logo

صِيانة الأسرة


بتاريخ : الثلاثاء ، 26 شعبان ، 1443 الموافق 29 مارس 2022
بقلم : تيار الاصلاح
صِيانة الأسرة

الأسرة مكون اجتماعي يزهر ويذبل، لكن جذوره تبقى عميقة الغرس، إذا سقيت بماء الوفاء، والتغافل، والحوار العاقل، والتواصل اللطيف.

لذا فقد وضع الإسلام الحكيم الضوابط والمعايير التي من خلالها حافظ على كيان الأسرة واستقرارها، وصيانتها من أي عطب أو خلل يؤثر عليها، وعلى حسن المعاشرة بين أفرادها، وبخاصة في مجال حق الاستمتاع الجنسي؛ فأرشد الزوجة –على وجه الخصوص– إلى ما يلي:

1- وجوب التزين للزوج:

فالزوجة العاقلة التي تريد إعفاف زوجها تتزين له حتى تسره بشكلها، كما تسره بكلامها وأفعالها، فعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله» (1).

قال الطيبي: جعل التقوى نصفين؛ نصفًا تزوجًا، ونصفًا غيره، وذلك لأن في التزويج التحصين عن الشيطان، وكسر التوقان، ودفع غوائل الشهوة، وغض البصر، وحفظ الفرج، وقوله: «إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها» لصونها من الزنا ومقدماته، بيان لصلاحها على سبيل التقسيم؛ لأنه لا يخلو من أن يكون الزوج حاضرًا، فافتقاره إليها إما أن يكون في الخدمة بمهنة البيت والمداعبة والمباشرة، فتكون مطيعة فيما أمرها، وذات جمال ودلال فيداعبها، وتنقاد إذا أراد مباشرتها.

أو غائبًا فتحفظ ما يملك الزوج من نفسها؛ بأن لا تخونه في نفسها وماله، وإذا كان حالها في الغيبة على هذا ففي الحضور أولى، وهذه ثمرة صلاحها، وإن كانت ضعيفة الدين قصرت في صيانة نفسها وفرجها، وأزرت بزوجها وسودت وجهه بين الناس، وشوشت قلبه، ونغص بذلك عيشه، فإن سلك سبيل الحمية والغيرة لم يزل في بلاء ومحنة، أو سبيل التساهل كان متهاونًا في دينه وعرضه، وإن كانت مع الفساد جميلة كان البلاء أشد؛ لمشقة مفارقتها عليه (2).

عن أبي هريرة، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال: «التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره» (3).

وتزين المرأة لزوجها ليس أمرًا عارضًا، ولا يختص بوقت معين؛ بل هو طبيعة وعادة تستمر عليها الزوجة التي تريد أن تحافظ على زوجها.

وإن كانت الزينة تستحب أكثر في أوقات مخصوصة منها: أوقات الجماع؛ خاصة أن التطيب ينشط الأعضاء فينبغي تحريه عند هذا اللقاء.

وكذا أوقات العودة من السفر، وطول الغيبة خاصة إن التزين والتطيب مما يطفئ حرارة الأشواق عند إياب الزوج إلى زوجته، ومن أجل ذلك حذر رسول صلى الله عليه وسلم أن يأتي الرجل أهله من السفر فجأة دون إعلامهم.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلًا» (4).

التقييد فيه بطول الغيبة يشير إلى أن علة النهي إنما توجد حينئذ، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلًا نهارًا ويرجع ليلًا لا يتأتى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة؛ كان طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع الذي يهجم بعد طول الغيبة غالبًا ما يكره؛ إما أن يجد أهله على غير أهبة من التنظف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبب النفرة بينهما، وقد أشار إلى ذلك بقوله في حديث الباب الذي بعده بقوله: «كي تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة» ويؤخذ منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة؛ لئلا يطلع منها على ما يكون سببًا لنفرته منها، وإما أن يجدها على حالة غير مرضية، والشرع محرض على الستر، وقد أشار إلى ذلك بقوله: «أن يتخونهم ويتطلب عثراتهم» فعلى هذا من أعلم أهله بوصوله، وأنه يقدم في وقت كذا مثلًا لا يتناوله هذا النهي (5).

