المخالفات الأسرية في بيوتنا
ما أكثر المخالفات التي تعجّ بها أكثر بيوت المسلمين وأسرهم، وبخاصة في هذه الأزمنة التي انفتح الناس فيها على عادات الكفار وأنماط حياتهم، وامتلأت البيوت بوسائل الإعلام بشتى صورها المقروءة والمسموعة والمرئيّة، مما كان له أكبر الأثر في فشوّ المنكرات في بيوت المسلمين، وتأثرهم بما يقرءون، أو يسمعون أو يشاهدون.
والمسئول الأول عن هذه المخالفات أولياء أمور الأسر الذين انشغل كثير منهم عن أسرته بالدنيا، وقد يكون وليّ الأمر في البيت محافظًا، ويكره أن يكون في بيته وأسرته ما يسخط الله عز وجل، لكن ضغط الواقع - وخاصة ما يأتي من جانب النساء الموصوفات بضعف العقل والدين - يجعله يستسلم، ويجاري الواقع، ولا يستطيع مقاومة ضغط المرأة أو ضغط أولاده.
وقد حذرَنا الله عز وجل من فتنة الأولاد والنساء، وأن منهم مَن يكون عدوًّا وشؤمًا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14].
وحـذرَنا رسـول الله صلى الله عليه وسلم من فتنة النساء بقوله: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجل من النساء» (1).
من أبرز المخالفات في بيوت المسلمين:
ومن أخطر المخالفات التي تعج بها البيوت والأسر ما يلي:
أولًا: إدخال وسائل الإعلام المفسدة:
كالمجلات الخليعة، وقنوات التلفاز، وأشرطة الغناء، وأشرطة الفيديو السيئة، ومواقع شبكة الإنترنت المسيئة، وبعض برامج الأطفال التي يتخللها صور محرمة.
وفي العصر الراهن أصبحت وسائل الإعلام من مؤسسات التربية التي من غير الممكن ضبطها وتوجيهها؛ ذلك لأن غالبية هذه الوسائل تنقل ثقافات من خارج المجتمع، كما يسعى عدد كبير منها لتحقيق أهداف ومصالح تجارية لأفراد ومؤسسات لا تعير اهتمامًا لمختلف المعايير والقيم الأخلاقية، التي تميز ليس فقط ثقافة المجتمع؛ بل عناصر مشتركة في أديان وثقافات مختلف المجتمعات الإنسانية.
وإذا نظرنا إلى الإعلام المعاصر وجدناه بالإضافة إلى فلسفته العلمانية، فإنه يتعمد -وبخاصة المرئي- إلى دغدغة مشاعر الناس؛ لا سيما المراهقين منهم، بقصص الغرام الملتهبة، بالإضافة إلى كم العري والموديلات الجديدة في الأزياء؛ خاصة أزياء النساء حتى تتوافق مع موجات الإباحية وإظهار المفاتن والعورات، مما يهيج الشباب تهييجًا شديدًا، ثم يعود هذا الشباب فيصطدم بالواقع من صعوبة الزواج وتحصين النفس، ويصاب بالتدمير الداخلي الكامل حتى تنحرف الأمة، وهذا كله يدخل تحت قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
وإن من أسوأ ما يروج عبر وسائل الإعلام حاليًا هو الاهتمام بسفاسف الأمور وشؤون فئات المجتمع من أهل المجاهرة بألوان شتى من الفجور، بل ويقدمون على أنهم قدوات للمجتمع، وعلى أفراد المجتمع أن يتلقفوا طرق معيشة هؤلاء ومغامراتهم وعلاقاتهم على أنها أمثلة تحتذى.
كما أن وسائل الإعلام تعمل على تغير مصادر التلقي لدى الشعوب حيث تصبح البرامج الإعلامية هي المصدر الأول والرئيسي - إن لم يكن المصدر الوحيد - من مصادر نقل وتلقي الثقافة، والثقافة الإعلامية تتميز بالإيجاز والتبسيط الشديد، والاعتماد على نقل الصور الحياتية في القوالب الدرامية، كما أنها ثقافة أحادية الاتجاه لا تسمح للمتلقي بالمناقشة والتحليل والرفض أو الاعتراض أو حتى مجرد الاستفسار عن بعض النقاط الغامضة، كما أنها ثقافة أحادية مصدر المرسل، وكل هذه العوامل وغيرها تؤدي إلى:
1- قلة القراءة وتراجع أهميتها كمصدر أساسي من مصادر نقل وتلقي الثقافة، وتقلص دور الكتاب سواء أن كان علميًا أو فكريًا أو أدبيًا.
