حاجة الأبناء إلى غذاء العقل
قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق:1-5].
إنها السورة الأولى من هذا القرآن، فهي تبدأ باسم الله، وتوجه الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما توجه، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها، توجهه إلى أن يقرأ (1).
ولكن ما السر في أن أول كلمة تلقاها النبي صلى الله عليه وسلم، من بين ملايين الكلمات، وبدأ بها الوحْي هي "اقرأ"؟، ما السر في أنه مع نبي أمي لا يقرأ كانت البداية بكلمة "اقرأ"؟!، ومع رد النبي بأنه لا يُجيد القراءة: «ما أنا بقارئ»، يتكرر الأمر وبنفس الكلمة: "اقرأ"؟، ومع اعتذار النبي للمرة الثالثة بأنه ليس بقارئ يرد جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِكَ الذِي خَلَقَ}، لقد طلب منه القراءة قبل أن يُخبره أنه نبي رسول.
لعل السر في ذلك أن كلمة "اقرأ" هي مفتاح الرسالة، وعنوان الأمة، ومنهج حياتها (2).
إن مسألة القراءة والمساهمة في تطوير المعرفة من المسائل التي تشكل موضوعًا مقلقًا لكل غيور على مستقبل هذه الأمة؛ لأن القراءة والمعرفة والتعليم صارت بوابة هامة للتخلص من التخلف والتبعية.
لماذا نشجع الطفل على القراءة؟
للقراءة في حياة الطفل أهمية كبرى، وذلك للآتي:
1- السنوات الست الأولى هي السنوات الحاسمة في تشكيل رغبات الطفل وميوله واتجاهاته؛ ولهذا فإن الاهتمام بتحبيب القراءة إليه في هذه المرحلة يعد مهمًا للغاية، والشواهد والدلائل تؤكد أننا إذا لم نزرع في نفس الطفل التآلف مع الكتاب في الصغر؛ فإن من الصعوبة بمكان أن تنجح في ذلك في الكبر.
2- لممارسة القراءة في وقت مبكر علاقة كبيرة بالتفوق الدراسي في المراحل المختلفة، أما الأطفال الذين لا ينجذبون إلى القراءة كثيرًا ما تكون درجاتهم ضعيفة حتى لو درسوا في أفضل المدارس، وهذا يعود إلى أن الطفل حين يفقد الانجذاب إلى الكتاب فإنه سيبذل الحد الأدنى من الجهد، وسيجد متعته في اللهو واللعب، وهذا هو الحاصل لدى معظم الأطفال مع الأسف الشديد.
3- حب القراءة يفتح أمام الطفل بابًا واسعًا للرقي الروحي والعقلي، كما أنه يوسع مداركه ويحسن قدرته على التخيل، ويبعث في نفوس الأطفال الهمة العالية؛ لتخرج الطفل من فضائه الضيق المحدود، ومن زمانه الصعب، إلى فضاء واسع جدًّا، وزمان ممتد بامتداد التاريخ.
4- يكفي تعلقُ الطفل بالكتاب فضلًا أنه يملأ وقته، ويصرفه عن الجلوس أمام التلفاز والانهماك في ألعاب الكمبيوتر، وقد قال الإمام ابن باز رحمه الله: «حب القراءة من النعيم المعجل للمؤمن في الدنيا»(3).
5- تعليمه السلوك المحبب: من خلال اختيار كتب معينة يستطيع القارئ بواسطتها غرس القيم الأخلاقية، والآداب الشرعية، والتعريف بقدوات وأبطال أمتنا.
6- تزيد من الحصيلة اللغوية: عندما يقرأ القارئ للطفل موجّهًا أصبعه إلى الكلمات المقروءة فإن الطفل يتعلم كلمات كثيرة، وكيفية استخدامها في الحياة اليومية.
