logo

إشاعة روح الرضا والقناعة داخل الأسرة


بتاريخ : الاثنين ، 16 ربيع الأول ، 1447 الموافق 08 سبتمبر 2025
بقلم : تيار الإصلاح
إشاعة روح الرضا والقناعة داخل الأسرة

قال الله عز وجل: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].

ومعنى هذا أن النفس إذا لم تحصل على ما يرضيها، تعلقت بما عند غيرها وتشوقت إليه، فتمتد إليه العين، ويطمح إليه البصر، وإذا حصلت على ما يرضيها زالت عن ذلك التعلق وانكفت عن التشوف؛ فسكنت العين فلم تمتد إلى غير ما عندها، ولم يطمح البصر إليه؛ ولهذا كما كان قرور العين كناية عن رضى النفس وسكونها كان امتداد العين كناية عن اضطراب النفس وتشوفها وتعلقها (1).

وما هي دعوة للزهد في طيبات الحياة، ولكنها دعوة إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية وبالصلة بالله والرضى به، فلا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء، ولا تفقد اعتزازها بالقيم العليا، وتبقى دائمًا تحس حرية الاستعلاء على الزخارف الباطلة التي تبهر الأنظار (2).

وفي الصحيح: أن عمر بن الخطاب لما دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه، حين آلى منهم فرآه متوسدًا مضطجعًا على رمال حصير وليس في البيت إلا صبرة من قرظ، وأهب معلقة، قال عمر: ثم رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئًا يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسع عليهم، وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، وكان متكئًا فقال: «أوفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» (3).

قال القاضي عياض: هذا مما يحتج به من يفضل الفقر على الغنى لما في مفهومه أن بمقدار ما يتعجل من طيبات الدنيا يفوته من الآخرة مما كان مدخرًا له لو لم يتعجله، قال: وقد يتأوله الآخرون بأن المراد أن حظ الكفار هو ما نالوه من نعيم الدنيا ولا حظ لهم في الآخرة، والله أعلم (4).

وعن أبي سعيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا»، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال: «بركات الأرض» (5).

والمسلم مأمور بأن ينظر إلى من هو دونه حتى لا يزدري نعمة الله عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله- قال أبو معاوية- عليكم» (6).

قال ابن بطال: هذا الحديث جامع لمعاني الخير؛ لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهدًا فيها؛ إلا وجد من هو فوقه، فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله، فيكون أبدًا في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالًا منه، فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك من غير أمر أوجبه؛ فيلزم نفسه الشكر، فيعظم اغتباطه بذلك في معاده.

وقال غيره: في هذا الحديث دواء الداء؛ لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه حسدًا، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون ذلك داعيًا إلى الشكر (7).

وعدم الرضا بما قسمه الله من الزرق فيه إساءة للأدب مع الله عز وجل وهو الخالق الرازق المنعم، وفيه اعتراض على حكمه وقضائه، وفيه من القلق والاضطراب النفسي الشيء الكثير.

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلًا ولم أسد فقرك» (8).

عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له» (9).

وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام أمر سيدنا إسماعيل بطلاق زوجته التي اشتكت حالهم، وقالت إنهم في جهد ومشقة، وأمره بإمساك زوجته التي حمدت الله، وقالت إنهم في خير وسعة، فقد ورد في الحديث: «فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحد؟

قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلقها، وتزوج منهم أخرى.

فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت اللحم، قال فما شرابكم؟ قالت الماء.

قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه»، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه.

فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء، قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك» (10).

ولنأخذ هذا الحديث من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن»؟ فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعد خمسًا، وقال: «اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب» (11).