2- اكتفاء المجتمع بنوع من الثقافة العامة سطحية وهامشية تقدم بصورة شديدة التبسيط مما يفقد أفراد المجتمع ملكة العمق في التناول لأي موضوع.
3- قتل ملكة الإبداع باضمحلال القدرة على التخيل والتصور والتجريد، وبالتالي الإبداع بتكوين الصور والرؤى الجديدة لدي أفراد المجتمع لاعتمادهم دائمًا على الصورة الحسية في مصادر الثقافة.
4- تسطيح الوعي والفكر والثقافة لدى عموم الناس بقتل ملكة المناقشة وإبداء الآراء وتبادل الأفكار، بعد أن أصبح المشاهدون في خانة واحدة هي خانة المتلقي فقط.
5- إضاعة الأوقات في الفوارغ والتفاهات، وذلك بعد إعادة هيكلة الوقت والبرنامج اليومي للفرد بما يتناسب مع مشاهدة البرامج الإعلامية، مما يقلل فرص القيام بأعمال أخرى كثيرة، وخلق نمط من السلوك اللا حركي لدى الأفراد لا يعتمد على كثرة الحركة وممارسة الرياضة مثلًا، وما إلى ذلك، مع تقليل فرصة الانضمام النشط والفعال إلى مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات العمل العام، مثل النقابات والأندية الاجتماعية، والمنتديات الثقافية، والأندية الرياضية، والأحزاب السياسية، والجمعيات والمؤسسات الخيرية والتطوعية (2).
إن الذين يُدخلون هذه الوسائل، أو يرضون بإدخالها إلى بيوتهم؛ إنهم بذلك يخربون بيوتهم بأيديهم، ويتحملون مسئولية عظيمة وتَبعة خطيرة من جراء ذلك، فليتقوا الله عز وجل ما داموا في زمن المهلة قبل أن يفاجئهم الموت ثم لا تطوى صحيفة سيئاتهم بعد موتهم، بل تبقى مفتوحة يسجل فيها على هذا الميت المسكين وِزر هذه الوسائل ومن تأثر به بعد موته من دون أن ينقص من أوزارهم شيئًا؛ قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
ثم ألا يدري هذا الظالم لنفسه أنه غاشٌّ لأهله وأولاده وظالم لهم، وقد جاء الوعيد الشديد لمن مات وهو غاش لرعيته حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» (3).
وفي رواية: «فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة» (4).
ثانيًا: إهمال تربية الأهل والأولاد:
وهذه المخالفة متعلقة بما قبلها؛ وذلك لما في إدخال وسائل الإعلام المفسدة من الأثر السيء في تربية الأهل والأولاد، وهناك صور أخرى لإهمال تربية أفراد الأسرة منها:
1- عدم تعليمهم دين الله عز وجل:
وعلى رأس ذلك علم التوحيد، ومعرفة ما يضاده، وعلم الأحكام العينية، وأمرهم بالعبادات الواجبة، وحثهم على مكارم الأخلاق، وهذا الإهمال موجود في كثير من بيوت المسلمين حيث يوجد من البنين والبنات والزوجات من قد يجهل حقيقة التوحيد، وما يضاده من الشرك، وقد يجهل صفة الوضوء الصحيح، وصفة الصلاة الصحيحة، وأحكام الصيام وقد يجهل بعض المحرمات.
2- ترك الأولاد بلا رعاية ولا مراقبة:
وترك الحبل على الغارب يمشون مع من شاءوا، ويخالطون من شاءوا، والمرأة تذهب كيف شاءت، وإلى أي مكان شاءت، والبنت تكلم بالهاتف من شاءت، وهكذا حتى تظهر الثمار السيئة لهذا الإهمال، وحينئذ لا ينفع الندم والتحسر.
3- فقد الأولاد والأهل للقدوة الحسنة في البيت:
حيث لا يرون في وليّ أمرهم القدوة في مكارم الأخلاق، والخوف من الله عز وجل، والمسارعة إلى الطاعات في وقتها، والابتعاد عن سيئ الأخلاق، كالكذب والكلام الفاحش، وإخلاف الوعد، والظلم والعدوان، وغير ذلك مما يدفع الرعية إلى الاقتداء بالراعي في هذه الصفات السيئة، فيكون أسوة سيئة لها أثرها الكبير في تربيتهم وحياتهم.
ليس هناك تربية بغير قدوة، كيف يمكن للأب أن يأمر أولاده بعدم شرب السجائر والسيجارة لا تفارق يده، أو بحسن معاملة الجار وهو في شجار دائم معه، أو بحفظ اللسان وهو يتناول كل من حوله بالسباب والشتائم؟!
