logo

أطفالنا وانتكاسة الفطرة


بتاريخ : الأحد ، 12 محرّم ، 1445 الموافق 30 يوليو 2023
بقلم : تيار الاصلاح
أطفالنا وانتكاسة الفطرة

فطر الله جل وعلا بني آدم على حب الخير والنزاهة والعفة، وسمو الهدف، وحسن الأخلاق، كما فطرهم على كره الشر والرذائل، والساقط من الأخلاق والأفعال والأقوال، بيد أن قومًا من بني البشر شذوا عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، فقلبوا الموازين، واستبدلوا بالخير الشر، وبالعفة والنزاهة الخسةَ والقذارة، فعمدوا إلى ما نهى الله عنه فأتوه، وإلى ما أمر الله به فقلَوه وتركوه، يعيش أحدهم في عالم الجرائم والذنوب والمعاصي، تنازعه فطرته الخيرة فيكبتها، ويدعوه واعظ الخير في قلبه فلا يعبأ بدعائه، لا يتورع عن ارتكاب أي ذنب مهما عظم؛ لأن الجرم قد استحكم، وغلبة النفس قد طغت.  

عمل قوم لوط:

جريمة بدأها على وجه الأرض قوم لوط عليه السلام، وأكرم الله لوطًا وشرَّفه وطهره منهم ومن فجورهم، ولم تُعرَف هذه الموبقة قبلهم؛ قال الله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} [الأعراف: 80- 81]، وقد خوَّفهم لوط عليه السلام ووعظهم وحذَّرهم مغبة فجورهم ذاك، ولكنهم حقًّا قوم مسرفون، فتمادوا في غيِّهم حتى هموا بضيوف نبيهم لوط عليه السلام ليفعلوا بهم الفاحشة، وقد دفعهم لوط ليُثنيهم عن مرادهم، وقدم لهم له بناته ليزوجهم إياهن؛ وقال لهم: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78]، وقد رأى الملائكة الكرام ما دار بينه وبين قومه؛ فقالوا للوط عليه السلام: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: 81]، وأمروه أن يترك البلدة من عشيته قائلين له: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} [هود: 81]، وقالوا له مخبرين بلحوق قومه سريعًا في مصارع الغابرين في الأمم الشقية: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81]، بلى، إنه لقريب؛ قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: 82- 83]، إن الجزاء دائمًا يكون من جنس العمل، فها هم قوم لوط لما قلبوا فطرة الله قلب الله عليهم ديارهم، وجعلهم عِبرة لغيرهم، فهذا مكان عذابهم باقٍ إلى يومنا هذا {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} [الصافات: 137- 138].  

لقد شاءت سنة الله أن يخلق البشر ذكرًا وأنثى، وأن يجعلهما شقين للنفس الواحدة تتكامل بهما، وأن يتم الامتداد في هذا الجنس عن طريق النسل، وأن يكون النسل من التقاء ذكر وأنثى.. ومن ثم ركبهما وفق هذه السنة صالحين للالتقاء، صالحين للنسل عن طريق هذا الالتقاء، مجهزين عضويًا ونفسيًا لهذا الالتقاء.. وجعل اللذة التي ينالانها عندئذ عميقة، والرغبة في إتيانها أصيلة، وذلك لضمان أن يتلاقيا فيحققا مشيئة الله في امتداد الحياة، ثم لتكون هذه الرغبة الأصيلة وتلك اللذة العميقة دافعًا في مقابل المتاعب التي يلقيانها بعد ذلك في الذرية؛ من حمل ووضع ورضاعة، ومن نفقة وتربية وكفالة.. ثم لتكون كذلك ضمانًا لبقائهما ملتصقين في أسرة، تكفل الأطفال الناشئين، الذين تطول فترة حضانتهم أكثر من أطفال الحيوان، ويحتاجون إلى رعاية أطول من الجيل القديم! هذه هي سنة الله التي يتصل إدراكها والعمل بمقتضاها بالاعتقاد في الله وحكمته ولطف تدبيره وتقديره.

ومن ثم يكون الانحراف عنها متصلًا بالانحراف عن العقيدة، وعن منهج الله للحياة.

ويبدو انحراف الفطرة واضحًا في قصة قوم لوط، حتى أن لوطًا ليجبههم بأنهم بدع دون خلق الله فيها، وأنهم في هذا الانحراف الشنيع غير مسبوقين: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} [الأعراف: 80- 81].