التصوير الأدبي في بلاغة التوازن بين الشرط والجزاء على سبيل اللزوم والجزم، كما تستلزم المقدمةُ النتيجة على سبيل الإلزام والتحقيق، وخاصة إذا صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} [النجم: 3- 5]، وذلك في استخدام أسلوب الشرط والجزاء في الصور الأدبية الخمسة البليغة، التي وردت في الحديث الشريف على سبيل الجزم والتحقيق، وأعانت على ذلك روافد بلاغية أخرى وهي ورود فعل الشرط بصيغة الأمر مثل: اتق وارض.. إلخ ومعناها أيضًا الجزم والتحقيق، ودلالة جواب الشرط على الأمر وإن جاء على صيغة الفعل المضارع، مثل: «تكن أعبد الناس، وتكن أغنى الناس» وهكذا، وكذلك انتقاء أفعال غزيرة القيم السامية، لا يقوى عليها غيرها مما يقوم مقامها، مثل كلمة «اتق» فهي تتضمن قيمًا سامية شريفة كثيرة، لا تدخل تحت الحصر ولا تغني عنها في ذلك كلمة: ابتعد أو تجنب، وكذلك اختيار كلمة «وارْضَ» فالرضا هو الغاية السامية من التقوى (12).

ومن المواقف التي يجب أن نأخذ منها الأسوة والعبرة والتي تظهر لنا وبجلاء كيف نسلم ونرضى بقضاء الله عز وجل موقف الصحابية الجليلة أم سليم التي مات ولدها وكان زوجها غائبًا، فلما عاد لم تفاجئه وتفجعه بخبر موت ابنهما، ولكنها مهدت لهذا الخبر أحسن تمهيد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان ابن لأبي طلحة يشتكي، فخرج أبو طلحة، فقبض الصبي، فلما رجع أبو طلحة، قال: ما فعل ابني، قالت أم سليم: هو أسكن ما كان، فقربت إليه العشاء فتعشى، ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: واروا الصبي، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: «أعرستم الليلة؟» قال: نعم، قال: «اللهم بارك لهما» فولدت غلامًا، قال لي أبو طلحة: احفظه حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وأرسلت معه بتمرات، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أمعه شيء؟» قالوا: نعم، تمرات، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها، ثم أخذ من فيه، فجعلها في في الصبي وحنكه به، وسماه عبد الله (13).

قال عباية: فلقد رأيت لذلك الغلام سبع بنين كلهم قد ختم القرآن.

وكان الحامل لأم سليم على ذلك المبالغة في الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء إخلافه عليها ما فات منها، إذ لو أعلمت أبا طلحة بالأمر في أول الحال تنكد عليه وقته ولم تبلغ الغرض الذي أرادته، فلما علم الله صدق نيتها بلغها مناها وأصلح لها ذريتها، وفيه إجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من ترك شيئًا عوضه الله خيرًا منه، وبيان حال أم سليم من التجلد وجودة الرأي وقوة العزم (14).

وما أحوج أفراد الأسرة اليوم إلى القناعة والرضا بما قسمه الله عز وجل لهم من الرزق والتسليم بقضائه، ففي ذلك كله خير كثير، وسعادة في الدنيا والآخرة.

فما أحوجنا إلى أن نربي أبناءنا على القناعة، وما أحوجنا إلى الرضا بما قسمه الله، في زمن تكالب فيه كثير من الناس على الدنيا، وانغمسوا في شهواتها، في زمن كثر فيه التذمر والتشكي، وضعُف فيه الرضا بما قسَم وقدّر رب العالمين؛ فالرضا والقناعة، لفظان متقاربان في المعنى، فما هي القناعة؟ 

قال الإمام السيوطي: القناعة هي الرضا بما دون الكفاية، وترك التشوف إلى المفقود، والاستغناء بالموجود (15).

ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على القناعة، وبين أنها الطريق إلى السعادة والفلاح، فعن عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه» (16).

جعله قانعًا بما أعطاه إياه ولم يطلب الزياد لمعرفته أن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له (17).

كيف نكتسب خلق القناعة والرضا؟

1- نكتسب هذا الخلق بالإيمان واليقين الجازم: أن الله هو الرزاق، وأنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم» (18).

 قال الطيبي رحمه الله: والاستبطاء يعني الإبطاء والسير للمبالغة، وفيه أن الرزق مقدر مقسوم لا بد من وصوله إلى العبد؛ لكنه إذا سعى وطلب على وجه مشروع وصف بأنه حلال، وإذا طلب بوجه غير مشروع فهو حرام (19).