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت ليلًا، فلا تدخل على أهلك، حتى تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فعليك بالكيس الكيس» (6).

ويكفي لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخر دخول جيش العسرة إلى المدينة حتى تعلم زوجة سيدنا جابر بن عبد الله برجوعه فتتجهز له.

وكذا أوقات الفتنة: ففي أيامنا هذه من وجود النساء المتبرجات واللائي يتفنن في إظهار الزينة في الشارع، وأماكن العمل، وفي الفضائيات، وعلى شبكة الإنترنت، مما يثير الشهوات، ويفتح أبواب الفتن أمام الناس، لذا فقد راعى الإسلام هذا الأمر، فعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة، فأتى امرأته زينب، وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه، فقال: «إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه» (7).

قال النووي: ومعنى الحديث؛ أنه يستحب لمن رأى امرأة فتحركت شهوته أن يأتي امرأته أو جاريته إن كانت له، فليواقعها ليدفع شهوته وتسكن نفسه ويجمع قلبه على ما هو بصدده، قوله صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان»، قال العلماء: معناه الإشارة إلى الهوى والدعاء إلى الفتنة بها، لما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء والالتذاذ بنظرهن، وما يتعلق بهن، فهي شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته وتزيينه له، ويستنبط من هذا أنه ينبغي لها أن لا تخرج بين الرجال إلا لضرورة، وأنه ينبغي للرجل الغض عن ثيابها والإعراض عنها مطلقًا (8).

قال الطيبي: جعل صورة الشيطان ظرفًا لإقبالها مبالغة على سبيل التجريد؛ لأن إقبالها داع للإنسان إلى استراق النظر إليها، كالشيطان الداعي للشر، «وتدبر في صورة شيطان» لأن الطرف رائد القلب، فيتعلق بها عند الإدبار أيضًا بتأمل الخصر والردف وما هنالك، خص إقبالها وإدبارها مع كون رؤيتها من جميع جهاتها داعية إلى الفساد؛ لأن الإضلال فيهما أكثر، وقدم الإقبال لكونه أشد فسادًا لحصول المواجهة به (9).

فعلى المرأة أن تَتَعَرَّف الزينة التي يحبها زوجها، فتتحلى بها، وتجود فيها، وعليها أن تعرف ما لا يحبه فتتركه إرضاءً وإسعادًا له، وتتحسَّس كل ما يسره في هذا الجانب.

كما أن على الزوج أيضًا أن يزين لزوجته حتى يسرها ويعفها، قال ابن عباس: إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي؛ لأن الله يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} [البقرة: 228] (10).

وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان» (11).

قال ابن حجر: وفيه مشروعية تزين المرأة لزوجها، وثبوت حق المرأة على الزوج في حسن العشرة، وقد يؤخذ منه ثبوت حقها في الوطء لقوله: ولأهلك عليك حقًا، ثم قال: وائت أهلك، وقرره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وفيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل، وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة، أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور (12).

2- تدليل الزوج:

كما تحب الزوجة من زوجها أن يدللها ويحنو عليها؛ فإنه كذلك يحب منها أن تدللـه وتحنو عليه، وما أروع وصف القرآن الكريم للعلاقة بين الزوجين حينما قال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].

إن الغزل والتدليل لكل من الزوجين بعضهما لبعض له دورًا مهما في السعادة الزوجية والإشباع العاطفي، حيث أنه من أكثر العواطف الإنسانية إثارة للخيال، وتتجمع حوله أرق المشاعر وأنبلها، وأيضًا يؤدي إلى توثيق روابط المحبة والألفة فيما بينهم، وكذلك له أثر فعال في استقرار العائلة، جلست السيدة عائشة رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم تؤانسه وتسليه، فحكت له حكاية طويلة ولطيفة، عن قصة عشرة من النسوة، جلسن فأخذت كل واحدة منهن تصف أخلاق زوجها، والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت إليها بإعجاب واهتمام حتى قال لها في نهاية الحديث: «كنت لك كأبي زرع لأم زرع» (13).