والإسراف الذي يدمغهم به لوط هو الإسراف في تجاوز منهج الله الممثل في الفطرة السوية، والإسراف في الطاقة التي وهبهم الله إياها، لأداء دورهم في امتداد البشرية ونمو الحياة، فإذا هم يريقونها ويبعثرونها في غير موضع الإخصاب، فهي مجرد «شهوة» شاذة، لأن الله جعل لذة الفطرة الصادقة في تحقيق سنة الله الطبيعية.

فإذا وجدت نفس لذتها في نقيض هذه السنة، فهو الشذوذ إذن والانحراف والفساد الفطري، قبل أن يكون فساد الأخلاق.. ولا فرق في الحقيقة؛ فالأخلاق الإسلامية هي الأخلاق الفطرية، بلا انحراف ولا فساد.

إن التكوين العضوي للأنثى- كالتكوين النفسي- هو الذي يحقق لذة الفطرة الصادقة للذكر في هذا الالتقاء، الذي لا يقصد به مجرد «الشهوة»؛ إنما هذه اللذة المصاحبة له رحمة من الله ونعمة، إذ يجعل القيام بتحقيق سنته ومشيئته في امتداد الحياة، مصحوبًا بلذة تعادل مشقة التكليف! فأما التكوين العضوي للذكر- بالنسبة للذكر- فلا يمكن أن يحقق لذة للفطرة السليمة؛ بل إن شعور الاستقذار ليسبق، فيمنع مجرد الاتجاه عند الفطرة السليمة.

وطبيعة التصور الاعتقادي، ونظام الحياة الذي يقوم عليه، ذو أثر حاسم في هذا الشأن، فهذه هي الجاهلية الحديثة في أوربا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشارًا ذريعًا، بغير ما مبرر إلا الانحراف عن الاعتقاد الصحيح، وعن منهج الحياة الذي يقوم عليه.

وقد كانت هناك دعوى عريضة من الأجهزة التي يوجهها اليهود في الأرض لتدمير الحياة الإنسانية لغير اليهود، بإشاعة الانحلال العقيدي والأخلاقي.. كانت هناك دعوى عريضة من هذه الأجهزة الموجهة بأن احتجاب المرأة هو الذي ينشر هذه الفاحشة الشاذة في المجتمعات! ولكن شهادة الواقع تخرق العيون، ففي أوربا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الكامل بين كل ذكر وكل أنثى- كما في عالم البهائم! - وهذه الفاحشة الشاذة يرتفع معدلها بارتفاع الاختلاط ولا ينقص، ولا يقتصر على الشذوذ بين الرجال بل يتعداه إلى الشذوذ بين النساء.. ومن لا تخرق عينيه هذه الشهادة فليقرأ: «السلوك الجنسي عند الرجال» و«السلوك الجنسي عند النساء» في تقرير «كنزي» الأمريكي.. ولكن هذه الأجهزة الموجهة ما تزال تردد هذه الأكذوبة، وتسندها إلى حجاب المرأة، لتؤدي ما تريده بروتوكولات صهيون، ووصايا مؤتمرات المبشرين.

ونعود إلى قوم لوط! فيتجلى لنا الانحراف مرة أخرى في جوابهم لنبيهم: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]! يا عجبًا! أو من يتطهر يخرج من القرية إخراجًا، ليبقى فيها الملوثون المدنسون؟! ولكن لماذا العجب؟ وماذا تصنع الجاهلية الحديثة؟ أليست تطارد الذين يتطهرون، فلا ينغمسون في الوحل الذي تنغمس فيه مجتمعات الجاهلية- وتسميه تقديمة وتحطيمًا للأغلال عن المرأة وغير المرأة- أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم وتصوراتهم كذلك، ولا تطيق أن تراهم يتطهرون لأنها لا تتسع ولا ترحب إلا بالملوثين الدنسين القذرين؟! إنه منطق الجاهلية في كل حين (1).

