logo

البلاغة الصامتة


بتاريخ : الاثنين ، 18 صفر ، 1437 الموافق 30 نوفمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
البلاغة الصامتة

حينما تجلس في غرفتك تراجع كتابًا، أو تكتب مذكرات، وحولك أوراق كثيرة، وإذا بالنافذة قد­­­­­­­ فتحت فجأة، ودخل هواء قوي، فانتثر الورق وطار هنا وهناك، فإنك تقوم مسرعًا تريد أن تلملم أوراقك، وتجري هنا وهناك حتى تلحق الورق قبل أن يطير من النافذة، وهذا يأخذ منك دقائق معدودة حتى تُرجِع الأمر كما كان، في حين أنك لو أغلقت النافذة فور فتحها لأنهيت الموقف سريعًا في غضون ثوانٍ قليلة.

هذه هي فكرة البلاغة الصامتة، فالدقائق المعدودة التي تقضيها في الاستماع إلى أبنائك، تختصر سنوات من سوء الفهم وسوء الظن، الناتج عن عدم الإنصات والاستماع إلى الأبناء.

إن الاستماع والإنصات الكاملين إلى الأبناء هو أهم وسيلة للاتصال بهم، وفهم ما يدور في عقولهم، ومعرفة طريقة تفكيرهم، وعليه سيكون الرد الصحيح، والفهم الصحيح لما يريده الأبناء، لا أن نستمع وننصت إليهم ونحن نجهز ردًا نفحمهم به، ونبطل حجتهم، وهذا لا يسمى استماعًا ولا إنصاتًا، إنما هو استماع مزيف لحوار لم يقم أصلًا.

إن اعتقاد الآباء والأمهات معرفة أبنائهم معرفة شديدة، من خلال هذا الاستماع والإنصات المزيفين، هو أشد الأمور التي تبعدهم عن معرفة الأسباب الحقيقية لمشاكل الأبناء، ويقومون بإيجاد الحل المناسب في أذهانهم، المخالف للحقيقة الواقعية للأبناء؛ مما ينتج عنه سوء تفاهم بين الآباء والأمهات وبين الأبناء، وكل هذا بسبب عدم الإنصات والاستماع الكاملين.

لذلك فلا ينبغي للأب أو الأم أن يشتكيا من ابنهما الذي لا يفهمهما ولا يستمع إليهما، وهذا نتاج طبيعي لما تعاملا به مع ابنهما، فهما لم يستمعا إليه جيدًا وبالتالي لم يفهماه، وعليه فالابن لن يستمع إليهما ولن يفهمهما.

إننا نستطيع أن نقول أن تربية الآباء والأمهات لأبنائهم، هي تربية لهما أولًا قبل أن تكون تربية لأبنائهم؛ ذلك لأن الأبناء غالبًا ما يصدقون ما يرون أكثر مما يسمعون، فلو أمر الوالد أبناءه بأمر، ثم بعد ذلك أتى بنقيضه، فإن الأبناء لن يتذكروا الأمر أبدًا، وإنما سيبقى في ذاكرتهم ذلك الفعل الذي قام به والدهم؛ لذا ينبغي على الوالدين أن يُغَيِّرا من سلوكهما أولًا حتى تؤتي التربية ثمارها.

إن الاستماع والإنصات إلى الأبناء هو أسرع طريقة لامتلاك قلوب الأبناء، فإن الإنسان إذا ما أصابه هم أو غم، فإنه سرعان ما يذهب إلى صديقه الذي يحبه، سواء كان في مثل سنه أو أكبر منه أو حتى أصغر منه سنًا؛ وذلك لأن هذا الصديق ينصت إليه جيدًا ويستمع إليه، فهو يشعر براحة عندما يتحدث إليه، ويلقي بهمومه من على كاهله من خلال حواره مع صديقه.

لذلك يجب على الأب أو الأم أن يكونا هذا الصديق، الذي يسرع إليه الابن كلما أصابه مكروه أو ألمت به مشكلة، وأيضًا يسرع إليه كلما رزقه الله أمرًا يفرحه.

فإذا أراد الأب أو الأم الوصول إلى قلب أبنائهما فيجب عليهما الاستماع الجيد والإنصات الكامل لهم.

