logo

تبتغي مرضات أزواجك


بتاريخ : الثلاثاء ، 5 ربيع الأول ، 1440 الموافق 13 نوفمبر 2018
بقلم : تيار الاصلاح
تبتغي مرضات أزواجك

وردت في سبب نزول هذه الآية روايات متعددة، منها ما رواه أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها، فأنزل الله عز وجل: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ} [التحريم:1](1).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عُكَّةَ عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شربة، فقلت: (أما والله لنحتالن له)، فذكرت ذلك لسودة، وقلت: (إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافير، فإنه سيقول: لا، فقولي له: ما هذه الريح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح، فإنه سيقول: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ، وسأقول ذلك، وقوليه أنت يا صفية.

فلما دخل على سودة قالت سودة: والله الذي لا إله إلا هو، لقد كدت أن أباديه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب فرقًا منك، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، أكلت مغافير، قال: (لا)، قالت: (فما بال هذه الريح؟)، قال: (سقتني حفصة شربة عسل)، قالت: (جرست نحله العرفط)، فلما دخل علي قلت له مثل ذلك، ودخل على صفية فقالت مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت له: (يا رسول الله، ألا أسقيك منه)، قال: (لا حاجة لي به)، قالت سودة: (سبحان الله! لقد حرمناه)، قلت لها: (اسكتي)»(2).

وعن ابن عباس قال: «لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة، فتبرّز، ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: (يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما}؟)، فقال عمر: (واعجبًا لك يا ابن عباس!)، [قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه]، قال: (هي عائشة وحفصة).

ثم أخذ يسوق الحديث، قال: (كنا معشر قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم)، قال: (وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي، فغضبت يومًا على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله، إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم، قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟

لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئًا، وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم [أي أجمل] وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك [يريد عائشة]، وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ينزل يومًا وأنزل يومًا، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك.

قال: وكنا نتحدث أن غسان تنحل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يومًا، ثم أتى عشاءً فضرب بابي ثم نادى، فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: وما ذاك؟ أجاءت غسان؟ قال: لا؛ بل أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائنًا، حتى إذا صليت الصبح شددت عليَّ ثيابي، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشربة.

فأتيت غلامًا أسود فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست عنده قليلًا، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ فقال: ذكرتك له فصمت، فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ فقال: ذكرتك له فصمت، فوليت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل قد أذن لك.

فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثَّر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إليّ وقال: (لا)، فقلت: الله أكبر! ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يومًا، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله، إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك! فتبسم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله، قال: (نعم)، فجلست، فرفعت رأسي في البيت، فوالله، ما رأيت في البيت شيئًا يرد البصر إلا هيبة مقامه، فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله.

فاستوى جالسًا وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا)، فقلت: استغفر لي يا رسول الله...، وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرًا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل»(3).

وعن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: «قلت لعمر بن الخطاب: (من المرأتان؟) قال: (عائشة وحفصة)»، وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم مارية القبطية، أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في نوبتها، فوجدت حفصة، فقالت: «يا نبي الله، لقد جئت إلي شيئًا ما جئت إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري وعلى فراشي»، قال: «ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها»، قالت: «بلى»، فحرمها وقال لها: «لا تذكري ذلك لأحد»، فذكرته لعائشة، فأظهره الله عليه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} الآيات كلها، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّر عن يمينه وأصاب جاريته(4).

وقوله تعالى: {تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ}؛ أي تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحل الله لك؛ يعني تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإنما تركه لرائحته.

{وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} في هذا إشارة إلى أن الله غفر له ما عاتبه عليه من التحريم، على أن عتابه في ذلك إنما كان كرامة له، وإنما وقع العتاب على تضييقه عليه السلام على نفسه، وامتناعه مما كان له فيه أرب(5).

