logo

التماسك الأسري أبعاد ودلالات


بتاريخ : الأربعاء ، 20 رمضان ، 1441 الموافق 13 مايو 2020
بقلم : تيار الاصلاح
التماسك الأسري أبعاد ودلالات

مفهوم التماسك الأسري:

التماسك هو حالة من الارتباط التي تسود العلاقات الزوجية والأسرية، والتي تشمل جميع جوانبها؛ نظرًا لأهميته الكبيرة في بناء المجتمعات والحضارات الإنسانية، وتشكيل السلوك الإنساني.

والتماســك الأسري هو عملية اجتماعية تؤدي إلى تدعيم البناء الاجتماعي للأسرة وترابط أجزائه؛ من خلال الروابط والعلاقات الاجتماعية، وهي تعتبر من مظاهر التماسك الأسري؛ كالمودة والسكينة والتوافق والتكافل والتآلف والتآزر والإحسان (1).

عناية الشريعة بالأسرة وحمايتها:

ولقد رسم الإسلام الصورة المثلى للأسرة المسلمة، وحدد الأسس الشرعية لبنائها، كما حدد خصائصها وحقوق أفرادها وواجباتهم، ووضع الضوابط ورسم التشريعات التي تنظم العلاقات بين أفرادها، بما يكفل استقرارها ويحقق سعادتها، وبيَّن كل ما من شأنه أن يقوض بنيانها ويهدمه، وما يحصنها من الاضطراب والانهيار.

والحياة الزوجية حياة يصبغها التعاون وتسودها روح المسئولية والتضحية، وبدون ذلك لا يكون الزواج ناجحًا.

ولا تخلو الحياة الأسرية من بعض المشكلات التي قد يتمكن أفراد الأسرة من حلها، في وقت من الأوقات، وقد تتخللها مشكلات أخرى تستدعي تدخل الأهل أو المصلحين، وقد يسود الصراع والشقاق الحياة الأسرية فيعكر صفوها ويعرضها إلى التصدع والانهيار.

وحتى لا يحدث تلاعب في هذا الاستقرار الأسري؛ حث الإسلام على استمرار رابطة الزوجية، وكره قطعها من غير مبرر، وشرع لذلك جملة تشريعات، منها على سبيل المثال:

1- رغب الإسلام في الزواج بذات الدين، وحث الأزواج على حسن الاختيار، وفي الحديث: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» (2).

2- كما حث القرآن على تزويج من لا زوج له؛ لأنه طريق الستر والصلاح، وتكوين الأسرة والاستقرار، قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: ٣٢]، وفي هذه الآية الكريمة أيضًا وعد من الله تعالى لمن أراد الزواج لإعفاف نفسه وزوجه؛ أن الله تعالى سيغنيه من فضله.

3- حث كل واحد من الزوجين على إحسان العلاقة بالآخر، والقيام بواجبه تجاهه؛ مما يقلل فرص الشقاق، ويزرع الحب والمودة في قلب كل واحد منهما تجاه الآخر.

4- حث على صبر كل واحد من الزوجين على ما يلاقيه من الآخر، ما دام ذلك ممكنًا، وما دام سبيلًا لاستمرار هذه العلاقة بشكل مقبول، وأثار في نفوس الأزواج الرغبة في دوام هذه الرابطة، بفتحه نافذة المستقبل الواعد الزاهر، الذي قد يترتب على هذه العلاقة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: ١٩].

5- شرع العدة بعد الطلاق، وهي فترة يحق للزوج فيها مراجعة زوجته بدون عقد جديد، فعسى أن تحن نفسه إلى مراجعة زوجته، وتحركه ذكرى الأيام الخوالي والذكريات السعيدة وما إلى ذلك، كما أنه قد يكتشف أسبابًا للبقاء مع زوجته تفوق تلك التي من أجلها قطع هذا العلاقة.

6- كما شرع التحكيم؛ وهو أن تتدخل أسرتا الزوجين إذا توترت العلاقة بينهما، فيبعثون حكمًا من أهله، وحكمًا من أهلها؛ لدراسة أسباب الشقاق، والبحث عن سبل لتجاوزها، لإعادة سفينة الأسرة إلى بر الأمان، {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 3٥].