عليك أيها الأب "أن تتسلل إلى عقل ذلك الابن لتكتشف ما يريده، وأنت في ذلك لست بحاجة لأن تكون طبيبًا أو عالمًا نفسيًا، كما أنك لست بحاجة لتلك الدرجة المعرفية المتقدمة لتكون قادرًا على الفهم والتنبؤ والسيطرة على سلوكيات أبنائك، واكتشاف رغباتهم الداخلية، فقط استمع لحديث الابن بشكل جيد، وستجد أنك تتعرف على ما يريده، ربما بشكل أفضل من الذي يمكن أن يعبر به هو نفسه عن تلك الرغبات والأمنيات"(1).

فاستماع الآباء والأمهات إلى الأبناء يحول الأبناء إلى قلوب منقادة تجاه آبائهم وأمهاتهم، ينفذون ما يطلبونه منهم، ويسعون إلى تلبية طلباتهم واحتياجاتهم، كل هذا بدون نهر أو صوت عالٍ وغير ذلك من الأساليب، إنما كل هذا بالبلاغة الصامتة، وهي الاستماع الجيد والإنصات الكامل.

وأحيانًا كثيرة يحاول الأبناء التحدث إلى آبائهم أو أمهاتهم أثناء انشغال الآباء أو الأمهات بأمر ما، وقد يكون أمرًا مهمًا، فالوالد مثلًا قد يكون منهمك في كتابة مقال أو تنظيم مكتبته، أو متابعة برنامجه الهام، فيجب عليه فورًا ترك المهم والتوجه للأهم، وهو الاستماع إلى ابنه.

وأنتِ أيتها الأم، فإن أبناءك "يختارون الفرص التي لا تتوقعينها؛ مثل الوقت الذي تعدين فيه طعام العشاء، أو الذي تقومين فيه بتنظيف المطبخ، فيتحدثون إليك، يتحدثون عندما يكون ذلك مناسبًا لهم، وليس عندما يكون مناسبًا لكِ، ونصيحتي لكِ، إنه مهما كانت مشاغلك، ومهما كانت مسئولياتك، توقفي عن كل ذلك واشغلي نفسك بأكبر عمل وأصعب مهمة، وهي تربية الطفل عبر الاستماع إليه باهتمام"(2).

هناك كثير من الآباء والأمهات سيقولون: من عنده كل هذا الصبر والتحمل لأجل الاستماع والإنصات والتواصل والتحاور مع الأبناء؟، فكل إنسان له طاقة محدودة، وقدرة معينة على التحمل.

والجواب: أن الإنسان لا بد له من التدرب على الشيء مرة تلو الأخرى حتى يتقنه، فمن يتعامل مع أبنائه بحكمة وروية، ويستمع وينصت إليهم، لم يفعل ذلك من يوم وليلة، ولم يفلح في ذلك من أول مرة، وإنما حاول مرارًا وتكرارًا حتى وصل إلى مراده، وقد علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يَتَوَقَّ الشر يوقه»(3).

وقال صلى الله عليه وسلم: «وإنه من يستعف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تعطوا عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر»(4).

إن السماع الكامل لأبنائنا، وإعطاءهم الفرصة حتى يتموا كلامهم، مع استوضاح أي غموض فيما يعرضوه من أفكار، إن كل ذلك لا بد أن يكون هو السمة المميزة لكل تحاور بيننا وبينهم، فإذا تبين لنا خطأ الابن، فإن السماع الكامل له وعدم مقاطعته هو المقدمة الصحيحة لرجوعه عن الخطأ مهما كان عناده، فإن أشد الناس جفافًا في الطبع وغلظة في القول لا يملك إلا أن يلين وأن يتأثر إزاء مستمع صبور عطوف، يلوذ بالصمت إذا أخذ محدثه الغضب(5).

______________

(1) 21 يومًا للحصول على القوة والسلطة في تعاملك مع الآخرين، جيمس فانفليت، ص110.

(2) حاول أن تروضني، راي ليفي، ص104-105، بتصرف.

(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (342).

(4) صحيح البخاري (6470).

(5) كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس، ديل كارنيجي، ص92، بتصرف.