وكان صلى الله عليه وسلم حسن الملاطفة مع أهله‏,‏ وكان يعلم أصحابه ذلك؛ بل ويستوصيهم بهن خيرًا، ويريهم ذلك من نفسه داخل بيوته في استرضاء أزواجه صلى الله عليه وسلم، لدرجة أنه قد يمازح إحداهن فيعدها ألا يفعل الشيء الذي لا يرضيها مع أنه من خاصة المباحات الشخصية له صلى الله عليه وسلم، فيصير الشيء حرامًا عليه بتلك الممازحة؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقًا‏,‏ كما حدث في قصة المغافير وعلاقتها بشربة العسل عند زينب رضي الله عنها‏،‏ فنزل القرآن‏:‏ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ}‏ إن عليهن أن يسترضينك هن لا أن تسترضيهن أنت‏، ثم إذا استرضيتهن أنت اليوم بترك المباح‏,‏ فهل تضمن ألا يأتي من أبناء أمتك غدًا من يسترضون أزواجهم بترك الواجب؟

ولم تكن القضية قضية العسل أو المغافير في ذاتها أو الغيرة من مكثه عند زينب‏,‏ كلا‏، فما أكبرهما عن ذلك‏,‏ وإنما كانت موقف دلال أرادت به كلتاهما أن تختبر حظوتها في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن رضينا الله ورسوله والدار الآخرة‏، وكانتا من الفطنة بحيث يغنيهما التلميح عن التصريح‏,‏ فالإشارة أبلغ من العبارة عند الفطناء‏،‏ وكان الجواب على ما توقعت كلتاهما‏.‏

فكان حلو الملاطفة‏,‏ معسول المداعبة‏,‏ وكان يمزح ولا يقول إلا صدقًا‏.‏

إنها مشاعر بيت النبوة، يفعل ما يرضي زوجته في بيئة لا تعرف للمرأة مكانة، ولا للزوجة حق، فهذا قائد الأمة الجديدة، مؤسس رسالة الإسلام، مبعوث رب العالمين، ليقتدي به كل من أراد النجاة وبحث عن الفلاح؛ بل أغرب وأعجب من ذلك، عندما يعرف مشاعر زوجته قبل أن تتحدث، ويدرك حالاتها في الرضا والغضب، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأعرف غضبك ورضاك»، فقالت: «وكيف تعرف ذاك يا رسول الله؟»، قال: «إنك إذا كنت راضية قلت: بلى ورب محمد، وإذا كنت ساخطة قلت: لا ورب إبراهيم»، قالت: «أجل، لست أهجر إلا اسمك»(6)، هي امرأة مثل سائر النساء، تغضب وترضى، لكن من يفطن لمشاعرها، ومن يحسن التعامل معها.

إنه نموذج فذ، قلما يوجد في بيئة كهذه، أن يبحث الرجل عن الأشياء التي ترضي زوجته فيفعلها، ويمتنع عن الأشياء التي لا ترضيها، سواء كانت الجارية كما جاء في بعض الروايات، أو العسل كما جاء في الرواية الأخرى.

بل إنه ليتحمل بعض تجاوزات زوجته، فعن النعمان بن بشير قال: «جاء أبو بكر يستأذن النبي فسمع عائشة وهي رافعة صوتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له، فدخل فقال: (يا ابنة أم رومان، وتناولها، أترفعين صوتك على رسول الله؟)، فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها، فلما خرج أبو بكر جعل النبي يقول لها يسترضيها: (ألا ترين أني قد حلت بين الرجل وبينك)، ثم جاء أبو بكر مستأذنًا عليه فوجده يضاحكها، فأذن له، فقال له أبو بكر: (يا رسول الله، أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما)(7).

وهذا ما يدفع الزوجة إلى استشعار محبة الزوج والعمل على رضاه، حتى لو كان ذلك على حساب نفسها.

عن أنس قال: «خرجنا إلى المدينة قادمين من خيبر، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها [أي لصفية] وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب»(8).

فإنه أبلغ في الاحترام والتقدير بأن يثني النبي صلى الله عليه وسلم ركبته لتضع قدمها عليها حتى تركب، ففيه بلاغة عظيمة في الاحترام، وإن الغرب اليوم يتفاخرون في احترام المرأة؛ فيفتح لها الرجل باب السيارة، بينما حبيبنا محمد وضع ركبته لزوجته، وهو أعظم من تصرفهم وأبلغ.

ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحب النكد أو الكآبة؛ بل كان مرحًا مبتسمًا، يضحك مع زوجاته، ويضاحكهن، ويفرح لفرحهن، ولم يكن في بيته رجلًا متسلطًا، يوجه أوامره ويستبد برأيه، عابسًا بوجهه كما يفعل بعض الأزواج في بيوتهم، وإنما كان مثالًا للطف والأنس، فقد خرَّج أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها [أمام البيت] ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: «ما هذا يا عائشة؟»، قالت: «بناتي»، ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما هذا الذي أرى وسطهن»، قالت: «فرس»، قال: «وما هذا الذي عليه؟»، قالت: «جناحان»، قال صلى الله عليه وسلم: «فرس لها جناحان؟!»، قالت: «أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة»، قالت: «فضحك صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه»(9).

وتقول عائشة رضي الله عنها: «خرجت مع النبي في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: (تقدموا)، فتقدموا، ثم قال لي: (تعالي حتى أسابقك)، فسابقته فسبقتُه، فسكت عني، حتى إذا حملتُ اللحم وبدُنت ونسيتُ خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: (تقدموا)، فتقدموا، ثم قال: (تعالي حتى أسابقك) فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: (هذه بتلك)»(10).

ومن مرحه كذلك مع أزواجه ترخيم اسم عائشة، فقد جاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا عايش، هذا جبريل يقرأ عليك السلام»، فقالت: «وعليه السلام ورحمة الله»(11).

وجاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، أنظرُ إلى لعبهم»(12).

كان صلى الله عليه وسلم يراعي مشاعر زوجاته؛ فتراه يراعي أصغر نسائه ويلاطفها، وتارة يستمع لها حتى تنتهي من كلامها، وتارة وتارة، فهذه الأخلاق وغيرها تبين بجلاء ووضوح الفرق بيننا وبين نبينا صلى الله عليه وسلم في التعامل، فعندما تأتيه زوجته وهو معتكف، فيجلس معها يحدثها في معتكفه ساعة، ثم يقوم معها يردها إلى قريب من بيتها، وأيضًا من حديث عائشة تقول أنها كانت تلعب مع صويحباتها بالبنات المصنوعة من القطن على هيئة بنات، فيدخل النبي صلى الله عليه وسلم فتختفي صويحباتها، فيرسلهن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عائشة يلعبن معها، فأي مراعاة للمشاعر أعظم من ذلك؟(13).

يلزم لاستمرار الحياة الزوجية بين الزوجين أن يكون بينهما حُسن المعاشرة، ولين الجانب، والمودة والرحمة والتآلف والمحبة المتبادلة، وهذا ما كان مترجمًا ترجمة عملية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه الكرام، فإنك لن تجد الكمال في حسن المعاملة، لا أقول في البيت وحسب، وإنما مع كل الناس، مسلمهم وكافرهم، مثل معاملة النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى قوله تعالى: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1]، وتأمل هذا التوافق والتناغم بين النبي صلى الله عليه وسلم من جهة وبين أزواجه جميعًا من جهة أخرى! إنه الرضا التام بين الأزواج.

فقد كان صلى الله عليه وسلم خير الأزواج إلى أزواجهم، وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند الإمام الترمذي قالت: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)»(14)، وما ينبغي للرجل أن يكون في بيته دكتاتوريًا أو متصلبًا عند رأيه، وإنما يشاور زوجه، ويستمع إليها، فلعل رأيها يكون صوابًا، وقد كان لأمنا خديجة رضي الله عنها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي.

ثم إن البيوت أسرار لا ينبغي أن تُكشَف، وهذه الأسرار درجات، منها ما يكون خاصًا بين الزوج وزوجه، ثم يتدرج بعد ذلك شيئًا فشيئًا، فيعمّ الأولاد والزوجات الأخريات إن كان له أكثر من زوجة.

وإفشاء الأسرار في الحياة الزوجية يعمل على تفكك الأسرة، ويتسبب في إيجاد شرخ بين الأزواج، قد يـزداد حِدة حتى يصل الأمر إلى الطلاق؛ فلا بد من الحفاظ على الأسرة مترابطة متماسكة بحفظ أسرارها.