غياب القدوة أمر خطير، من هم قدوة شباب أمة الإسلام؟! أتراه فنانًا ماجنًا أقرب إلى النساء منه إلى الرجال؟! أتراه لاعبًا أنفق زهرة شبابه في اللعب؟! أتراه مليونيرًا سرق أموال البلاد والعباد؟! أتراه مرتشيًا تسلق على أكتاف الشعب إلى أعلى الدرجات؟! أتراه زعيمًا ماركسيًا أو قائدًا ملحدًا أو أديبًا فاسقًا؟! أتراه شيوعيًا أم يهوديًا أم هندوسيًا أم بغير ملة؟!
أتراه واحدًا من هؤلاء، أم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كم من شباب أمة الإسلام الآن يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة كاملة له؟! كم من الشباب يقتدي بـ الزبير، وطلحة، وسعد، والأرقم، وزيد؟! كم منهم يقتدي بـ أسامة، ومعاذ بن عمرو بن الجموح؟! كم منهم يضع نصب عينيه حياة محمد الفاتح، أو محمد القاسم، أو صلاح الدين، أو عبد الرحمن الناصر رحمهم الله جميعًا؟ يا شباب الأمة أفيقوا! خلف من تسيرون وإلى أي غاية تريدون الوصول؟ القدوة يا شباب أمة الإسلام (5).
القدوة يجب أن تعمل على تحقيق ما تريده من الآخرين في نفسها أولًا، فمن غير المعقول إصلاح الشخص لغيره وهو فاسدٌ متبعٌ لأهوائه غير منضبطٍ، فعليه أن يتابع نفسه على الدوام فيراقبها ويقوّم اعوجاجها، ويعيدها للصراط المستقيم كلما شردت إيمانًا واحتسابًا وقناعة، فبصلاح النيّة وإخلاصها يَصلُح العمل وينجح.
فالآباء قدوة لأبنائهم عندما يقومون بواجباتهم على أكمل وجه، والمعلمين قدوة لتلاميذهم عندما يقومون بتطبيق ما يعلمونه لهم، والسياسيين قدوة لأفراد المجتمع عندما يكونون عادلين وعلى قدر من النزاهة والشفافية.
لذلك فإن القدوة الصالحة والمطبّقة للنهج الصحيح قولًا وفعلًا تعتمد المنطق لا التحدي والتعالي والمكابرة، تكون بمثابة نبراس ينير الطريق للآخرين الذين يسيرون على نفس النهج، ولا سيّما عند الشدائد والمحن، فعندما تثبت القدوة ولا تذل؛ تكون المثل الأعلى وتكبر في النفوس وتعظم، وكم من شخصٍ كان يعدّ قدوةً، لكنّه سقط عند حلول الفتن فخالف قوله واعتقادُه عملَه، فنطق بكلمةٍ أريد بها باطلٍ، أو تصرّف تصرّفًا خالف الصواب، فسقط من أعين الناس وخابت ظنونهم به.
وكم من أب لهث قضى جٌل وقته لاهثًا لجمع المال وترك أسرته في مهب الريح ليسقط بذلك أهم أعمدة القدوة التي ترتقي بالفرد وتحمي الأسرة.
وكم من زوجة وأم تاهت في غياهب الملذات والهفوات واللحاق بالأوهام لتكون امرأة هادمة لأسرة، بدلًا من تكون امرأة عظيمة ترسخ مفهوم القدوة في نشأة الأبناء، وتكون رافعة في داعمة لزوجها ومساهمة في نجاحه، فهو الزوج والأب الذي يواجه تحديات الحياة ليكون بذلك قدوة فتنتزع هيبته وتحطم وقاره بجهلها وغياب وعيها عن أهمية القدوة (6).
4- الانشغال عن الأولاد:
وقد يكون ولي الأمر صالحًا وقدوة طيبة، لكن أهله لا يرونه إلا قليلًا لانشغاله خارج البيت أكثر الوقت، فلا يتسنى له الجلوس معهم ليعلم حالهم ويروا فيه الصفات الطيبة التي يقتدون به فيها، وقد يكون انشغاله خارج البيت في الدعوة والتعليم، لكن تعليم ودعوة الأقربين ووقايتهم من عذاب النار أولى من غيرهم.