2- إذا أردنا أن يرزقنا الله القناعة، أن ننظر إلى من هو أقل منا مالًا وجاهًا وحسبًا، فقد علمنا ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» (20).

3- حكمة الله في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد؛ حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والمصالح، ويخدم بعضهم بعضًا، قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]، فلا يجوز الاعتراض على قسمة الله، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون أين تكون المصلحة وقد قال سبحانه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

4- القناعة بما عندك وعدم السؤال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلًا، فيسأله أعطاه أو منعه» (21).

قال القرطبي: ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله ندًا (22).

فالإسلام دين لا يعرف البطالة ولا الكسل بل هو دين العمل والجد، والكسب والغنى، ولكن عن طريق الحلال لا عن طريق الحرام.

ولقد يفهم الناس خطأ أن الإسلام يدعو إلى الفقر والزهد والمكث في المساجد وعدم العمل، وهذا فهم خطأ، وإنما يحث الدين على القناعة والإجمال في الطلب وعدم التكالب على الدنيا فإن ذلك قد يدفع صاحبه إلى التعدي على أخيه وظلمه إرضاء لشهوة المال وجمعه (23).

 5- تدريب النفس على الاقتصاد في المعيشة، والرفق في الإنفاق، إذا تيسر به في الحال ما يكفيه، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

وقال ابن عباس: كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة (24).

والإسراف: تجاوز الحد في كل شيء، والله تعالى يحب إحلال ما أحل، وتحريم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به، فلا يصح تجاوز الحد الطبيعي كالجوع والعطش والشّبع والرّي، ولا المادي بأن تكون النفقة بنسبة معينة من الدّخل لا تستأصله كله، ولا الشرعي فلا يجوز تناول ما حرم الله من الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله، والخمر، إلا للضرورة، ولا يحل الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، ولا لبس الحرير الطبيعي أو تشبه الرجال بالنساء أو بالعكس (25).

فوائد القناعة والرضا:

وتربية الأولاد على الرضا والقناعة أمر مهم جدًا، إذا أردنا أن ينشأ أولادنا على طاعة الله ورسوله وعلى الاستقامة والأخلاق الحسنة، لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وسبب عظيم من أسباب الانحراف عن الفطرة، ولا شك أن تنشئة طفلٍ قنوع راضٍ عما بين يديه، وما هو مُتاح، رغم كل التأثيرات الخارجية هو تحدٍّ بالغٌ للأسرة، وليس مهمة سهلة، فلا بُدَّ أن يتعلم الأبناء.

سبب لنيل محبة الله.

- علامة على كمال الإيمان.

- تبعد الإنسان عن الذنوب والمعاصي التي تحبط الحسنات.

- تجعل الإنسان يعيش حياة هنيئة طيبة.

- تشيع المودة وتنشر المحبة بين الناس.

- تكسب الإنسان قوة الإيمان والثقة به والرضا بما قسم.

- سبيل لراحة النفس والبعد عن الهموم.

- تعفف عما في أيدي الناس (26).

 وغرس قيمة الرضا في نفس الطفل لا يأتي بمجرد أن تقول لطفلك: كن قنوعًا، كن راضيًا، لتجده مباشرة: قنوعًا.. وراضيًا؛ هذا لا يحدث، فإن التربية على ذلك عملية متكاملة، تتداخل فيها مكونات ثلاثة: (المكون المعرفي- المكون الوجداني- المكون السلوكي)، وذلك بذكر قصص وأحاديث عن الرضا مثل: «وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس» (27)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» (28)، فهذا مكون معرفي ضروري حتى يقتنع بعد ذلك، ويتأثر بالقناعة والرضا، فيحبهما، وذلك مكون وجداني؛ ثم التدريب على ذلك، وإظهار نماذج القدوات على ذلك الخلق؛ وهذا ركن المكون السلوكي، ثم تعاهد الطفل بذلك في مواقف مختلفة.

مخاطر عدم الرضا والقناعة لدى الأبناء:

1- أسلحة مُحرجة: وذلك لغياب فكرة الحوار من قِبل الطفل حينما يطلب ما يريد، فهو يلجأ للصراخ والبكاء والعناد غير المبرر.

