logo

أن يكون مبدعًا، أو يكون أنت


بتاريخ : الجمعة ، 24 جمادى الأول ، 1437 الموافق 04 مارس 2016
بقلم : تيار الاصلاح
أن يكون مبدعًا، أو يكون أنت

لا شك أن الآباء والأمهات يبتغون لأبنائهم كل خير، ويسعون لأجل أن يتفوق الأبناء، ويتميزوا، ويصبحوا من الناجحين، وممن يشار إليهم بالبنان، فالآباء والأمهات يحبون لأبنائهم كل هذه الأمور؛ لكن الحب شيء والإرادة شيء آخر، فليس كل محب للخير لابنه يستطيع إيصال الخير له، أو يستطيع إيصال ابنه للتفوق والنجاح والتميز، كما أن الإرادة تحتاج إلى معرفة كاشفة، ودراية كاملة، وبصيرة ناقدة، وقدرة واعية، حتى تفرز هذه الإرادة هذا الابن الناجح والمتفوق والمتميز والمبدع.

أما إذا أراد الآباء والأمهات أن يرشدوا الابن إلى طريق التفوق والنجاح، دون فكر وعلم ودراية وبصيرة؛ بل اكتفوا بتجربتهم في الحياة وثقافتهم المجتمعية، التي أشربوها من المجتمع حولهم، فلا شك أن الابن سيصبح نسخة مكررة من والديه.

إن الآباء والأمهات بمحاولتهم هذه يقتلون الإبداع داخل الأبناء؛ وبالتالي يفقدونهم أقوى حافز وأقوى سلاح يملكه الإنسان في معركة حياته، إن كل إنسان منا إنما هو ميسر لما خلق له، أي كل منا مبدع في جانب معين من حياته، ومهمة الآباء والأمهات هي اكتشاف مجالات إبداع الأبناء، ودفعهم إلى هذا الاتجاه.

لكن للأسف يظن كثير من الآباء والأمهات أنهم أكثر الناس دراية بمصلحة أبنائهم، فيجب على الأبناء أن يسمعوا ويطيعوا دون مناقشة، فهم ما زالوا صغارًا، لا يعلمون أين مصلحتهم؟، وإن حاول الابن أن يسير في طريقه وأن يختار لنفسه كان التهديد والوعيد من الآباء والأمهات، وبرزت القواعد والقيود والشروط التي تكبل حرية الابن تمامًا، وهنا، وفي تلك اللحظة، فإنك تصنع إنسانًا ليس له أدنى رأي أو قرار أو حرية، ولن يكون مبدعًا أو مؤثرًا أو مفكرًا أبدًا.

إن المبدعين يتميزون بأنهم لا يقبلون كل ما يسمعونه هكذا؛ بل يحبون إعمال العقل والفكر فيه، ويسألون دائمًا: لماذا؟ وماذا لو كان كذا؟ فهم دائمًا يحاولون تقييم ما يُلقى إليهم، ويبحثون فيه وفي تناقضاته، لكن التعامل مع الأبناء بالطريقة سالفة الذكر هي على العكس تمامًا؛ لذلك فإن أراد الآباء والأمهات أن ينمو الإبداع عند أبنائهم فلا بد أن يحققوا لهم الأمان والحرية.

"الخائف ينكمش بدل أن يبدع؛ ولذا فإن استخدام الأبوين للتخويف والزجر يحبط القوى المبدعة للابن، ويصبح مآلها الضمور، كما أن إهانته وتوبيخه، وتيئيسه من التفوق، يؤدي إلى النتيجة نفسها، حيث ينصرف اهتمام الابن عن إبصار كل نقاط التفوق لديه، لينشغل بكيفية حماية نفسه من الإهانة، أما الحرية فهي شرط مهم للإبداع؛ لأن كثرة القيود المفروضة على الابن تجعله متوجسًا من كل فعل وكل كلمة" [بناء الأجيال، د. عبد الكريم بكار، ص81-82].

إن كثيرًا من الآباء والأمهات يصبحون في غاية القسوة مع الأبناء، وذلك حين يفرضون عليهم قيودًا وشروطًا حازمة، وهم في ذلك يظنون أن ذلك في مصلحة الأبناء؟، وذلك بناءً على ما ترسخ في أذهانهم من أنهم أكثر الناس دراية بمصلحة أبنائهم، وبالتالي فهم يحاولون السيطرة على كل لحظة من لحظات حياة الأبناء، فيفرغون شخصيات الأبناء من محتواها، ويصبح الابن كالقالب، وبالتالي يصبح الابن بلا تميز أو إبداع.