وقد رأينا ماذا حدث في البيت النبوي الكريم عندما أسرّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أزواجه حديثًا خاصًا بينه وبينها، وأمرها ألا تخبر به أحدًا، لكنها أخبرت به بعض نسائه صلى الله عليه وسلم، وأفْشت سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلعه الله عليه، وحدث بعدها ما حدث من المقاطعة لنسائه، واعتزاله لهن، حتى لقد قيل: إنه طلق نساءه، ثم رجعت، برحمة من الله، العلاقات الزوجية في بيت النبوة إلى طبيعتها، بعدما نـزل الحكم الإلهي حلًا لهذه المشكلة، وليكون هذا الحكم ساريًا في كل بيت من بيوت المسلمين بعد.

أين المجتمعات الإسلامية اليوم من هذه الأخلاق الكريمة؟! وأين المجتمعات الغربية التي تتغنى بالحرية وتتشدق بالديمقراطية من هذه المعاملة الزوجية الفريدة في بيت معلِّم البشرية ومؤدِّب الإنسانية؟!

إن الحياة الزوجية في مجتمعات اليوم تفتقر إلى كثيرٍ من مثل هذه الآداب والأخلاق؛ بل تكاد المجتمعات الغربية وغيرها من المجتمعات غير الإسلامية تخلو من أدب التسامح والتواصل والتلاطف بين الزوجين، لكن المجتمع الإسلامي الأصيل يتمسك بقِيَمه وأخلاقه، ويتقلب بين القرآن والسنة في استلهام الآداب والفضائل، ويجعلهما حدوده التي تحميه من الزيغ والانحراف، وتحفظه من الأمراض التي تهدم بناء الأسرة، وتفتك بكيان المجتمع.

إن الأمة الإسلامية اليوم قد آن لها أن تعود إلى هويتها الإسلامية الأصيلة، بعدما رأت بأم عينها ما حلّ بالمجتمعات التي لا تنتمي إلى دين، وشاهدت التفكك والقطيعة في بناء تلك المجتمعات؛ لأنها لم تُبنَ على أساس متين، فساء بناؤها، ولم تأتِ بنتاجٍ طيب؛ لأن الأسرة فيه افتقدت جلَّ مقومات الأسرة الروحانية والعاطفية، وأصبحت الصلة التي تربط بناء الأسرة وتشد أركانها قائمة على المصالح المادية، فكان ما كان فيها من تشرذم من جهة، وتسيُّب وإباحية ولا مبالاة من جهة ثانية.

إذن حُسْن المعاشرة بين الزوجين يقتضي أن تُبنَى العلاقة بينهما على التسامح والمحبة والرحمة، وأن يحفظ كلٌّ الآخر حاضرًا وغائبًا، وأن يتأدب الزوجان بالآداب السامية، ويتخلَّقوا بالأخلاق الفاضلة(15).

الحذر من قطاع الطرق:

والمرأة بطبعها هينة لينة سهلة الانقياد، لكن يتسلط عليها شياطين الإنس والجن فيغيرون تلك الصفات، ويفسدون صفاء القلوب، ومن أولئك الشياطين قطاعِ الطرق:

وسائل الإعلام: التي ما دأبت تحرض على الإفساد بين الزوج وزوجته، وتصور الرجل أنه ظالم مستبد؛ فأفسدت الود، وقطعت علائق المحبة.

جلسات الفارغات: من بعض الصديقات والزميلات في حصص الفراغ، أو الجيران في جلسات الضحى والعصر؛ فالحديث معظمه يدور حول الاستهزاء بالأزواج، والتحريض عليهم، والتمرد على عش الزوجية.

عدم القرار في المنزل: فالزوجة خراجة ولاجة، لا يقر لها قرار، أسواق وحفلات وزيارات، قائمة لا تنتهي.

المعاصي والذنوب: فهي شؤم على البيوت؛ حيث تجلب الهموم والغموم وتنزع السعادة نزعًا، ومن ذلك قول بعض السلف: إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي.

الكبر من قبل الزوجة: وبواعث الكبر والعجب كثيرة، منها الجاه والمال والشهادة والجمال وغيرها مع قلة عقل وقصر نظر.