 2- غياب مُفَضَّلاته: فسعي الطفل إلى الحصول على الشيء، فقط لأنه رآه في يد الآخرين: هو إشارة إلى غياب ما يُحب.

 3- إتلاف ما بيد الآخر: يميل الطفل غير القنوع إلى إتلاف ما بيد الآخرين حتى لو كان الأم أو الأب، وعند النقاش أو الحوار لا يُبدي أي إجابة سوى العناد السلبي.

وعلاج ذلك بالوسائل الآتية:

 الأول: أن يتعلم الطفل كيف يدخر المال ويُوفره، وإخباره بأنه سيتم شراء ما يرغب به من أمور غير أساسية من مدخراته الشخصية، مثل: الألعاب والحلويات وغيرها.

 الثاني: توضيح أن احتياجات الأم أو الأب الخاصة، تكون من مدخراتهم الشخصية، وليس من ضمن الميزانية المخصصة لمصروفات البيت.

 الثالث: مناقشة طلب الابن معه بتوجيه بعض الأسئلة، مثل: ما الحاجة إليه؟ كم يبلغ ثمنه؟ وما الفائدة منه؟ وهل هناك بدائل أقل تكلفة؟

 الرابع: تقديم خيارات للطفل تُلبي المطلب نفسه، واحترام خياره، حتى ولو كان عكس رغبتنا.

طرق الحماية من الإغراق الاستهلاكي:

أبناء العصر الذي نعيش فيه الآن متطلعون دومًا للشراء، والاستكثار من البضائع المختلفة وتنويعها، فالإعلانات بمختلف طرقها ووسائلها تحيط بالأطفال، تخرج لهم عبر التلفاز، وفي الشارع، وفي المجلات، وعلى الإنترنت، ويعتمد أكثرها على رسم صورة محببة بعد اقتناء السلعة.

فمهما كان لدى الطفل من ألعاب، فإنه إذا ذهب إلى المركز التجاري سيريد المزيد، ومهما كان لدى الفتيات من ملابس وحليٍّ، فإن مشاهدتهن للمزيد والجديد، ستوجد الرغبة في اقتناء هذا الجديد.

ولا شك أن الحماية من هذا الإغراق الاستهلاكي ليست بالأمر السهل، ولكن بعض العادات الحياتية للأسرة قد تقلل من أثرها، مثل تفهيم الأبناء الآتي:

 1- عدم اعتبار التسوق فسحة: فمن الأمور الشائعة في حياتنا المعاصرة، والتي تضعف أركان القناعة لدى الكبار والصغار، فضلًا عن أضرارها النفسية والاجتماعية الأخرى، هي اعتبار التسوق فسحةً وترفيهًا، فيصبح الشراء متعة للنفس، وليس ضرورة، وهو ما قد يتطور فيما بعد لإدمان الشراء.

 2- عدم مشاهدة الإعلانات قدر المستطاع: حيث تحتل الإعلانات مساحة كبيرة من المحتوى الإعلامي والفني، سواء في القنوات المتلفزة أو الإلكترونية، وتعويد الطفل منذ الصغر على عدم مشاهدتها وتحويلها فورًا، يقلل من أهميتها عنده، وليكن هذا الأمر دون ضغط وكأننا نخاف منها، ولكن بصرف الاهتمام عنها، وعدم إضاعة الوقت في مشاهدتها.

3- التوعية: كلمات المربي ورأيه حول أساليب الدعاية والإعلان، والطرق المختلفة للإغراق الاستهلاكي تؤسس لطفل واعٍ، لديه مرشحات استقبال، كلمة بسيطة من المربي تصف الدعاية بأنها وهمية، أو مبالغ فيها، أو أنها في الغالب مجرد تلاعب بعقول المشاهد واستنزاف لأموالهم ستجعل الطفل يفكر.

المنهج النبوي لتنشئة الأبناء على القناعة والرضا:

أولًا: كن قدوة: يجب أن يكون الأب والأم هم القدوة الأولى، والأساس لتربية طفلهم على القناعة والرضا؛ فيجب أن يكونوا دائمًا في رضا وقناعة بكل شيء في حياتهم، ويري أبناؤهم هذا فيهم.