وهؤلاء المجرمون لا غرض لهم إلا إرضاء حس الشهوة وقضاء وطر اللذة، ومن قصد الشهوات لذاتها، تمتعًا بلذاتها، دون الفائدة التي خلقها الله تعالى لأجلها؛ جنى على نفسه غائلة الإسراف فيها، فانقلب نفعها ضرًا، وصار خيرها شرًا، يجعل الوسيلة مقصدًا، وصيرورة الإسراف فيه خلقًا؛ إذ الفعل يكون حينئذ عن داعية ثابتة لا عن علة عارضة، فلا يزال صاحبه يعاوده حتى يكون ملكة راسخة له، فتكرار العمل يكون الملكة، والملكة تدعو إلى تكرار العمل والإصرار عليه، وهذا وجه إضراب الانتقال من إسناد إتيان الفاحشة إليهم بفعل المضارع المفيد للتكرار والاستمرار إلى إسناد صفة الإسراف إليهم بقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81]، أي لستم تأتون هذه الفاحشة المرة بعد المرة بعد ندم وتوبة عقب كل مرة، بل أنتم مسرفون فيها، وفي سائر أعمالكم لا تقفون عند حد الاعتدال في عمل من الأعمال، ففي سورة العنكبوت مكان هذه الآية -وما قبلها عين ما قبلها- {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29]، وفي سورة الشعراء مكان هذا الإضراب هنا: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166]، أي متجاوزون لحدود الفطرة وحدود الشريعة، فهو بمعنى الإسراف، وفي سورة النمل: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55]، وهو يشمل الجهل الذي هو ضد العلم، والجهل الذي هو بمعنى السفه والطيش.

ومجموع الآيات يدل على أنهم كانوا مرزئين بفساد العقل والنفس، بجمعهم بين الإسراف والعدوان والجهل، فلا هم يعقلون ضرر هذه الفاحشة في الجناية على النسل وعلى الصحة وعلى الفضيلة والآداب العامة ولا غيرها من منكراتهم -فيجتنبوها أو يجتنبوا الإسراف فيها- ولا هم على شيء من الحياء وحسن الخلق يصرفهم عن ذلك (2).

إن موجة الدعاية للمثلية الجنسية بأفلام الكارتون، أو صبغ منتجاتهم بصبغة ألوان الطيف لدعم هذه الأفكار والترويج لها؛ يحتم علينا أن نحذر ونبين ونوضح للمجتمع حقيقة هذا البلاء، فهو عقبة في طريق المحافظة على النسل باكتفاء الرجال بالرجال والنساء بالنساء، بالإضافة إلى أنه انتكاس للفطرة، وقد ظهرت مؤخرًا دعايات تقول أن الشذوذ له سبب جيني فتجد الشاذ يقول أنا ليس لي يد في ذلك إنما القضية مرتبطة بالجينات، هذا ما يروجه الغرب ويقفون في وجه أي أبحاث تدعو لعلاج هذه الحالات.

ولقد اعترف "فوكوياما" الأمريكي ذو الأصل الياباني في كتابه الجديد "الانهيار العظيم"، أن الخمسين سنة الأخيرة من القرن الماضي شهدت انهيارًا عظيمًا للعلاقات والأخلاق الاجتماعية والروابط الأسرية بالدول المتقدمة، وقال: إن هذه الحضارة -بما فيها من ثورة تكنولوجية، وانتقال المجتمع من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات والأقمار الصناعية، والإنترنت، والبريد الإلكتروني، والفاكس، وغيرها- هي السبب الذي أزال الحدودَ الثقافية والحضارية بين المجتمعات المستقرة منذ زمن طويل، وذلك أدى إلى بداية ظاهرة الانهيار العظيم التي اتسمت بتدهور خطير في الظروف الاجتماعية في معظم الدول الصناعية، فازدادت معدلاتُ الجريمة، وتسارع انهيارُ العلاقات والروابط بين أفراد الأسرة -المؤسسة الاجتماعية المستقرة منذ مئات السنين- وكذلك معدلات الخصوبة في معظم الدول الأوربية، حتى باتت تنذر بانقراض هذه الشعوب مع تراجع معدلات الزواج، وقلة المواليد إلى حد أن ثلث الأطفال بالولايات المتحدة ينشئون خارج مؤسسة الزواج، في حين تبلغ هذه النسبة 50% في الدول الإسكندنافية.

في حين أنه لا يوجد جين خاص بهذا السلوك، وإن كان الأمر كما يقولون أن هناك جين مسئول عن المثلية؛ فهل يعفى صاحبه من العقاب؟ وإذا سلمنا بذلك سنجد القاتل يبرر فعلته أنه هناك جين يدفعه للقتل.

وعجيب أمر الانسان يكرمه ربه إذ يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] كرمه ربه بالعقل ويرغب هو أن يسفه نفسه ويحط من شأنها، ألم يعلم أنه مكلف ويُحاسب على أفعاله، أما الحيوان فليس مكلفُا يفعل ما يشاء وقتما شاء.

