ضوابط طاعة الزوجة لزوجها
قال تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْمِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
نعم من آياته أنه خلق لكم من أنفسكم نساء أنتم وهن سواء في البشرية والآدمية وفي الطباع العامة والغرائز، خلقهن الله بهذا الوصف لتسكنوا إليهن، فإن النفس ميالة إلى ما يوافقها ويلائمها ويلتقي معها في الغرض العام، وهذا معنى قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ}.
والإنسان الذي يجتمع مع المرأة في الحلال يدرك بوضوح معنى السكنى إليها والميل لها، والهدوء النفسي عند ما يزورها، ومن هنا سمى المكان الذي يلتقي فيه الرجل بالمرأة سكنًا ومسكنًا؛ لأن فيه تسكن النفس وتهدأ، ويطمئن الرجل، ويستريح من وعثاء الطريق ومشاق الحياة الكادحة، وفي الحديث «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتّى تصبح» (1).
وجعل بينكم مودة ومحبة، وصلة روحية قوية قد تفوق في غالب الأحيان صلتك بأقرب الناس إليك، والشرع الشريف يلاحظ هذا جيدا في تقدير الميراث والنفقات والمخالطة الداخلية، والإسرار إلى الزوجات بذات الصدور.
وجعل بينكم رحمة وشفقة، وعطفًا عميقًا، ليس مصدره الغريزة الجنسية والاتصال المادي، بل مبعثه اختلاط الأرواح، واتصال النفوس، والاجتماع لغرض واحد وبناء عش الزوجية على أسس كريمة، ودعائم قويمة {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].
إن ذلك لآيات ناطقة بوحدانية الله، وقدرته وحكمته، وأنه بصير، ولكنها آيات لقوم يتفكرون، لأن الفكر السليم يؤدى إلى الوقوف على تلك المعاني الحية في الحياة الزوجية، هذه يا أخي الحياة الزوجية الصالحة التي يمتن الله بها على عباده، أما ما يحدث من بعض الناس فهذا شيء لا يتحمله الدين، وليس عنوانًا على الإسلام (2).
فالزواج سكن ومودة ورحمة وعلاقة أبدية في الدنيا والآخرة، ترشدنا إلى ما يجب على الزوج إذا ما رغب في ذلك من التلطف والمداعبة؛ حتى لا يكون لقاء الرجل بامرأته وكأنه حالة اغتصاب وقهر.
وقد قال بذلك أعداء الإسلام في مؤتمراتهم، وطالبوا بالتحرر من قيد الزواج لتكون العلاقة بين الذكر والأنثى بعيدة عن فراش الزوجية، ومن هنا كان البحث في هذه المؤتمرات عن حكم الإجهاض لو حملت المرأة من هذه العلاقة الفاسدة، التي لا يترتب عليها أي حق لطرف منهما على الآخر، وتؤدي إلى خراب الدنيا وفساد أجيالها وهدم بيوتها.
أما في الإسلام فيستطيع كل من الزوجين أن يصل إلى ما يريد من صاحبه بالوسائل التي رسمها ديننا العظيم؛ ليكون لقاء الزوجين متعة وسعادة وأنسًا وودًا وحبًّا، تتوثق به القلوب وتنمو العواطف، وتحل به المشكلات، وينشأ في ظله الأبناء، ويبقى حنين كل منهما للآخر مشبوبًا، لا يؤدي كل منهما لصاحبه ما يؤديه على أنه حق شرعي يريد أن يتخلص منه، فيسلم جسده للآخر لقضاء وطره.
وإنما هناك تعانق الأرواح وتلاقي القلوب، ولحظات الرضا التي تذوب فيها الهموم، وتشفى بها الجروح، وتستقيم بها الحياة، ويشرق دين الإسلام على أرض الله نورًا يشع في كل مكان وفي كل زمان، ليقول للدنيا بأن هذا هو المنهج الذي هو واحة الإنسانية، وإلا لفح الإنسانية هجير صحراء مجدبة يؤدي بهم إلى الهلاك (3).
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدى إليه شطره» (4).