وما أبدع تلك الصورة التي تحكيها إحدى الزوجات، فتقول: إن زوجي رجل يحتطب (يقطع الأخشاب، ويجمعه من الجبل، ثم ينزل إلى السوق فيبيعها، ويشترى ما يحتاجه بيتنا)، أُحِسُّ بالعناء الذي لقيه في سبيل رزقنا، وأحس بحرارة عطشه في الجبل تكاد تحرق حلقي، فأعد له الماء البارد؛ حتى إذا قدم وجده، وقد نَسَّقْتُ متاعي، وأعددت له طعامه، ثم وقفتُ أنتظره في أحسن ثيابي، فإذا ولج (دخل) الباب، استقبلته كما تستقبل العروسُ الذي عَشِقَتْهُ، فسلمتُ نفسي إليه، فإن أراد الراحة أعنته عليها، وإن أرادني كنت بين ذراعيه كالطفلة الصغيرة يتلهى بها أبوها.

3- عدم الامتناع عنه إذا دعاها للفراش:

حذر الإسلام الزوجة من الامتناع عن زوجها إذا دعاها للفراش؛ لأن هذا من أول حقوقه عليها، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح» (14).

قال المهلب: هذا يوجب أن منع الحقوق كلها في الأبدان كانت أو في الأموال مما يوجب سخط الله تعالى، إلا أن يتغمدها بعفوه (15).

وذلك أن الواجب عليها إذا دعاها الرجل إلى حاجته أن تجيبه؛ إلا إذا كان هناك عذر شرعي؛ كما لو كانت مريضة لا تستطيع معاشرته إياها، أو كان عليها عذر يمنعها من الحضور إلى فراشه؛ فهذا لا بأس، وإلا فإنه يجب عليها أن تحضر وأن تجيبه، وإذا كان هذا في حق الزوج على الزوجة، فكذلك ينبغي للزوج إذا رأى من أهله أنهم يريدون التمتع؛ فإنه ينبغي أن يجيبهم ليعاشرها كما تعاشره، فإن الله تعالى قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]..، ولا يجوز للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه (16).

وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون» (17).

هذا إذا كان السخط لسوء خلقها أو سوء أدبها أو قلة طاعتها؛ أما إن كان سخط زوجها من غير جرم فلا إثم عليها (18).

عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ما هذا يا معاذ؟» قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه» (19).

فامتناع الزوجة عن تلبية رغبات زوجها يؤدي إلى تغيره عليها وتغيظه منها، واستبدال الحب بالأذى في قلبه.

4- عدم التعلل بأي ظرف للامتناع عن الزوج:

بعض الزوجات قد تتعلل أحيانًا بالامتناع عن زوجها بعلل وحجج واهية، أحيانًا بادعاء المرض، وحينًا بوفاة أحد من عائلتها، وكل ذلك يغضب الزوج ويجعله ينفر من الحياة معها.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: اشتكى ابن لأبي طلحة، قال: فمات، وأبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئًا، ونحته في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام، قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أبو طلحة أنها صادقة، قال: فبات، فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما» قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن (20).

إن امرأة أبي طلحة لما مات ابنها لم تظهر الحزن بل أظهرت الفرح والسرور، حتى جامعها أبو طلحة في تلك الليلة، فلما أصبح واغتسل وأراد الخروج من عندها أعلمته بذلك (21).

5- إباحة الاستمتاع في حالة الحيض فيما دون الفرج:

راعى الإسلام الحالة النفسية للزوج أثناء فترة نزول دم الحيض أو النفاس على الزوجة، فلم يمنعه البتة من مؤاكلتها والمبيت معها في فراش واحد، بل ومن الاستمتاع بها دون الجماع أو المعاشرة الحقيقية، وذلك كنوع من مراعاة الحالة الغريزية للزوج، فلربما ثارت شهوته وزوجه في حالة نزول الدم؛ فيباح له قضاء وطره وإسكان غريزته دون الجماع المباشر، وذلك لأن الإسلام يتعامل مع الغرائز الفطرية بواقعية ووسطية بعيدًا عن المثالية أو الكبت لتلك الغرائز، عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر فقالا يا رسول الله، إن اليهود تقول: كذا وكذا، فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما (22).

فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ليس المراد بالاعتزال وعدم القربان مطلق المجانبة؛ بل مجانبة مخصوصة، وهو ترك الوطيء والجماع فقط لا غير، والحديث يدل على جواز المباشرة في ما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر (23).

فالمرأة التي لا تتزين لزوجها قد تدفعه إلى ارتكاب الخطيئة، والمرأة التي لا تدلل زوجها ولا تحتويه بحنانها وحبها وعطفها قد تدفعه إلى الخطيئة، والمرأة التي تمتنع عن زوجها قد تدفعه إلى ارتكاب الخطيئة.

ضوابط لصيانة الأسرة:

1- تضييق منافذ الطلاق صيانة للحياة الزوجية وحفظًا للمجتمع: فقد وضع الإسلام مراحل للصلح بين الزوجين، حتى لا يكون القرار الأول عند الخلاف هو الطلاق (24).

2- وضع سياسة التحكيم بين الزوجين المختصمين، بل نبّه إلى هذا التحكيم قبل أن يستفحل الشقاق وتبدو شروره، واختار الحكمين من أهل الزوجة ومن أهل الزوج؛ ليكونا أحرص على التوفيق، وأقدر على معرفة الدخائل، ونبّه الحكمين إلى أن يُخلصا في الرغبة في بقاء العلاقة الزوجية؛ ليهيئ الله لهما أسباب الصفاء؛ قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].

3- نبّه الإسلام الزوجين على أن يجتهدا في إصلاح ما بينهما إذا حدث شقاق أو نزاع؛ قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128]. والآراء مجمعة على أن المقصود الزوجة الدميمة أو المسنة التي تحس من زوجها إعراضه عنها، أو استعلاءه عليها، أو ميلًا إلى غيرها، فلا حرج عليها في أن تصالحه على ترك بعض حقوقها عليه، لتستعطفه وتستديم العلاقة (25).

4- حذر الإسلام من الخضوع للنزوات والأهواء، والاستجابة للعاطفة؛ لأن العاطفة تتغلب وتتقلب، فقد يشعر الزوج نحو زوجته بنفرة، ولكنه إذا تريث لا تلبث أن تزول، ولهذا؛ لا يصح أن يلجأ إلى الطلاق استجابة لهذه النفرة الموقوتة؛ قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» (26)، ومعنى هذا، أن الزوج قد ينقم من زوجته شيئًا وهو غافل عن محاسن فيها، فليتبصر قبل أن يقدم على الطلاق، فلعله يؤثر بقاءها، ولعل نفوره يزول.

أي ينبغي أن لا يبغضها لأنه إن وجد فيها خلقًا يكرهه وجد فيها خلقًا مرضيًا؛ بأن تكون شرسة الخلق لكنها دينة أو جميلة أو عفيفة أو رفيقة به، أو نحو ذلك (27).

هذا الإرشاد من النبي صلّى الله عليه وسلم، للزوج في معاشرة زوجته من أكبر الأسباب والدواعي إلى حسن العشرة بالمعروف، فنهى المؤمن عن سوء عشرته لزوجته، والنهي عن الشيء أمر بضده، وأمره أن يلحظ ما فيها من الأخلاق الجميلة، والأمور التي تناسبه، وأن يجعلها في مقابلة ما كره من أخلاقها؛ فإن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الجميلة، والمحاسن التي يحبها، ونظر إلى السبب الذي دعاه إلى التضجر منها وسوء عشرتها، رآه شيئًا واحدًا أو اثنين مثلًا، وما فيها مما يحب أكثر، فإذا كان منصفًا غض عن مساوئها لاضمحلالها في محاسنها.

وبهذا: تدوم الصحبة، وتؤدّى الحقوق الواجبة والمستحبة وربما أن ما كره منها تسعى بتعديله أو تبديله.