وقد يخرج الشاب الذي تعرض للتحرش منذ الصغر وقد شُوه نفسيًا لينتقم من المجتمع بإيذاء غيره، ولذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (3)، لماذا يُقتل المفعول به يكفي قتل الفاعل؟

إنها حكمة التشريع في قتل المفعول به؛ لأنه سيقوم بدوره بإفساد الفطرة الطبيعية عند غيره وبالتالي تشيع الفاحشة في المجتمع، فضلًا عن المشاكل النفسية التي يسببها هذا السلوك الشاذ، فأغلب من يمارسون تلك الممارسات يعيشون في قلق واكتئاب وأمراض، فنسبة الإصابة بالإيدز بينهم 22 ضعف المعدلات الطبيعية، وسرطان الشرج يزيد بنسبة 17 ضعف المعدلات الطبيعية.

إن هذه الدعايات والترويج لها في العالم ما هي إلا وسيلة لإسكات صوت الضمير الذي يؤنب من يقوم بهذه الفعلة، ويطالبون المجتمع أن يعاملهم على أنهم أناس طبيعيون، كلا والله، ليست هذه هي الفطرة السوية، فإن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم وفطره على الفطرة السليمة، إذ يقول تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ  وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]، ولكن الإنسان يشوهها بارتكاب المعاصي والتمادي فيها دون علاج، فالأحرى به إذا ابتلى بهذا الأمر فعليه أن يتعامل مع هذا الميول لا يستسلم للسلوك الشاذ.

وقد بين القرآن أن النفس عندها استعداد للفجور واستعداد لسلوك الطريق المستقيم، فعليه أن يضبط سلوكه بالتقوى إذ يقول تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 7 - 10] فعليه بتزكية النفس والتقرب إلى الله يتوب إليه ويطلب منه يد العون، والبحث عن طرق للعلاج يقوم به أطباء متخصصون؛ من علاج سلوكي معرفي يعمل على التنفير من هذا السلوك، أو تغيير الارتباط الشرطي بين المثير الشاذ والشعور بالمتعة، أو من البداية وقف الدوافع الأولية لهذا السلوك، فلن يرتقي الإنسان إلا بأخذ نفسه بالعزيمة، ولا يتركها لأهوائها.

وهناك مسئولية على الآباء تجاه هذه الممارسات باتباع سبل الوقاية التي دلنا عليها رسولنا الكريم في التفريق بين أولادهم في المضاجع، وأهمية الرقابة على المواد التي تقدم للأطفال؛ من أفلام كارتون، أو مقاطع لا تناسب مجتمعاتنا، والتنبيه على أن هذه التصرفات لا تجوز في ديننا ولا تصح، ولا نمررها دون تنبيه، من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لأن المسكوت عنه بالتدريج تعتاده العين ويصبح مقبولًا لدى الناس، وطبيعي أن يحدث.

وأهمية تفعيل التوعية الدينية وبيان أن ديننا دين فطرة، وبيان عاقبة قوم لوط عندما أسرفوا على أنفسهم إذ يقول تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [الأعراف: 81]، أي أنهم قوم تمكن منهم الإسراف في الشهوات، فجربوا كل شيء حتى سئموا العلاقات الزوجية الطبيعية فهي لا تكفيهم، ومارسوا هذا السلوك الشاذ، والذى قد ينتهى بالانتحار كما نرى في الغرب، فلم يكن هناك رادع يردعهم عن أفعالهم، ودليل أنهم أسرفوا فيه أنهم كانوا يأتونه علنًا في نواديهم العامة على مرأى ومسمع من الجميع إذ يقول تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29].

كما بينت لنا الآيات في سورة المعارج أن الإنسان السوي الفطرة الغير متجاوز الحد في الشهوات هو الآمن من القلق والاضطرابات النفسية إذ يقول تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} إلا من كانت هذه صفاتهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)} [المعارج: 19- 31].

إن الإسلام يدعو الإنسان إلى الاعتدال في شهوته بلا إفراط أو تفريط، فهو حماية له من الأمراض النفسية، فمن تجاوز الحد لا يكفيه شيء، ولمن يدعم نشر الفواحش في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، يقول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42- 43].

وليعلم أن امرأة لوط لم تفعل أفعال أهل القرية؛ إنما كانت فقط داعمة لهم، فأصابها ما أصابهم من العذاب، إذ يقول تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81]، عن العرس ابن عميرة الكندي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها» - وقال مرة: «أنكرها» - «كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها» (4).