قال ابن بطال: يعنى لا لرجل ولا لامرأة يكرهها زوجها، فإن ذلك يوجب سوء الظن، ويبعث الغيرة التي هي سبب القطيعة، ويشهد لهذا قوله عليه السلام: «انظرن ما أخواتكن»، وإن كان الإذن للنساء أخف من الإذن للرجال (5).
قال النووي: وسبب هذا التحريم إن للزوج حق الاستمتاع بها في كل الأيام، وحقه فيه واجب على الفور، فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي، فإن قيل: فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير إذنه، فإن أراد الاستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها، فالجواب إن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة، فإن المسلم يهاب انتهاك الصوم بالإفساد، ولا شك أن الأولى له خلاف ذلك إن لم يثبت دليل كراهة، نعم لو كان مسافرًا فمفهوم الحديث في تقييده بالشاهد يقتضي جواز التطوع لها، إذا كان زوجها مسافرًا، لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه، وفي معنى الغيبة أن يكون مريضًا بحيث لا يستطيع الجماع (6).
فلا شك أن طاعة الزوجة لزوجها من أعظم الواجبات، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34].
قال القرطبي: هذا كله خبر، ومقصوده الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج (7).
وأعظم ما تجب فيه طاعتها له أمر الاستمتاع ما لم يكن لها عذر فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح» (8).
قال المهلب: هذا يوجب أن منع الحقوق كلها في الأبدان كانت أو في الأموال مما يوجب سخط الله تعالى، إلا أن يتغمدها بعفوه(9).
طاعة الزوجة لزوجها ليست انتقاصًا لإنسانيتها:
لقد نظم الإسلام الحياة الزوجية على أسس سليمة وقوية ومعقولة، فيها كل مقومات بناء المجتمع السوي السليم الذي تحفه السعادة والاطمئنان والود، وإذا كان الإسلام قد حدد للزوجين حقوقًا وواجبات فإن ذلك انطلاقًا نحو توضيح اللغة التي تجمع بين الأزواج بشكل يكون فيه كل طرف عارفًا بحقوقه وواجباته، حتى لا تصبح الحياة فوضى لا صراط لها، وتعم العلاقة الزوجية والحياة الأسرية التشنجات وكل عناصر الخلاف والمنازعة، ومن هنا فإن الإسلام وهو يلزم الزوجة بطاعة زوجها بما ليس فيه معصية لله وشرعه لا ينتقص من النظر إلى الزوجة أو المرأة بشكل عام، على أنها إنسان له حقوقه وكرامته، لا كما فعلت الشرائع والأقوام الأخرى غير الإسلامية، فعند الإغريق مثلًا: يقول أرسطو: إن المرأة كائن ناقص ضعيف الإرادة، وليس في وسعها الرقي إلى مراتب الاستقلال، وكانت المرأة عندهم مخلوقًا نجسًا لا ينفع لغير دوام النسل، وأن المرأة الولود تؤخذ من زوجها عارية لتلد للوطن أولادًا من رجل آخر.
لكن طاعة المرأة لزوجها ليست طاعة مطلقة، وإنما هي طاعة مقيدة بقيود ثلاثة:
الأول: أنها لا تكون في أمر فيه مخالفة للشرع، فعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه قال: «لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف» (10)، وعن يحيى القطان: «السمع والطاعة على المرء المسلم، فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (11)، فيحرم على المرأة أن تطيع زوجها في فعل محرم أو ترك واجب.
القيد الثاني: أن تكون في استطاعة الزوجة ولا يلحقها فيها ضرر، لقول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف» (12)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (13).
والقيد الثالث: أنها لا تكون واجبة إلا في أمور النكاح وما يتعلق به، قال ابن نجيم الحنفي: لأن المرأة لا يجب عليها طاعة الزوج في كل ما يأمر به إنما ذلك فيما يرجع إلى النكاح وتوابعه خصوصًا إذا كان في أمره إضرار بها (14).
وننبه إلى أن الأصل في علاقة الزوجين إحسان العشرة، والتغافل عن الهفوات، والحرص على ما يجلب الألفة والمودة (15).