استبداد الزوجة وتسلطها: وذلك في ظل شخصية رجل ضعيفة متسامحة، فيقودها ذلك إلى التعنت والقفز على قوامة الرجل فتفسد نفسها وأسرتها.

عدم مراعاة حق الزوج في التزين والتجمل له: فلربما كانت النتيجة أن يقل نصيب الزوجة من ود زوجها، أو لربما قادته إلى طرق محرمة فتخرب الدور وتهدم الأسر.

التحقير من شأن الزوج: ولذا فإن المرأة العاقلة تنزل من أكرمها وجاورها في الفراش والمنزل منزلة عظيمة، فلا تتسخط عليه ولا تذم عشرته.

كثرة الطلبات المرهقة: تطالب زوجها فوق ما يطيق.

عدم مراعاة مشاعر الزوج: المرأة الذكية الفطنة تراعي أحوال الزوج ومتطلباته، فهي تعلم موعد نومه وغذائه، وماذا يحب وماذا يكره، تسارع إليه حتى يسارع هو بقلبه إليها.

وفي ذلك يقول الباحث عبد الملك القاسم: «المستشارة هي تلك الصديقة الحنون التي تحادثها الزوجة ساعات طوال، ولا يمر يوم دون أن تسمع صوتها، فأصبحت مجمعًا لأخبارها وأخبار زوجها، لا تنظم خيطًا في إبرة إلا سألتها ما رأيها؟ وهذه المرأة في الغالب إما ناصحة جاهلة، وإما مستشارة حاقدة، وكثيرات هن، ولهذا تجدها تشير عند أدنى خلاف قائلة: دعيه، اذهبي لأهلك، أنت درة، كيف ترضين في البقاء معه؟ لا تكوني مسكينة، كيف تقبلين بذلك؟ كوني قوية، انتزعي حقك، وتحرض الزوجة على زوجها ثم تهدم بيتها»(16).

قال ابن الجوزي: «وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجدت زوجًا صالحًا يلائمها أن تجتهد في مرضاته، وتجتنب كل ما يؤذيه، فإنها متى آذته أو تعرضت لما يكرهه أوجب ذلك ملالته، وبقي ذلك في نفسه، فربما وجد فرصته فتركها، أو آثر غيرها، فإنه قد يجد، وقد لا تجد هي، ومعلوم أن الملل للمستحسن قد يقع، فكيف للمكروه»(17).

سأل النبي إحدى نساء الصحابة رضي الله عنهم: «أذات بعل؟»؛ أي: زوج، قالت: «نعم»، قال: «كيف أنت له؟»، قالت: «لا آلوه [أي: لا أقصر في طاعته] إلا ما عجزت عنه»، قال: «فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك»(18).

وعن عبد الله بن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؛ الودود، الولود، العئود على زوجها، التي إذا آذت أو أوذيت جاءت حتى تأخذ بيد زوجها، ثم تقول: والله، لا أذوق غمضًا حتى ترضى)»(19).

والرضا بين الزوجين شجرة طيبة، تثمر إخلاص كل منهما للآخر، وأفضل ما ينتج عن الرضا بين الزوجين هو الشكر لله تعالى، فلا يشكر الله من لا يرضى بما قسَمه له.

وإذا ما ساد الرضا بين الزوجين يشعر كل منهما أنه لا ينقصه شيء في حياته الزوجية، ويشعر دائمًا أنه وُفّق في اختياره لشريك حياته، ويتبع ذلك شعور دائم بالسعادة.

خطوات عملية لتنمية شعور الرضا بين الزوجين:

ومن الأمور العملية التي تساعد الزوجين على الشعور بالرضا تجاه الآخر:

1- لا للمقارنات:

من أكثر ما يكدر على الزوجين حياتهما الزوجية، ويشعرهما بعدم الرضا، أن يقارن كل منهما، بطريقة شعورية أو لا  شعورية، بين شريك حياته وبين غيره من زملاء وزميلات العمل أو الأقارب أو الجيران أو غير ذلك، وهذا بدوره يؤدي إلى وجود مشاعر سلبية لدى الطرفين، فمن ناحية يَشعر الطرف الذي يُقارن بمشاعر عدم الرضا تجاه الطرف الآخر، ومن ناحية أخرى تؤدي هذه المقارنة إلى جرح عميق في مشاعر الطرف الآخر، وطعنًا في كرامته.