لا شك أن السيطرة على الأبناء من الأمور الضرورية، ولكن بشرط أن نترك للأبناء فرصة جيدة لتكون له شخصيته الخاصة به؛ حتى لا يصبح شخصًا إمعة، ثم شخصًا متسلطًا على أبنائه وعلى من هم دونه في الكبر.

نعم، إن الآباء والأمهات مسئولون عن أبنائهم، ولكن هذه المسئولية لا تعني "أن نعمل 24 ساعة لنطور سلوكهم، وإنما علينا فقط أن نعلمهم السلوك الصحيح، ونضع لهم الحدود الضرورية لكي لا يتجاوزوها فيسيئوا إلى أنفسهم وإلينا، لا أن نحول حياتنا معهم إلى محاضرات عليهم الإصغاء إليها وتنفيذها؛ لأنهم سيتحولون بذلك إلى آلات مبرمجة، لا كائنات مستقلة لها قدرة على التفكير والإبداع، واتخاذ القرارات بنفسها، وتتحمل نتائج هذه القرارات.

إذ لا تتيح أكثر محاضرات الآباء للأبناء المجال للحوار بينهم وبين أبنائهم؛ لأنها تكون على شكل أوامر تسير في اتجاه واحد فقط، ومهمة الأبناء أن يطيعوا دون أن يناقشوا، وهذا ما يدفعهم إلى أن يتظاهروا بالصمم أو يستعدوا لمواجهتنا بتحد واضح لما نسببه من استفزاز يومي لهم.

وفي النهاية سنجد أنفسنا نقوم عنهم بأعمالهم بدل أن نعلمهم كيف يعتمدون على أنفسهم للقيام بها" [سياسات تربوية خاطئة، محمد ديماس، ص84].

إن واجب الآباء والأمهات هو وضع الحدود الضرورية والمفاهيم الصحيحة لدى الأبناء، وأن يحاولوا اكتشاف مجالات الإبداع لدى الأبناء، ثم تركهم بعد ذلك يختارون ما يريدون، لا أن يقوم الآباء والأمهات باختيار ما يريدون هم لأبنائهم، إنما يتركون للأبناء حرية الاختيار، وهم في ذلك مستعينين بالله أن يوفقهم وأن يعلمهم وأن يفهمهم.

إن الآباء والأمهات حين يقومون باكتشاف ما يحبه الأبناء وما يبدعون فيه، وما يناسبهم، فإنهم بذلك يمنعون الأبناء من الاندفاع نحو تعلم ما لا ينفعهم، أو القيام بعمل ما لا يناسبهم.

"ويذكرون في هذا السياق أن مالك بن أنس، صاحب المذهب، قال لأمه حين كان صبيًا: أحب أن آتي بعض المغنين فأتعلم الغناء، فقالت له أمه، المرأة الصالحة: يا بني، إن الناس لا يستحسنون الغناء إذا خرج من لحية وشارب [أي: لا يستحسنونه من الرجال]، ولكن اطلب العلم بالدين.

وحين هداه الله لذلك جاءت فألبسته شيئًا مما يلبسه طلاب العلم في تلك الأيام، ووضعت على رأسه عمامة، وقالت له: اذهب فاطلب العلم الآن.

وكانت تقول له: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.

وقد نفع الله تعالى مالكًا بتوجيه أمه، حتى صار أحد أئمة الدين، وواحدًا من كبار أعلام المسلمين" [دليل التربية الأسرية، للدكتور عبد الكريم بكار، ص95].

إن الأبناء يتمتعون بمرونة ذهنية تماثل مرونتهم الحركية، بينما نجد كثيرًا من الآباء والأمهات عندهم تصلب فكري يتماشى مع تصلبهم الحركي بتقدم السن، وللأسف، فإن هذا التجمد الفكري يجعلهم يرفضون كل جديد، صالحًا كان أو غير صالح، وهذا ما لا يجب أن يكون أبدًا، فلا بد من إعطاء الفرصة للأبناء لاختيار ما يريدون وما يطمحون إليه، بعد وضع الضوابط والشروط والقيود والحدود الضرورية، التي تفتح المجال للأبناء لتكوين شخصية خاصة بهم، لا أن يكونوا نسخة مكررة من آبائهم.