كيفية طاعة الزوجة لزوجها:
طاعة الزوجة لزوجها تكون بأمورٍ كثيرةٍ بيانها فيما يأتي:
تمكين الزوجة نفسها لزوجها للقيام بالعلاقة الزوجية التي أقرّها الإسلام، ولا يَحقُّ لها رفض ذلك في حال عدم وجود المانع والعذر الشرعيّ، لأنّ من أسباب الزواج أن يَعُفَّ كلّ من الرجل والمرأة أنفسهم من الوقوع في الحرام، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، لعنتها الملائكة حتى تصبح» (16).
حِرْص الزوجة على عدم استقبال من لا يُفضِّل الزوج تواجده في بيته، نساءً كانوا أو رجالًا، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فأما حقُّكم على نسائكم فلا يوطئنَ فرُشَكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون» (17)، ولا يجوز للزوجة أن تُدخل رجلًا أجنبيًا عندها إلى المنزل في حال غياب زوجها حتى لو كان أخو زوجها أو من أقاربه غير المحارم، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء»، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت» (18).
استئذان الزوجة لزوجها قبل خروجها من البيت، لأنّ الزوجة تحت مسؤولية زوجها، فلا تخرج دون إعلامه إلا في حالات الضرورة؛ كزيارة أبويها في حال مرضهم، أو الخروج لعلاج نفسها أو أطفالها من مرضٍ خطير، وقد استدلَّ الفقهاء بأحاديث عدَّة تؤكّد على وجوب استئذان المرأة لزوجها في حال خروجها من المنزل، حيث روى عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها» قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبد الله: فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن (19)، واستدلَّوا أيضًا بما روته عائشة أمُّ المؤمنين رضي الله عنها من حديثٍ طويل قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن لي إلى أبوي، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت أبوي (20).
احترام الزوجة لزوجها وتلبية رغباته، وإيجاب طلباته قدر المستطاع وبما يُرضي الله تعالى، والتزيّن والتطيّب له، وملاقاته بوجهٍ طَلِق والحرص على طاعته بالمعروف، ومشاركة الزوج المناسبات الاجتماعية أفراحًا كانت أو أحزانًا.
حفظ الزوجة لزوجها في حقوقه، وواجباته، وماله، والحرص على الحفاظ على نفسها عند غيابه وعدم تواجده في المنزل، قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} [النساء: 34]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أي النساء خير؟ قال: «التي تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها، ولا في ماله» (21).
إحسان الزوجة لزوجها وأولادها، والإحسان يكون بالنظر وبالقول وبالتعامل، فالنظرة الحانية من الزوجة الطيبة توصل رسائل لزوجها وأبنائها أبلغ من أي كلام وألطف من أي جواب، وكذلك أن تنتقي المرأة أطيب الكلمات وأعذب الألفاظ في الحديث مع رفيق دربها قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]، والكلمة الطيبة صدقة، والصدقة تطفئ نار الغضب.
تَوَلي الزوجة أمور المنزل، وذلك إحسانًا منها لزوجها الذي يسعى ويجتهد ليوفّر لها ولأولاده المال وسُبل الراحة في الحياة الدنيا، فتحرص الزوجة على توفير جوٍّ منزلي يَسوده الهدوء، والسكينة، والراحة، والطمأنينة.
إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته «الزوجية» شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجود: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49].
ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها} [النساء: 1].
وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة- بعد ذلك- فيما أراد، أن يكون هذا اللقاء سكناً للنفس، وهدوءً للعصب، وطمأنينة للروح، وراحة للجسد، ثم سترًا وإحصانًا وصيانة، ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة، مع ترقيها المستمر، في رعاية المحضن الساكن الهادئ المطمئن المستور المصون: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] (22).
والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين وتدفع خطاهم وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرأة، ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجًا، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر، وجعلت في تلك الصلة سكنا للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقرارًا للحياة والمعاش، وأنسًا للأرواح والضمائر، واطمئنانًا للرجل والمرأة على السواء (23).