فعلى الزوجين أن يبتعدا عن عقد هذه المقارنات، وأن يتحليا بالرضا والواقعية، وأن يستحضرا دائمًا أن لكل إنسان مزاياه وعيوبه، وإلا لما كان من البشر.

2- تعظيم الإيجابيات:

فبعض الأزواج  يسلطون الضوء على عيوب ونقائص الطرف الآخر، ويعملون دائمًا على إبراز هذه العيوب وتضخيمها، وفي نفس الوقت يُغفلون ما يتحلى به هذا الطرف الآخر من إيجابيات ومزايا عديدة، وهذا بدوره يقوي الشعور بعدم الرضا عن الطرف الآخر.

وعلى النقيض من ذلك، فعندما يهتم الزوجان بالبحث عن المزايا والإيجابيات التي يتمتع بها الطرف الآخر، ويعملان على إبرازها وتنميتها، فهذا يمنحهما شعورًا بالرضا.

ومن الأمور التي تساعد الزوجين على التعرف على النقاط الإيجابية لدى الطرف الآخر أن يجلس كلٌ منهما وحده، ويحضر ورقة ثم يسجل بها ما يتمتع به الطرف الآخر من مزايا وجوانب إيجابية.

3- الواقعية والبعد عن المثالية:

فبعض الأزواج يرجون من الطرف الآخر أن يكون مثاليًا في كل تصرفاته، وينتظر منه دائمًا التصرف على هذا النحو، وعندما يخالف أي منهما هذا التصور فإنه يشعر بعدم الرضا.

وهذا يتطلب من الزوجان أن يتسما بالواقعية في نظرتهما، وأن يدركا أن الطرف الآخر بشر، يخطئ ويصيب، يحسن ويسيء، فهذا يجعله أكثر قدرة على قبول بعض التقصير الذي يصدر من شريك حياته، دون فقدان الإحساس بالرضا.

4- تقليل دائرة الخلاف:

فالرضا الزوجي لا يتحقق إلا إذا خلت الحياة الزوجية بنسبة معينة من المشاكل والصراعات، ولكي يحدث ذلك لا بد أن يسعى الزوجان إلى تجنب ما يثير الخلافات بينهما، وأن يتعاملا مع هذه الخلافات إذا حدثت بطريقة ناجحة.

5- تجنب كثرة الشكوى:

فكثرة الشكوى من شريك الحياة، وكثرة الكلام حول ما يصدر منه من أمور غير مقبولة، يؤثر بصورة سلبية على المشاعر، ويزيد الإحساس بعدم الرضا.

فعلى الزوجين أن يتجنبا ذلك، وأن يكونا أكثر صبرًا تجاه التصرفات غير المقبولة من الطرف الآخر، وأن يعملا على تعديل هذه التصرفات لدى الطرف الآخر بطريقة لا تجرح مشاعره، وأن يتبعا في ذلك سياسة النَفَسِ الطويل(20).

***

____________

(1) أخرجه النسائي في السنن (3959).

(2) أخرجه البخاري (6972).

(3) أخرجه مسلم (1479).

(4) تفسير الطبري، ط هجر (23/ 89).

(5) التسهيل لعلوم التنزيل (2/ 390).

(6) أخرجه البخاري (6078).

(7) أخرجه أحمد (18394).

(8) أخرجه البخاري (2893).

(9) أخرجه أحمد (4932).

(10) أخرجه أحمد (26277).

(11) أخرجه مسلم (2447).

(12) أخرجه البخاري (454).

(13) الرسول صلى الله عليه وسلم زوجًا، مدونة: السيرة النبوية.

(14) أخرجه الترمذي (3895).

(15) الحياة الزوجية كما تصورها سورة التحريم، ص11.

(16) وأصلحنا له زوجه، ص9.

(17) أحكام النساء، ص78.

(18) أخرجه أحمد (19003).

(19) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (9094).

(20) الرضا جسر السعادة بين الزوجين، رسالة المرأة، بتصرف.