قد يبدو هذا الجمع بين القناعة والرضا نظريًا، ولكنه في الحقيقة قابل للاجتهاد والتطبيق، كما كان أسوتنا صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز» (29).

فعندما يرى الصغار، من هم تحت رعايتهم دؤوبين في العمل، مستبشرين دومًا بفضل الله، واثقين في رزقه وعطائه، فإن هذه المعاني العظيمة تنغرس في وجدانهم.

 وأعظم نموذج في القناعة والرضا؛ هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فهو القدوة والأسوة في كل خلق جميل؛ فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قنوعًا زاهدًا راضيًا صابرًا محتسبًا، كان أبعدَ الناس عن ملذات الدنيا، وأشدهم رغبة في الآخرة، وقد خيره ربه جلَّ وعلا بين الدنيا، وأن يعيش فيها ما شاء، وبين الآخرة، فاختار الآخرة وما عند الله. وخيَّره أن يكون ملكًا نبيًّا أو عبدًا نبيًّا، فاختار أن يكون عبدًا نبيًّا (30)، وكيف لا يكون كذلك ورب العالمين سبحانه يخاطبه بقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].

ثانيًا: ضرب الأمثال:

فهي تبرز المعقول في صورة المحسوس الذي يلمسه الناس، فيتقبله العقل، لأن المعاني المعقولة لا تستقر في الذهن، إلا إذا صِيغَت في صورة حية، قريبة الفهم، وتكشف الأمثال عن الحقائق، وتعرض الغائب في معرض الحاضر، وتجمع الأمثال المعنى الرائع في عبارة موجزة، والأمثال كثيرة في القرآن، وهي تلعب دورًا هامًا وبالغًا، في التأثير في العواطف، وفي التأثير في السلوك الإنساني (31).

 كما تُضرب الأمثال لتربية الإنسان تربية روحية وخلقية، ولقد سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان عليه، واتبعوا آثاره، وتخلَّقوا بأخلاقه، وعاشوا التقشُّف والزهد في أول أمرهم نظرًا لقلة ذات اليد، ثم انتشر الإسلام وجاءتهم الغنائم وفتح الله عليهم، فلم تؤثر هذه الأموال التي اكتسبوها من الغنائم على زهدهم، بل استمروا على ما هم فيه من قناعة وتقشُّف.

وهنا نموذج من قناعة الصحابة وبعدهم عن الطمع منها: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده، كراهية أن ترى عورته (32).

***

---------------

(1) تفسير ابن باديس (ص: 237).

(2) في ظلال القرآن (4/ 2357).

(3) أخرجه البخاري (2468).

(4) شرح النووي على مسلم (10/ 92- 93).

(5) أخرجه مسلم (1052).

(6) أخرجه مسلم (2963).

(7) فتح الباري لابن حجر (11/ 323).

(8) أخرجه الترمذي (2466).

(9) أخرجه الترمذي (2465).

(10) أخرجه البخاري (3364).

(11) أخرجه الترمذي (2305).

(12) التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف (ص: 17).

(13) أخرجه البخاري (5470)، ومسلم (2144).

(14) فتح الباري لابن حجر (3/ 171).

(15) معجم مقاليد العلوم (ص: 205).

(16) أخرجه مسلم (1054).

(17) فيض القدير (4/ 508).

(18) أخرجه ابن ماجه (1756).

(19) فيض القدير (2/ 451).

(20) أخرجه مسلم (2963).

(21) أخرجه البخاري (1470).

(22) تفسير القرطبي (1/ 230).

(23) التفسير الواضح (2/ 547).

(24) صحيح البخاري (7/ 141).

(25) التفسير المنير للزحيلي (8/ 184).

(26) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها (2/ 363- 365).) بتصرف.

(27) أخرجه الترمذي (2305).

(28) أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051).

(29) أخرجه مسلم (2664).

(30) شعب الإيمان للبيهقي (8/ 114).

(31) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/ 141).

(32) أخرجه البخاري (442).