شروط وأحكام خاصة بطاعة الزوجة:
يُشترط لطاعة الزوجة لزوجها أحكامٌ وأمورٌ عدَّة بيانها فيما يأتي:
الحرص على عدم التّضييق على الزوجة، وعدم ممارسة حقّ الطاعة في سبيل أذيّتها أو حبسها في المنزل، وألا يَشُقّ عليها الزوج في طلباته أو يُجبرها على فعل ما لا تُطيق، قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]، أي: فإذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريد منها، مما أباحه الله له منها، فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها ولا هجرانها (24).
قال أبو جعفر: إن الله ذو علوّ على كل شيء، فلا تبغوا، أيها الناس، على أزواجكم -إذا أطعنكم فيما ألزمهن الله لكم من حق- سبيلًا لعلوِّ أيديكم على أيديهن، فإنّ الله أعلى منكم ومن كل شيء عليكم، منكم عليهن، وأكبر منكم ومن كل شيء، وأنتم في يده وقبضته، فاتقوا الله أن تظلموهن وتبغوا عليهن سبيلًا، وهن لكم مطيعات، فينتصر لهن منكم ربُّكم الذي هو أعلى منكم ومن كل شيء، وأكبر منكم ومن كل شيء (25).
طاعة الزوج تكون بالمعروف فقط، فيَحرم على الزوج مطالبة زوجته بشيء غير مباحٍ، ولا يجوز طاعته بأمور يطلبها وهي بالأصل محرَّمة؛ كأن يطلب منها الإفطار في شهر رمضان، أو الجِماع قبل أن تطهر من الحيض أو النّفاس، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما قال رسول الله: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (26).
وقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قصة المرأة الأنصارية التي أراد زوج ابنتها وصل شعرها، وقد نهاها النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فعن عن عائشة، أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها، فتمعط شعر رأسها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقالت: إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها، فقال: «لا، إنه قد لعن الموصلات» (27).
مصطلح (طاعة الزوج) ليس من وضع الناس، وإنما هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم نصًا، وخاطب به المرأة على وجه الخصوص، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت» (28)، فقرن النبي صلى الله عليه وسلم بين طاعة الزوج بثلاثة أمور عظيمة في الإسلام؛ الصلاة، والصيام، والعفة، مما يدل على عظمة موضوع (طاعة الزوج) في الشريعة الإسلامية.
عن أبي هريرة، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال: «التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره» (29).
مواقف النساء من هذه الأحاديث:
الموقف الأول: موقف المرأة التي تسلم التسليم المطلق لكلام رسول الله، وتمتثل له قولا وعملا، وتفهم هذه الأحاديث كما فهما الرعيل الأول من الصحابيات، وما اتفق على معناه عموم علماء المسلمين عبر التاريخ، فهذه المؤمنة التي نرجو لها الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
الموقف الثاني: موقف التي ينتابها الضيق النفسي عند سماع هذه الأحاديث، أو التي تبين عظم مكانة الرجل، فلا تتقبلها، وتعتبر أنها أحاديث في صالح الرجل وضد المرأة، فهذه وجدت حرجًا في نفسها مما قضاه النبي صلى الله عليه وسلم وحدّث به، ولو لم تظهره للناس.
الموقف الثالث: موقف المعارضة لهذه الأحاديث، التي لا تتقبل مصطلح (طاعة الزوج) وترفضه تمامًا، أو التي تريد أن تستبدل هذا العبارة بعبارات أخرى، مثل: (الحوار، والتفاهم مع الزوج) لأنها ترى أن مفهوم (طاعة الزوج) يعني العبودية للزوج، وأنه يتعارض مع التفاهم والحوار.
وهذه تحتاج إلى بيان عدة أمور:
أولها: أن عبارة (طاعة الزوج) ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وكل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق لفظًا، ومعنى، ولا يجوز الاعتراض عليه، قال ابن تيمية رحمه الله: الألفاظ نوعان: لفظ ورد في الكتاب والسنة أو الإجماع، فهذا اللفظ يجب القول بموجبه، سواء فهمنا معناه، أو لم نفهمه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقًا والأمة لا تجتمع على ضلالة (30).