إن معنى انشغال الأبوين عن أولادهما وانهماكهما في حياتهما الخاصة، وقطع الصلة بالأولاد معناه أن يبحث الأولاد عن بدائل ومصادر أخرى، يستمدون منها التوجيه، ويسمعون منها كلمات المودة والتقدير والثناء، وفي أكثر الأحيان تكون هذه المصادر منحرفة؛ لكنها تبدو في صورة الصديق الودود أو الصاحب المحبوب، مما يجعل الانخداع بها سهلًا ميسورًا ويكون أثرها مؤثرًا مضمونًا.
5- الحاضنات بدل الأمهات:
ومما يؤسف له أن هناك أمهات لا يعملن، ويتركن المسؤولية كاملة للخادمات يتصرفن في أمور بيوتهن، كما لو كن أصحاب البيوت، ورغم اتساع وقت الأم -الزوجة في ذات الوقت- لرعاية أبنائها وزوجها، إلا أنها قد تهتم بالخروج للتسوق، أو تجتمع مع جاراتها في ساعات الضحى، أو تهاتف صديقة لها ساعات طوال فيما لا يفيد أو ينفع. وقد يأتي الزوج من عمله منهكاً، وفي حاجة إلى سكن النفس، وفي حاجة إلى طعام وراحة ليتابع عمله أو ليسعد زوجته وأبناءه، وقد لا يجد من تخفف عنه متاعبه سوى الخادمة، التي قد تقدم له طعامًا قد لا يستسيغه.
وهناك سلبيات كثيرة تحدث عندما يترك الآباء والأمهات رعاية الصغار بين أيدي الخادمات أو المربيات، نذكر بعضًا منها على سبيل المثال وليس الحصر:
- إن لغة الخادمة أو المربية إذا كانت غير عربية، تؤثر بدرجة عالية في اكتساب الصغير لغته العربية، ومن ثم قد يتأخر الصغير عمن هم في مثل عمره الزمني في تعلم اللغة، ولفظ الحروف الصحيحة، واكتساب المفردات الواجب تعلمها، بل قد يتعلم لغة المربية قبل أن يتعلم اللسان العربي.
- إن المربية – عادة - تضعف العلاقة بين الطفل وأمه، إذ غالبًا ما يكون التعلق - من جانب الطفل- بالمربية وليس بالأم، حيث تقوم بإشباع الحاجات الأساسية للطفل من المأكل والمشرب ونظافة الجسم عند الابتلال، وتشبع حاجاته إلى الراحة واللعب، ومن ثم فهي أم بديلة، وفي هذا ما يبعد الطفل تدريجيًا عن الأم، بل قد لا يسأل عنها عند غيابها، أو وجودها في المنزل، والأعجب أنه قد ينزعج إذا لم يجد المربية أو الخادمة بجانبه، عندما تنشغل عنه عند أداء وظائفها الأساسية في المنزل، وأحيانًا قد يناديها كما لو كانت أمه.
- إن تأثير المربيات والخادمات على العلاقات الزوجية، قد يخلق المشكلات بين الأزواج، ويحدث -وجودهن- مناخ التوتر والقلق الدائب بين الأزواج، وقد يترتب عن المشكلات انفصال بين الأزواج أو هجران أو خصام أو تضحية بالأبناء والحياة الزوجية المستقرة.
- إن وجود المربيات والخادمات يضعف من نماء الاستقلالية في التنشئة الاجتماعية للصغار، بل قد ينمي لديهم الاعتمادية أي الاتكالية، وعدم نمو الاستقلالية لدى الصغار، ويظهر ذلك السلوك عندما تعرض الفتيات الصغيرات أو الفتية الصغار، عن أداء الأعمال البسيطة التي يمكن القيام بها، اعتمادًا على ما تقوم به المربية من الاستجابات الفورية لكل مطالب الصغار.
- ومن المخاطر التي يجب أن لا تغيب عن أذهان الآباء، هو أن بعض المربيات غير المسلمات اللاتي يقمن بالتنشئة والرعاية للصغار، قد تقوم البعض منهن بغرس وتنمية تعاليم دينها مع الصغار -في غفلة من الآباء- ودون أدنى اهتمام بدين الإسلام (7).
ثالثًا: إهمال حقوق الوالدين وصلة الأرحام:
إن بر الوالدين وصلة الأرحام من الواجبات العظيمة التي جاء التأكيد عليها في الكتاب والسنة تأكيدًا عظيمًا، بل إن حقوق الوالدين والإحسان إليهما تأتي دائمًا بعد الأمر بعبادة الله عز وجل، وقد جاء التأكيد على ذلك في القرآن الكريم في أكثر من آية، أكتفي منها بقوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الاسراء: 23].
وفي السنة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أيٌّ؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أيٌّ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» (8).