7- فإذا ما استمر الخلاف بين الزوجين، واستعصى الوفاق على الحكمين، عمد الإسلام إلى التفريق بين الزوجين، على أسس تضمن لكلٍّ حقوقه قِبَل الآخر، وتضمن للأولاد أنسب مستوى من العيش الطيِّب، بعد ما استحال عيشهم في كنف الأسرة وتحت رعاية الوالدين معًا، فبيَّن أسس الحضانة، وأسس النفقة والولاية، وغير ذلك من الأحكام، قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: ١٣٠]، وقال جل شأنه: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: ٦].

وقال جل شأنه: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: ٢٠].

8- ومن الأحكام التي شرعها الله تعالى في الإسلام لضمان حقوق كل من الزوج والزوجة؛ قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: ٢٢٨].

فكما أن على المرأة واجبات تجاه الرجل وهي الطاعة في المعروف؛ فكذلك على الرجل رعاية زوجته، وحمايتها، وحفظها، والقيام بشئونها، وفي الحديث: «واستوصوا بالنساء خيرًا» (3).

9- جعل للرجل الحق في الطلاق مرتين، فإن طلق الثالثة؛ سدَّ أمامه هذا الطريق، وحرمت عليه المرأة حتى تتزوج غيره: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: ٢٢٩].

10- أنزل الله تعالى سورة كاملة في القرآن الكريم، ضمنها كثيرًا من أحكام الزواج، وحقوق الزوجين؛ وهي سورة النساء، بل إن الله تعالى سمى عقد النكاح بالميثاق الغليظ نظرًا لأهميته، وعظم شأنه، وما يترتب عليه، قال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: ٢١].

11- أقام الإسلام الزواج بين الزوجين على أساس الرغبة التامة، والرضا الكامل من كل منهما للآخر، وذلك على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية، من إغفال لرضاهما، وإهدار لرغباتهما، وعلى خلاف ما هو الأمر عليه في بعض مجتمعاتنا الحاضرة، من إجبار الشاب على الزواج ممن لا يرغب فيها، وإجبار الشابَّة على الزواج ممن لا تطمع في مثله، مما تهدَر معه إنسانية الإنسان وكرامته وحريته، وتضيع في ثناياه سعادته، وتتولد منه المشكلات الأسرية، والرزايا التي تهدم الأسر، وتشرد الأولاد وتمزِّق أواصر المجتمع، وتقلب الأمة الواحدة إلى أمم متفرقة متناحرة، وهو ما يأباه الإسلام ويُنَفِّر منه، قال سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: ٩٢].

12- أقام الإسلام الحياة الزوجية على أسس من المودة والألفة بين الزوجين، والتكريم المتبادل بينهما، والتعاون على رعاية الأسرة، فلا تَجَبُّر من الزوج على زوجته وأولاده، ولا تمرد من الزوجة على زوجها، ولكن محبة وتعاون، وما أجمل التعبير القرآني الذي قرر هذا المعنى السامي.

وهو قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: ٢١].

13- اهتم الإسلام برعاية الأولاد، والإنفاق عليهم، وحسن تربيتهم، والاهتمام بعقيدتهم وثقافتهم وحبهم لله تعالى، وتنفيذهم لأحكامه سبحانه، فأوجب النفقة على الأب، والحضانة على الأم، وأوجب تعليمهم القرآن الكريم، وأَمْرَهم بالصلاة والصوم وجميع العبادات الإسلامية، قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» (4)، وقال: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته» قال: -وحسبت أن قد قال- «والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته» (5).

 وقال جلَّ من قائل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: ٧].

14- نظَّم الإسلام أمور الأسرة المالية، فبيَّن من تجب عليه النفقة، ومن تجب له النفقة، وبيَّن حدودها وطريقة استيفائها، وأنها واجب من الواجبات الدينية والقضائية، وليست صدقة فيها مِنَّة، وأنها واجبة للزوجة والوالدين، وإن كانوا مخالفين للولد في الدين، وتجب للأولاد، ما داموا صغارًا فقراء محتاجين للنفقة، وتجب لجميع الإخوة، والأخوات، والأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات، ومن وراءهم، ما داموا فقراء عاجزين عن الكسب، وذلك بتنظيم دقيق عادل، وهكذا تستغني الأسرة بأفرادها عن الحاجة إلى من سواهم أو وراءهم، مما يوفر لها الكرامة، ودوام الاستمرار في العيش الرغيد.