7- تنمّي مدارك الطفل وخياله: من خلال الاستماع ومتابعة القارئ يتعرف الطفل على عالم لم تكن له دراية كافية به، فبوسع الأم أو القارئ أن تحدّث الصغير عن الأشكال الهندسية ووجودها في الطبيعة، في الحديقة والمنزل (مثلًا: الدائرة تشبه الصحن وتشبه مقود السيارة، وهكذا).
8- ومن خلال القراءة يتعرف الطفل على تجارب الآخرين في حلّ المشكلات؛ مما يعطي الطفل مجالًا للتفكير بصورة أوسع، كما أن القراءة للطفل تدربه على مهارة الانتباه؛ فالأطفال الذين يقرءون أو يُقرأ لهم تكون فترة الانتباه والتركيز لديهم أطول من أقرانهم.
9- تزيد من تحصيله الدراسي: أثبتت الدراسات أن الطفل الذي يقرأ قبل دخوله المدرسة يكون معدل ذكائه أعلى من أقرانه الذين لم يُقرأ لهم، كما أثبتت الدراسات أن أطفال الحضانة الذين يُقرأ لهم أكثر إبداعًا وهدوءًا، وأكثر قدرة على المشاركة والتعلم من أقرانهم الذين لم يُقرأ لهم.
10- تساعده على اكتشاف متعة العلم والقراءة: عندما يجد الطفل كتبًا تناسب ميوله وتشبع هواياته يبدأ تدريجيًا التحوّل إلى القراءة لملء وقته، فالقراءة متعة للطفل إذا وجد الكتاب المناسب، يتعلم الطفل من خلال الاستماع أن مشكلاته جميعها لها حل، وأن أبطال الوقائع والسير التي يسمعها أو يقرؤها مثله يمرون بنفس مشاكله، ولكنهم يستطيعون التغلب عليها، كما أن القراءة الممتعة تدفع إلى المزيد من المطالعة والاستكشاف.
11- تساعد على نمو المهارات القرائية الكتابية، فالنمو في القراءة والكتابة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا ببعضهما، فتعلّم المفردات الجديدة وكيفية استخدامها ينعكس على موضوعات الكتابة والتعبير.
12- تعزز من ثقة الطفل بنفسه وقدراته، وحب الآخرين له، فبكثرة الاستماع أو القراءة تزداد الحصيلة العلمية واللغوية للطفل، ويعزز شعوره بالحب والأمان من قبل الأم القارئة، ويتعلم بعض المهارات السلوكية والأدائية، وكل ذلك يعمل متضافرًا على تعزيز ثقة الطفل بنفسه وقدراته، حيث اكتشفت دراسة مطولة أن الطلاب ذوي المهارات القرائية غير المقبولة يفتقدون الثقة بالنفس والهمة لتعديل المستوى الدراسي، ولكن بعد القراءة الجهرية لهم لفترة امتدت إلى ثلاثة أشهر بدأ التحسن في مستوى القراءة واضحًا، منعكسًا على مهارات التعبير الكتابي.
13- تعلم الطفل مهارات الإلقاء: عندما يقرأ القارئ للطفل، أو حتى القارئ بصوت مسموع، فإنه يتعلم أن صوت البطل الشرير يختلف عن صوت العصفور المسكين في القصة، ويتعلم بالاستماع أن اختلاف نبرات الصوت معبرة عن الحالات النفسية المختلفة، ويكتسب الطفل من خلال ذلك الكم من التنويعات مهارات تمثيلية تساعده في الإلقاء.
14- تنمي العلاقة بين القارئ والطفل: قد يكون هذا العامل من أهم العوامل الأسرية؛ فالقراءة ليست سردًا لبعض المعلومات المكتوبة في النص؛ بل إنها نقل الكلمات إلى الحياة بطريقة شائقة، فعندما تضع الأم الطفل في حضنها وتبدأ القراءة يحس الطفل بمتعة القراءة، ومتعة الحنان والاقتراب من الأم، وكل ذلك يساهم في تقوية العلاقة بين القارئ (الأم) والطفل، وتأكيد شعور الأخير بالحب والأمان، مرتبطًا بحب العلم والقراءة.