وقد بلغ الأمر في بعض بلدان المسلمين أن تفكَّكت عُرَى الأسرة فيها، وانشغل الابن عن أمه وأبيه، والأخ عن أخيه وأخته، فضلًا عن عمه وعمته وخاله وخالته؛ فالكل مشغول، وساعد في ذلك توسُّع المدن واللهث وراء الدنيا، وانهماك الناس في الأعمال اليومية، ومن أسباب ذلك تقليد الغرب الكافر في أنماط حياته.
يقول الأستاذ الشبانة: لقد تفككت عرى الأسرة المسلمة في معظم بلاد المسلمين نتيجة للسقوط في حمأة التقليد للغرب الكافر، والانسياق الأعمى وراء كل نِحلة ترد منه أو يسبق إليها، ثم نلحق به في تطبيقها، ولقد سبقت الأسرة الغربية إلى التفكك، بل إلى الانهيار الكامل والانعدام التام، فلم تعد هناك أسرة بالمعنى المفهوم بقدْر ما بقي نوع من الارتباط المعرَّض للانفصام في أية لحظة بين رجل وامرأة لا يلتقيان في مقر إقامتهما إلا ساعة أو بعض ساعة من ليل أو نهار، وقد لا يلتقيان أبدًا أوقاتًا طويلة أو قصيرة، فلكل منهما ما يغنيه عن صاحبه (9).
ويقول في موطن آخر: ومن أعظم قيمنا الإسلامية التواصل الأُسَري الذي بدأ يحل محله التفكك رويدًا رويدًا، ومع التفكك الأسري بدأ تفكك المجتمع وتحلله إلى وحدات صغيرة وأجزاء متناثرة هي المساكن، لقد كان مجتمعنا مترابطًا متقاربًا، فأصبح مجتمع مدننا الكبرى مجتمعًا متباعدًا متفككًا مقطع الأوصال (10).
رابعًا: التوسع الكبير في المباحات والتشبه بالكفار في الأخذ بها والإسراف فيها:
يشهد واقعنا المعاصر توسعًا شديدًا في الأخذ بالمباحات من كثير من الناس، وذلك في مساكنهم ومآكلهم ومراكبهم ولباسهم... إلخ، وصاروا يتفاخرون ويتباهون بذلك، وأصبح بعضهم يقلّد بعضا حتى آل الأمر -وتحت مسايرة الواقع- ببعض الفقراء إلى أن يحمّلوا أنفسهم من الديون الكبيرة لأجل المباهاة ومسايرة الناس...! ولا يخفي ما في ذلك من ظلم النفس وتحميلها مالم تحتمل.
أما الأغنياء الذين في مقدورهم التوسع في الأخذ بالمباحات دون اللجوء إلى الاستدانة؛ فالأصل في ذلك الإباحة إذا كان مصدر المال حلالًا وإنفاقه في حلال؛ ولكن يبقى أن التوسع الكبير في المباحات وإشغال التفكير بها وكيفية توفيرها، وصيانتها والمحافظة عليها... إلخ كل هذا مما يأخذ من الوقت والتفكير حيزًا كبيرًا كان الأفضل توجيهه إلى ما ينفع في الآخرة، فالعمر قصير، ومتاع الدنيا قليل وزائل.
خامسًا: السفر بالأسرة إلى بلاد الكفر والفسق والمجون:
ومقصود به السفر بالزوجة والأولاد من غير ضرورة ولا حاجة، وإنما للفرجة والسياحة، ولا يخفى ما في ذلك من الآثار السيئة المدمرة للعقائد والأخلاق، فوق ما فيه من إسراف وتبذير للأموال، وما فيه من التصوير المحرم للنساء وظهور صورهن أمام الأجانب من موظفي المطارات والجوازات وغيرهم من غير ضرورة إلى ذلك (11).
والسفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجًا إلى ذلك.
----------
(1) أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740).
(2) الآثار المدمرة للإعلام المعاصر على البيت المسلم/ ملتقى الخطباء.
(3) أخرجه البخاري (112)، ومسلم (1460).
(4) أخرجه البخاري (7150)، ومسلم (142).
(5) دروس راغب السرجاني (5/ 33).
(6) في ظل غياب القدوة.. بوصلة تائهة وأجيال ضائعة/ عرب كندا نيوز.
(7) بدائل الأمهات من المربيات والخادمات/ إسلام ويب.
(8) أخرجه البخاري (336)، ومسلم (85).
(9) المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية (ص: 163- 164).
(10) المصدر نفسه (ص: 149).
(11) فاستقم كما أمرت/ مكتبة الفكر.