وبذلك يكون التشريع الإسلامي قد رافق الأسرة في مسيرتها، ورعاها منذ لحظة التفكير في إنشائها إلى لحظة إنهائها، مرورًا بأحوالها وشئونها مدة قيامها، مراعيًا في ذلك كله قواعد العدالة، والأخلاق، والمثل الاجتماعية، وآخذًا بعين الاعتبار العواطف الإنسانية، والطاقة البشرية، والنزوات الجسدية، والخلجات النفسية، مقدرًا لكل منها قدرها، في إطار من الموضوعية الشاملة، بما يؤمِّن للأسرة أقوى رباط، وأسمى إطار، يلفُّها، ويقوِّيها، ويشدُّ من أزرها، حتى تقوم بواجبها الاجتماعي والإنساني، في الإنجاب والتربية واستمرار الجنس، في ظل عبادة الله تعالى وشكره على نعمه (6).

دلالات خطيرة للتفكك الأسري:

إن تصدع الأسرة يعتبر في نظر كثير من الباحثين سببًا هامًا في انحراف الأحداث وفي السلوك الإجرامي عامة، وفي عدد من مشاكل سوء التكيف والتوافق والمرض النفسي الذي يتعرض له الأفراد في حياتهم أو في تفاعلهم مع أعضاء المجتمع الآخرين.

إن من يعيش في جو من الحرمان العاطفي وعدم الاستقرار والأمان؛ تحف به المصاعب والعراقيل، وتضطره ظروف الحياة الصعبة إلى الكفاح المبكر في سبيل لقمة العيش، فكم ترى من أطفال يمسحون السيارات في المواقف، وكم نراهم يمارسون المهن الشاقة المتعبة؛ وهذا بدوره يؤدي إلى الإضرار بالأجيال سواءً من الناحية الجسدية أو النفسية أو الاجتماعية، فينشئون فاقدي الشعور بالواقع لما واجهوا فيه من المرارة والحرمان.

ومن أبرز الآثار الناجمة عن التفكك الأسري على الأولاد فقدان الوظيفة التربوية، فإذا حدث في الأسرة تصدع يا ترى من الذي يقوم بواجب التربية لهؤلاء الأولاد؟

فالأب قد تزوج امرأة أخرى فأخذت كل وقته، والأم تزوجت وعاشت مع زوجها، وبالتالي فقد يعيش الأولاد مع أبيهم أو مع أمهم وكلا المكانين يذوق فيهما الأولاد المرارة والعذاب غالبًا، فقد وجد بعض الأولاد عاشوا مع زوجات آبائهم ووجدوا العطف والرعاية والحنان، وكذلك يوجد أولاد عاشوا مع أزواج أمهاتهم ووجدوا التربية الصالحة والاهتمام الجيد، ولكن هذا قليل في المجتمعات.

فالأسرة من أهم وظائفها التربية، فيها يجد الطفل من يصحح له أخطاءه، يجد من يقول له: هذا حلال وهذا حرام، يجد من يقول له: هذا صحيح وهذا خاطئ، لأن سلوك الإنسان سلوك مكتسب من البيئة المحيطة به.

وقد تورث الأسر المتفككة أجيالها الإصابة بالعقد النفسية والمشاكل العصبية، وتستمر هذه المشكلة والعقد حتى وإن وصلوا إلى سن الشباب وسن تكوين الأسرة، وهذا هو الذي لاحظته في المجتمع.

وتؤكد وجهات النظر العلمية والطبية أن أبناء المطلقين والمطلقات يعانون من مشاكل نفسية وجسمية أكثر من الأبناء الذين يواصلون عيشهم تحت سقف بيت واحد مع والديهم.

وبعد، فإن الأسرة المسلمة تعد أساس البناء الحضاري الشامل للأمة المسلمة؛ لذا حرص الإسلام على توفير كافة أسباب المتانة والقوة بما يضمن للبناء تماسكه واستقراره، وبما يسهم في الإعداد الأمثل للنهوض الحضاري للإنسانية جمعاء.

غير أنه من المؤسف حقًا أن الأسرة المسلمة في عصرنا الحالي بدأت تتمثل قيم الحضارة الغربية، وأخذت تعيشها دون وعي، لذلك نجدها تحصد تعقيدات الحياة المعاصرة التي جلبتها الحضارة المادية السائدة في الغرب.

لقد حصدت الأسرة المسلمة ضعفًا وفقرًا وتشتتًا، وتفشت الأزمات الأخلاقية بعد أن كانت الأسرة المسلمة تنفث في كل يوم عبير الإخلاص والتضحية والعطاء.