وأما من غض عن المحاسن، ولحظ المساوئ ولو كانت قليلة، فهذا من عدم الإنصاف، ولا يكاد يصفو مع زوجته.

والناس في هذا ثلاثة أقسام:

أعلاهم: من لحظ الأخلاق الجميلة والمحاسن، وغض عن المساوئ بالكلية وتناساها.

وأقلهم توفيقًا وإيمانًا وأخلاقًا جميلة: من عكس القضية، فأهدر المحاسن مهما كانت، وجعل المساوئ نصب عينيه، وربما مددها وبسطها وفسرها بظنون وتأويلات تجعل القليل كثيرًا، كما هو الواقع.

والقسم الثالث: من لحظ الأمرين، ووازن بينهما، وعامل الزوجة بمقتضى كل واحد منها (28).

5- وإذا كان لا بد من الطلاق، فأحسن حالاته أن يكون طلقة واحدة في طهر، لم يمس الرجل زوجته فيه، وهذا هو معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]؛ ذلك لأن الفترة التي بها حيض فترة ركود أو نفور، أو استجابة لنوازع الغضب، أما فترة الطهر؛ فهي الزمن الملائم للامتزاج والتفاهم والاتصال. فإذا طلّق الرجل زوجته في الطمث، أو طلّقها في طهر مسها فيه، كان طلاقه بدعيًّا مخالفًا لما سنه الشرع الحكيم، كما قال بذلك بعض السلف ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه مخالف لما أذن الله به، ولأنه بدعة لا تزيل عقد الزواج الذي تيقن بالكتاب والسنة والإجماع، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رده وأبطله (زاد المعاد، ابن القيم (4/ 72)، وهذا بخلاف قول الجمهور، الذي يرى وقوع الطلاق البدعي)، فإن رأى الزوج أن يُطلِّق زوجته بعد أن طلّقها في الطمث أو في طُهرٍ مسّها فيه ثم راجعها، كان عليه أن يُطلِّقها الطلاق المشروع.

6- إباحة التعدد بشرط العدل بين الزوجات، وما فيه من محاسن عظيمة، منها على سبيل المثال:

1- أن الزوجة ربما كانت مريضة بمرض عضال، لا هي تأمَل البُرء منه، ولا زوجها يتوقع شفاءها، وهي عاجزة عن تدبير شئون البيت، والقيام بحقوق الزوج، ثم هي مع ذلك كله فقيرة ليس لها مال تنفق منه إذا سرّحها زوجها، وليس لها عائل يقوم بأمرها، فهل من المروءة أن يطلقها زوجها؟ لا، إن المروءة تقضي بأن يبقيها في عصمته، ولكن هل من الإنصاف أن يبقيها في عصمته، وهو في حاجة قصوى إلى من يرعاه ويدبر شئونه، ويعصمه من الزلل، ويكفل له الذرية وزينة الحياة الدنيا؟ لا، إن هذا قضاء عليه بالشقاء، بل إنه شقاء للزوجة وله معًا.

وإنما الإنصاف أن يباح له الزواج بأخرى، ولذا؛ فإن المروءة والإنصاف معًا يقضيان في مثل هذه الحالة بإباحة التعدد.

2- وقد تكون الزوجة عقيمًا، وكثيرًا ما تجهد في العلاج لتلد، فلا ينجح علاجها، وكثيرًا ما يشركها زوجها في الأخذ بأسباب الإنسال، ولكن جهدهما يذهب عبثًا. فبمَ تقضي العدالة والفطرة؟ أتقضي بأن يقمع الرجل شوقه إلى أن يكون له ولد يبهج حياته، ويرثه من بعده، ويوهمه بأنه خالد فيه وفي ذراريه؟! أم تقضي بأن يتزوج بعد أن صبر على عقم زوجته زمانًا، ويئس من إنسالها؟ ولقد تكون كسابقتها معدمة، لا عائل لها، فمن الوفاء للعشرة، ومن النخوة، ومن المروءة ألا يطلقها، بل يحرص عليها ويرعاها.