15- تعلّم الطفل احترام الكتاب والعلم: إذا شعر الطفل أن الكتاب له قيمة علمية، وفائدة، ومتعة، ورأى طريقة معاملة القارئ (الأم أو المعلم) واحترامهم للكتاب، فإنه سيتعلم تلقائيًا أن الكتاب ليس مجرد أوراق مرصوصة لتوضع على الرف؛ بل يحتوي كنوزًا تريد مَنْ يتعامل معها باحترام وتقدير (4).
متى نبدأ بتعويد أطفالنا على القراءة؟
الاهتمام بارتقاء عقلية الطفل وتثقيفه وترسيخ حب القراءة في نفسه يبدأ في مرحلة مبكرة جدًا من عمره؛ حيث إن من الدراسات ما يُشير إلى أن الطفل يمكن أن يستفيد من القراءة وهو ما يزال جنينًا في بطن أمه!
تقول بعض الدراسات: إن الطفل حين يبلغ الشهر السابع فإن تعرضه لسماع معلومات منظمة يجعل تفتحه الذهني أفضل في المستقبل؛ ولهذا فإنك تجد وأنت تمشي في إحدى الحدائق في كندا، مثلًا، امرأة أسندت ظهرها إلي شجرة، وأخذت تقرأ بحماسة وبصوت مرتفع، وحين تسألها عن سبب رفع صوتها تقول: «أقرأ للجنين الذي في بطني»!
وهكذا، فرحلة ترغيب الطفل في القراءة تبدأ قبل ولادته، وبعد ولادته يستمر الاهتمام بذلك (5).
فالطفل مع بداية شهره الخامس يظهر اهتمامه بالكتب التي تحتوي على صور ملفتة للنظر وألوان زاهية؛ لذا يمكن للأم وضع مجلة بها صور مبهجة لجذب انتباه الطفل نحو الورق وطريقة الإمساك به، ثم يتطور الأمر قليلًا بين سن الثانية والرابعة لحب الطفل للقصص القصيرة، وهنا تكون للصورة معاني لدى الطفل يشعر بها، وبعد الرابعة وحتى السادسة تبدأ الحروف تتداخل لتكون لنا كلمات مبسطة، لتتداخل هي الأخرى مع الصور لكي توصلنا في النهاية لطفل لديه شغف وحب للقراءة (6).
إن شيئًا من مراجعة الذات، وبعض الجهد في تحصيل قدر من الثقافة الأبوية المسئولة قد ينفع في تخفيف حدة الاحتقان الثقافي، الذي يتكبد آثاره الصغار دون ذنب جنوه إلا وجودهم في محيط اجتماعي لا يقبل بسهولة أن يعتمد ثقافة تريح العقل من لغط الحياة المادية، وتفتح له آفاقًا من الأفكار العليا التي تصيغ الإنسان صياغة معرفية، تنأى بصاحبها عن الإسفاف وصغائر الأعمال، وتضعه في الصدارة حيث يقف عن يمينه وشماله ثلة من النابهين، أما من حُرِموا من تلك التربية فمآلهم إلى برامج الترفيه والتسلية، حيث وُجِدت لهم وهم بها يفرحون(7).
_______________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب (6/3938).
(2) كيف تعود طفلك القراءة؟ ممدوح مصطفى حامد، بتصرف، موقع: الألوكة.
(3) طفل يقرأ، د. عبد الكريم بكار، ص7-14، بتصرف.
(4) اقرأ لطفلك يصبح قارئًا، موقع: لكِ.
(5) طفل يقرأ، د. عبد الكريم بكار، ص18-19.
(6) أطفالنا وحب القراءة، معتز شاهين، موقع: المسلم.
(7) التلفاز.. والقضاء على القراءة عند الصغار، مريم عبد الله، موقع: الشبكة الإسلامية.