ويجب أن نعترف بأن ضعف الأسرة المسلمة اليوم جاء نتيجة تمثلها قيم الحضارة الغربية على حساب قيمنا الإسلامية المبنية على التعاون والتراحم والعفاف، فتقطعت العلاقات الأسرية بعد أن كانت كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا (7).

أبعاد التماسك الأسري:

كيفية تحقيق التماسك الأسري بين أفراد الأسرة يتحقق الترابط والتماسك الأسري بين أفراد الأسرة بفعل العديد من العوامل، وفيما يأتي بيان البعض منها:

البعد الديني؛ فالدين من أهم الأساسات التي تقوم عليها الأسرة، ويبدأ ذلك من حسن اختيار كلّ طرفٍ من الزوجين للآخر، كما أنّ الدين يبني الشخصية المتوازنة والمعتدلة، التي تعدّ جزءًا من الأسرة فينعكس ذلك عليها بشكلٍ إيجابيٍ، فالإسلام رغّب بالارتباط بالمرأة صاحبة التقوى والسلوك الحسن؛ لأنّها سببًا في الحياة الزكية والهانئة، كما أنّ الإسلام حثّ المرأة على الارتباط بالرجل صاحب الدين الذي لا يظلم زوجته، أو يمنعها من كرامتها، أو يسبّب الإهانة لها، وإنّما الذي يشعرها بقيمة نفسها وأهميتها، وبذلك تتحقّق الحماية للأسرة، ومن الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى هدمها، شرب الخمر، والزنا، وغير ذلك من الأفعال المحرّمة.

ومن الجدير بالذكر أنّ الإسلام بيّن القواعد الأساسية التي تقوم عليها الأسرة الناجحة، ومن ذلك: المودة والرحمة، والأخلاق الكريمة والحسنة، والمعاشرة بالمعروف، وذلك يتحقّق بالالتزام والقيام بالأوامر الشرعية، والحرص على الالتزام بالتقاليد القومية للمجتمع، ومعرفة الحقوق والواجبات المتعلّقة بالأسرة، كما أنّ أداء العبادات والفرائض بشكلٍ جماعيٍ داخل الأسرة له دور مهمًا في تحقيق السمو الفكري والروحي للأسرة، وحمايتها من أسباب الانحراف.

البعد الاجتماعي: يتمثّل العامل الاجتماعي بتحقيق مجموعةٍ من العوامل التي تؤدي له، وهي: أنّ على كلّ فرد من أفراد الأسرة حقوقه وواجباته، وبذلك يكون كلّ فردٍ بما عليه من المهام والوظائف المتعلقة بالأسرة، دون ضغطٍ أو حمل بعض الأفراد أعباءً ليست من شأنهم، وبذلك تزيد الأسرة من تماسكها وترابطها، ومن العوامل الاجتماعية المؤثرة على ذلك شعور كلا الزوجين بأهمية ومكانة العلاقة بينهما، وما لها من دورٍ بالغٍ في استقرار الأسرة، مما يؤدي إلى إنشاء علاقاتٍ جديدةٍ لكلا الطرفين.

ومن الأبعاد الاجتماعية أيضًا فهم التفضيل الإلهي، وتطبيقه تطبيقًا صحيحًا، وتكليف الرجل بمهمة رعاية المرأة، والحرص عليها، وحمايتها، والإنفاق عليها، ومعاملتها بإحسانٍ، والاشتراك معها في اتخاذ القرارات التي تتعلّق بالمنزل، وبذلك تتحقق الشورى التي يقوم عليها مبدأ القوامة، كما أنّ الاختلاف بين الزوجين القائم على تقبّل الآخر، مع الحرص على تحقيق التوافق له أثرًا كبيرًا في الاستقرار الأسري، حيث أكّد معظم الباحثين أنّ الخلافات بين الزوجين تظهر في السنوات الأولى من الزواج، وتخصّ منها السنة الأولى، وذلك يعتمد على تحديد معايير وأسس الاختيار عند كلا الطرفين تحديدًا جيدًا، فالاختيار الناجح يؤدي إلى الرضا والقبول بين الطرفين (8).

