117).
(23) أخرجه النسائي (8868).