قال المناوي: لأن الراضي بالمعصية في حكم العاصي، والصورة الأولى فيها إعطاء الموجود حكم المعدوم والثانية عكسه (5).

وانظر إلى شكل عقوبة قوم لوط ليس لها سابق مثيل، إذ يقول تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} [هود: 82]، ترى الجزاء من جنس العمل إذ يقول الله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]، كما أنهم بعملهم هذا نكسوا الفطرة السوية التي فطر الله الخلق عليها أمر الله عز وجل الملائكة أن تُقلب القرية رأسًا على عقب جزاء بما كانوا يعملون (6).

جريمةُ عمل قوم لوط حكمها في شرع الله معلوم، فهي كبيرة من كبائر الذنوب، حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم منها أشد التحذير وأعظم النكير، حتى خافها على أمته من بعده؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط»؛ (7)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس بخمس: ما نقض قومٌ العهدَ إلا سلَّط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا مُنِعوا النبات وأُخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حُبس عنهم القَطْرُ» (8).  

وقال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر المهاجرين، خصال خمس إذا ابتُليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجَور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم، فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتحرَّوا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» (9).  

فحفظ الفروج عن الفواحش مما تزكو به النفوس، وتسلم به المجتمعات، وتصان به الأعراض، قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30- 31].

فاحذروا موارد اللعنات من رب البريات؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ملعونٌ من وقع على بهيمة، ملعون من عمِل بعمل قوم لوط»؛ (10)، وروى النسائي بسنده عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من عمِل عملَ قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط» (11).  

وقال صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (12)، وهذا فيما إذا كان المفعول به قد أمكن نفسه للفاعل راضيًا غير مكره، وإلا فهي من المصائب المكفِّرة، فحدُّ الفاعل والمفعول به الراضي القتلُ، وقد أجمع على ذلك الصحابة والعلماء من بعدهم، ولكن اختلفوا في كيفية قتله؛ فمنهم من يرى إحراقه بالنار، ومنهم من يرى رميه من أعلى شاهق في البلد، ومنهم من يرى ضرب عنقه بالسيف؛ وهو الصواب، فهو جرثومة في المجتمع لا يسلم منها سوى ببتْرِها عنه.  

لقد كان السلف رحمهم الله شديدي الحذر والتحذير من مقدمات تلك الفاحشة؛ كالنظر إلى الأمرد أو مجالسته، ولو كان ذلك في طلب العلم؛ قال الحسن ابن ذكوان: لا تجالس أولاد الأغنياء؛ فإن لهم صورًا كصور العذارى، وهم أشد فتنة من النساء، وقال بعض التابعين: ما أنا بأخوفَ على الشاب الناسك من سَبْعٍ ضارٍ من الغلام الأمرد يجلس إليه (13).  

وجاء رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله ومعه صبي حسن الوجه، فقال له الإمام: من هذا منك؟ فقال: ابن أختي، قال: لا تجئ به إلينا مرة أخرى، ولا تمشِ معه في طريق؛ لئلا يظن بك من لا يعرفك، ولا يعرفه سوءًا (14).  

إنها الفاحشة التي نزل بأهلها عذاب لم ينزل على غيرهم؛ لقبح جريمتهم، وشناعة فجورهم، فاحشة أعقبتها الحسرات، وذهبت اللذات، وانقضت الشهوات، وتمتعوا قليلًا وعذبوا طويلًا؛ {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83].  

عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلًا أو امرأة في الدبر» (15).                        

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: لو أن لوطيًّا اغتسل بكل قطرة من السماء، لقِيَ الله غير طاهر (16).

فلهذه الجريمة أضرار كثيرة جدًّا يقصُر دونها العدُّ والإحصاء، وهذه الأضرار متعددة؛ فأضرار دينية، وخلقية، واجتماعية، ونفسية، وصحية، وغير ذلك، فهي كبيرة من كبائر الذنوب، وسبب للبعد عن علَّام الغيوب، وسبب لمقت الله وأليم عقابه، وأخذه الشديد في الدنيا والآخرة، بل خطرها على العقيدة؛ إذ إنها ذريعة للعشق، والعشق ذريعة للشرك والتعلق بغير الله تعالى.  