3- وفي أكثر الأمم وبخاصة في بعض الظروف يزيد عدد النساء على عدد الرجال زيادة ملحوظة، فإذا اقتصر كل رجل على زوجة واحدة؛ فإن الكثرة من الفتيات والنساء يقضين حياتهن عوانس أو أيامى، ومعنى هذا أنهن يحقدن على المتزوجات وعلى المتزوجين، ومعنى هذا أيضًا أن سياج العفة لا يلبث أن يصاب بندوب واضطراب.

وفي هذا ما فيه من شرور تصيب الزوجات أنفسهن؛ لأن أولئك يشتركن معهن في أزواجهن خفية وخلسة، وهو شرور لا ينجو منه الرجال أيضًا؛ لأن هؤلاء العوانس والأيامى يتصلن بالرجال بصلات من القرابة، فالذي يخدش سمعتهن يؤذي أقاربهن.

يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله في معرض كلامه عن محاسن التعدد: إن الله أجرى العادة بأن الرجال أقل عددًا من النساء في أقطار الدنيا، وأكثر تعرُّضًا لأسباب الموت منهن في جميع ميادين الحياة، فلو قصر الرجل على واحدة، لبقي عدد ضخم من النساء محرومًا من الزواج، فيضطرون إلى ركوب الفاحشة فالعدول عن هدي القرآن في هذه المسألة من أعظم أسباب ضياع الأخلاق، والانحطاط إلى درجة البهائم في عدم الصيانة، والمحافظة على الشـرف والمروءة والأخلاق، فسبحان الحكيم الخبير (29).

4- ثم إن الرجل قادر على الإنزال إلى الستين وما بعدها، وقلما تلد المرأة بعد الخامسة والأربعين، فإذا كان قد تزوج في سن متأخرة، أو كان ممن يحبون كثرة الذرية، فمن التضييق عليه أن نحظر عليه الزواج بأخرى، على أنه صالح لأداء وظيفة النسل طوال أيام السنة، أما المرأة غير صالحة؛ لأن الحمل يعوقها عن النسل.

الخلاصة: أن الإسلام وضع الكثير من الضوابط التي تصون الأسرة المسلمة وتحفظها من التفكك، لأن الأسرة هي عماد المجتمع وحصنه الحصين، وهذا من تمام عدل هذه الشريعة وكمالها وحرصها على ما ينفع البشر في حالهم ومآلهم (30).

قم بصيانة أسرتك عاجلًا قبل أن تستفحل أمور تراها، وأخرى لا تراها، فتكون الخسارة مضاعفة، ولتكن البداية منك، لا منهم، باختصار: الإصلاحات تمنع المفاجآت.

---------

(1) أخرجه ابن ماجة (1857).

(2) فيض القدير (5/ 419).

(3) أخرجه النسائي (3231).

(4) أخرجه البخاري (5244).

(5) فتح الباري لابن حجر (9/ 340).

(6) أخرجه البخاري (5246).

(7) أخرجه مسلم (1403).

(8) شرح النووي على مسلم (9/ 178).

(9) فيض القدير (2/ 389).

(10) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (19263).

(11) أخرجه البخاري (1968).

(12) فتح الباري لابن حجر (4/ 212).

(13) أخرجه البخاري (5189)، ومسلم (2448).

(14) أخرجه البخاري (3237)، ومسلم (1436).

(15) شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/ 316).

(16) شرح رياض الصالحين (6/ 500).

(17) أخرجه الترمذي (360).

(18) تحفة الأحوذي (2/ 288).

(19) أخرجه ابن ماجه (1853).

(20) أخرجه البخاري (1301).

(21) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (8/ 98).

(22) أخرجه مسلم (302).

(23) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 244).)

(24) سماحة الإسلام (ص: 20) بتصرف.

(25) تفسير الطبري (5/ 196- 199).

(26) أخرجه مسلم (1469).

(27) شرح النووي على مسلم (10/ 58).

(28) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص: 122).

(29) أضواء البيان (3/ 115).

(30) الإسلام واستقرار الأسرة/ طريق الإسلام.