البعد الاقتصادي: يتحقّق الاستقرار الاقتصادي للأسرة بتحقيق دخلٍ اقتصاديٍ يلبّي حاجات الأسرة الأساسية، من الطعام، والشراب، والمسكن، والملبس، وإن كانت الأسرة عاجزةً ماديًا عن توفير حاجتها فذلك يؤدي إلى الشعور بالحرمان، ممّا يؤدي إلى اضطراب العلاقات الأسرية، وزيادة المشاكل والصراعات بينها، ويمكن الحدّ من ذلك بتكاتف جهود أفراد المجتمع للحدّ من مشاكل الفقر والبطالة، وتوفير الحاجات الأساسية من الطعام، والمسكن، والخدمات التعليمية والصحية، والواجب على كلّ أسرةٍ أن تلبيّ الحاجات الأساسية لها، ثمّ النظر في الكماليات من الأمور، وذلك بتقديم الأولويات على غيرها.

البعد النفسي: يبيّن علم النفس أنّ أساس نجاح العلاقة الزوجية بين الطرفين يعتمد على التوافق بينهما المرتبط بالنضج الانفعالي لهما، ويعّرف النضج الانفعالي بأنّه المؤشر الذي يبيّن مستوى قدرة الفرد على إدراك نفسه وغيره بموضوعيةٍ، ممّا يؤدي إلى قدرته على تمييز الحقيقة من الخداع، وبذلك فإنّ التعامل يكون بناءً على الحقائق التي يدركها (9).

البعد الثقافي: تؤثر ثقافة الزوجين في شكل العلاقة بينهما حيث ينمو مؤشر الإحساس بالمسئولية طرديًا مع ارتفاع مستوى الثقافة التي يملكها الأبوان، لأن الثقافة تشعر صاحبها بالامتلاء وتعلمه كيف يزن الأمور بميزانها الصحيح، كما يتعود على ضبط انفعالاته والتعبير عن رأيه دون جرح الطرف الأخر أو الحجر على رأيه، وتتشكل هذه الثقافة من عدة مصادر: الأسرة، التعليم، الإعلام، … كما ترى مريم النعيمي أن المرأة غير المتعلمة، أو التي تنقصها الثقافة الجادة تتحول إلى بركان موقوت إن لم يتوفر لها حظ من الإيمان، أو نصيب من التربية المنضبطة في بيت أبويها.

البعد الصحي: لا تعتبر الأسرة الأداة البيولوجية التي تحقق إنجاب النسل وتضمن استمرار حياة المجتمع والوسيلة التي تنتقل من خلالها الخصائص الوراثية من جيل لآخر، ولا شك من أن سلامة الأبوين الصحية تؤدي إلى تحقيق نسل سليم، هذا من جهة.

من جهة أخرى؛ فإن المرض المفاجئ الذي يتعرض له أحد أفراد الأسرة يؤثر على العلاقات بين أفرادها، فمثلًا إذا مرض الأب وأقعد الفراش فحتمًا سيتأثر الدخل المادي للمنزل، وكذا يتعكر مزاج هذا المريض ويشعر بالإحباط والاكتئاب والقلق؛ مما ينعكس سلبًا على سلوكياته مع أفراد عائلته، ويسبب توتر في العلاقات الأسرية، ونفس الشيء إذا مرضت الأم؛ بحيث يحدث خلل في توزيع الأدوار وأداء الوظائف.

الاتصال الفعـال: إن أحد مفاتيح العلاقات الإنسانية تكمن في المرونة والاتصال الفعال، وتعرف الاتصال على أنه: قيام الأفراد بإرسال معلومات وإعطاء معان لها والاستجابة لها على المستوى الداخلي والخارجي، وبمجرد أن تصبح المعاني غير متطابقة وغير أكيدة ومشوهة، فإن الاتصال يتعرض لخلل وظيفي، ويبقى كذلك ما لم يكن للأفراد المعنيين مناسبات كافية لإيضاحها، من جهة أخرى يتحقق الوظيفي أو يبقى عندما يكون هناك تناسب بين النية ونتيجة الاتصال (10).

***

________________

(1) التماسك الأسري تعريفه وعوامل تحققه (ص: 2).

(2) أخرجه مسلم (1400).

(3) أخرجه البخاري (5185)، ومسلم (1468).

(4) أخرجه البخاري (1385).

(5) أخرجه البخاري (893).

(6) التماسك الأسري في ظل العولمة/ موقع المسلم.

(7) من أسباب التفكك الأسري/ إسلام ويب.

(8) الدين والبناء الاجتماعي (ص: 108).

(9) كيف يمكن تحقيق التماسك الأسري بين أفراد الأسرة الواحدة/ موضوع.

(10) التماسك الأسري تعريفه وعوامل تحققه (ص: 18) بتصرف.