ومن أضراره قلة الحياء، فالحياء هو الحياة؛ وذلك أن الرجل إذا قل حياؤه ارتكب الفواحش، واستحسن القبائح، وجاهر بالكبائر، فكأنه على شعبة من الكفر، فصار هذا تخريج على التضاد، الحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من الكفر نسأل الله الحياء، والتقى، والعفة، والغنى (17).

عن أبي مسعود، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» (18).

ومنها سوء الخلق، وقسوة القلب، وقتل المروءة والشهامة، وانتكاس الفطرة، وذهاب الغَيرة من القلب، وسواد الوجه وظلمته، وحرمان العلم وبركته، وذهاب الشجاعة.  

ومن أضرارها زوال البركات والخيرات، وحلول العقوبات، وقلة الأمن، وشيوع الفوضى، وحرمان الأمة من السعادة الحقيقية، وتفسخ المجتمع وتحلله، وهل يرجى ممن يلوط العَذِرَةَ، أو يدعو الناس لنفسه كالمرأة خيرًا؟! {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

وهذا كله مما يدل على شناعة هذه الخصلة، وقبح هذه الخلة، وأنها لا ينبغي أن يتهاون مع أصحابها.

وقد عذب الله المستحلين لها بعذاب ما عذبه أحدًا من الأمم، حيث طمس على أبصارهم، وقلب مدائنهم فجعل عاليها سافلها، وأتبعهم بالحجارة من السماء.

ولقد اتفق الصحابة على قتل الفاعل والمفعول به، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ومقدمات هذه الفاحشة محرمة بالإجماع.

قال ابن الحاج المالكي في المدخل: اللوطية على ثلاث مراتب.. طائفة تتمتع بالنظر وهو محرم، لأن النظرة إلى الأمرد بشهوة حرام إجماعًا، بل صحح بعض العلماء أنه محرم؛ وإن كان بغير شهوة.

والطائفة الثانية يتمتعون بالملاعبة والمباسطة والمعانقة وغير ذلك عدا فعل الفاحشة الكبرى، ولا يظن ظان أن ما تقدم ذكره من النظر والملاعبة والمباسطة والمعانقة أقل رتبة من فعل الفاحشة، بل الدوام عليه يلحقه بها، لأنهم قالوا: لا صغيرة مع الإصرار، وإذا دوام على الصغائر وصلت بدوامه عليها كبائر، والحكم في ذلك معلوم عند أهل العلم، والمرتبة الثالثة فعل الفاحشة الكبرى (19).

وللفقهاء في مرتكب هذه الجريمة مذاهب: الأول: أنه كالزاني، فيرجم المحصن، ويجلد البكر مع التغريب.

ولو كان صحيحًا لما كان يدل على أن حد مرتكبه كحد الزنا، وإنما يدل على أنه من جملة الزناة.

الثاني: أنه يقتل الفاعل والمفعول به مطلقًا لما في الترمذي وأبي داود وابن ماجه وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (20).

وهو حديث صحيح صريح في عقوبة مرتكب هذه الجريمة، ويشترط في المفعول به أن يكون قد ارتكب معه ذلك الفعل وهو طائع.

وهنالك قول ثالث: بأن يلقى من فوق أبعد الأماكن ارتفاعًا: من جبل، أو عمارة ثم يتبع بالحجارة، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما محتجًا بفعل الله بقوم لوط: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74].

والراجح من هذه الأقوال هو القول الثاني، والحديث فيه صحيح، والنص فيه صريح، فلا معدل لأحد عنه.

يضاف إلى ذلك أن هذه الجريمة أخطر بكثير من جريمة الزنى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6].

---------------

(1) في ظلال القرآن (3/ 1315- 1316).

(2) تفسير المنار (8/ 454- 455).

(3) أخرجه أبو داود (4462).

(4) أخرجه أبو داود (4345).

(5) فيض القدير (1/ 407).

(6) الشذوذ الجنسي وانتكاس الفطرة/ طريق الإسلام.

(7) أخرجه الترمذي (1457).

(8) صحيح الجامع (3240).

(9) أخرجه ابن ماجه (4019).

(10) أخرجه أحمد (1875).

(11) أخرجه النسائي (7297).

(12) أخرجه الترمذي (1456).

(13) الكبائر للذهبي (ص: 58).

(14) الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 233).

(15) أخرجه الترمذي (1165).

(16) ذم الهوى (ص: 208).

(17) الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 656).

(18) أخرجه البخاري (3484).

(19) المدخل لابن الحاج (2/ 8- 9).

(20) سبق تخريجه.