ثانيها: أن طاعة الزوج لا تتعارض مع التفاهم والحوار حتى تستبدل، لأنه حتى بعد الحوار والتفاهم سيحسم الأمر بقرار من الزوج إما موافق لرأي المرأة أو معارض، فإن كانت لا ترضى بالاستجابة للقرار إلا إذا وافق رأيها، فهذا عناد ظاهر، وهي بهذه الحال تكون قد قلبت الموضوع فأصبح الرجل ملزمًا بطاعة المرأة والسير على رأيها، وهذا هو عين ما تنكره المرأة على موضوع (طاعة الزوج).
وترجع أسباب هذه المشكلة عند هذا النوع من النساء إلى عدة أمور منها:
- النموذج التطبيقي الذي ابتليت به في حياتها؛ من زوج، أو أب، أو أخ، ثم حملت سوء تصرفاتهم على الإسلام.
- العادات والتقاليد التي تحتقر المرأة وتنتقص من قيمتها، وربط هذه العادات بالإسلام، أو إضفاء الشرعية عليها بتحريف النصوص الشرعية أو الاستدلال بها في غير محلها.
- صمت بعض العلماء والدعاة والمصلحين في بعض المجتمعات عن المظالم التي تتعرض لها المرأة من قبل أوليائها، مما يحملها على رفض قبول أقوالهم أو نصائحهم ولو كانت حقًا.
- الأفكار الغربية التي تبثها حكومات المسلمين ليلًا ونهارًا، امتثالًا للاتفاقيات الأممية التي تحارب الإسلام في قضايا المرأة والأسرة والطفل.
ولو أن المرأة عُلمت الأحكام الشرعية من مصادرها؛ من كتب العلماء، ومن النماذج التطبيقية لهذه الأحكام؛ من جيل الصحابة والصحابيات، لما وقعت في هذا الإشكال.
ثالثها: إن الله عزو جل أنزل القرآن ليرفع به الاختلاف بين الناس، فقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]، وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]، وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]، وقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
فهل تقبل المرأة المعارضة لمفهوم (طاعة الزوج) أن يكون الحكم والمرجع في معرفة الحق هو كلام الله وكلام رسوله، أم لا؟
فإن قبلت فهي موفقة، وستصل إلى الحق إن عاجلًا أو آجلًا.
وإن رفضت وأبت فنذكرها بقوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 46- 52].
وخلاصة القول: أن طاعة الزوج أمر شرعي، نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الفطرة التي فطرت عليها عموم النساء، ولكن هذه الطاعة مقيدة بالمعروف الذي يرتضيه الله، أما الطاعة في المعصية فهي محرمة، ولا يجوز للزوج أن يتسلط على المرأة بحجة وجوب طاعته، فإن الله له بالمرصاد إن فعل ذلك (31).
-------------
(1) أخرجه مسلم (1436).
(2) التفسير الواضح (3/ 22).
(3) التفسير الموضوعي 2 - جامعة المدينة (ص: 162).
(4) أخرجه البخاري (5195).
(5) شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/ 317).
(6) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 24).
(7) تفسير القرطبي (5/ 170).
(8) أخرجه البخاري (5193).
(9) شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/ 316).
(10) أخرجه البخاري (7257)، ومسلم (1840).
(11) أخرجه البخاري (7144).
(12) أخرجه البخاري (7145).
(13) أخرجه ابن ماجه (2341).
(14) البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق (5/ 77).
(15) حدود طاعة الزوجة لزوجها/ إسلام ويب.
(16) سبق تخريجه.
(17) أخرجه الترمذي (1163).
(18) أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (2172).
(19) أخرجه مسلم (442).
(20) أخرجه البخاري (2661).
(21) أخرجه أحمد (7421).
(22) في ظلال القرآن (2/ 648).
(23) في ظلال القرآن (5/ 2763).
(24) تفسير ابن كثير (2/ 295).
(25) تفسير الطبري (8/ 318).
(26) سبق تخريجه.
(27) أخرجه البخاري (5205).
(28) أخرجه ابن حبان (4163).
(29) أخرجه النسائي (3231).
(30) مجموع الفتاوى (5/ 298).
(31) حدود طاعة الزوج/ رابطة علماء أهل السنة.