logo

الكسب الحلال وصلاح الأبناء


بتاريخ : الأحد ، 5 جمادى الأول ، 1445 الموافق 19 نوفمبر 2023
بقلم : تيار الاصلاح
الكسب الحلال وصلاح الأبناء

الأبناء كما في القرآن الكريم زينة الحياة الدنيا، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، وقال سبحانه: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)} [المدثر: 12- 14]، وهم نعمة تستحق الشكر، وفي نفس الوقت هم مسؤولية يجب العناية بهم لا سيما فيما يصلحهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

وتربية الأبناء تبدأ من قبل ولادتهم وبعد الولادة إلى أنَّ يصيروا راشدين، ومما يتعلق بالتربية النفقة عليهم وعلى تربيتهم من المال الحلال.

ومثل الذي ينفق على أولاده مثل الذي يسقي زرعه، فمن سقى زرعَه ماءً طيبًا أعطاه ثمرًا طيبًا، ومن سقى الزرعَ ماء آسنًا ساء ثمره، وفسد زرعه.

وهكذا، فمن أطعم بنيه حلالًا طاب معدنهم ورق طبعهم وسما أدبهم، ومن أطعمهم الحرام أفسد نشأتهم وأساء منبتهم وأرهق طلعتهم.

ولئن كان للوالد الأجر الكبير في نفقته على عياله فإنه يضيع الأجر كله إن كانت نفقته حرامًا، ومن النماذج في بيان النفقة الحلال وأثرها على الأبناء، وأخرى من النفقة الحرام وأثرها على الأبناء؛ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، صاحب أصح كتاب بعد القرآن الكريم عند المسلمين، المعروف بصحيح البخاري، وهو من وفيات ست وخمسين ومئتين للهجرة، ومن ذلك العام وإلى يومنا هذا لا زال العلماء والفقهاء والوعاظ والخطباء، يعتمدون على كتاب محمد بن إسماعيل البخاري، يترحمون عليه، وعلى والديه، ويترضّون عنه، وعن والديه اللَّذَين أنشآه هذه النشأة، ومحمد هذا هو ثمرة من ثمار أبيه، عندما نزلت بإسماعيل سكرات الموت جعلت ابنته تبكي، فقال: يا بنية، لمَ تبكين؟ فو الله ما أدخلت إلى جوفي ولا إلى جوفكم لقمة حرام.

 وكافأ الله إسماعيل ببركة نفقته الحلال، ولعلها كانت قليلة، كافأه بأن جعل من صلبه ولدًا يترضى عليه العالم آلاف السنين.

ومما يذكر: جمع تاجر غني لنفسه ولأولاده مالًا كثيرًا، لكنه كان معروفًا بين الناس بأنه لا يأبه لحلال أو لحرام، مصلحته فوق الشرع، وماله فوقَ كل آية وحديث، وجمع المال عنده أساس الحياة.

قال أبو حسان عيسى بن عبد الله البصري: سمعت الحسن بن عرفة يقول: قال لي ابن المبارك: استعرت قلمًا بأرض الشام، فذهبت على أن أرده، فلما قدمت مرو، نظرت، فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه (1).

وروي عن امرأة صالحة أنه قد أتاها نعي زوجها -خبر وفاته- وهي تعجن العجين فرفعت يدها، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شريك -تعني الورثة-.

ولقد نهى الإسلام عن الكسب الحرام لأنه شؤم وبلاء على صاحبه، فبسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضب الجبار، ويمنع إجابة الدعاء، بله إن وبال الكسب الحرام يكون على الأمة كلها فبسببه تفشو مساوئ الأخلاق؛ من سرقة وغصب ورشوة وربا وغش واحتكار، وتطفيف للكيل والميزان، وعقوق للآباء والأمهات، وضياع للحقوق والواجبات، وأكل أموال الناس بالباطل، وشيوع الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

ولقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأنه سوف يأتي على الناس زمان يتهاونون فيه في قضية الكسب فلا يدققون ولا يحققون في مكاسبهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يأتي على الناس زمان، لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام» (2).

قال ابن بطال: هذا يكون لضعف الدين وعموم الفتن، وقد أخبر عليه السلام أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنذر كثرة الفساد، وظهور المنكر، وتغير الأحوال، وذلك من علامات نبوته عليه السلام (3).

بل إن بعض الناس لطمعه يفتات على ربه فيجعل الحرام حلالًا والحلال حرامًا، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].

عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرًا، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه، وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا هذه الآية: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} إلى آخر الآية [الأنعام: 145] (4).

اعلموا أن التربية التي توجه إلى الأبناء نوعان؛ نوع مباشر، ونوع غير مباشر، وما دام النوع غير المباشر لا يحدث بسببه صدام بين الأبناء والوالدين، فإن له أثر ناجع  وفعال في التأثير على الأبناء والبنات، ومن هذه الوسائل غير المباشرة في تربية الأبناء ليصبحوا صالحين وهي أكل الحلال، وإطعام الأبناء من هذا الحلال، وإبعاد الحرام عنهم، ولا يقتصر الأمر على المطعم والمشرب فقط، وإنما في كل نواحي الحياة، فإنما البركة والخير في الحلال، فقد جاء في سنن الترمذي، عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا كعب بن عجرة، إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به» (5).

ومعنى الحديث: «إنه لا يربو لحم»، أي: لا يرتفع ولا يزيد لحم، «نبت» أي نشأ، «من سحت» أي من الحرام من المكسب، والمطعم، والمشرب، «إلا كانت النار أولى به» (6).

وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: الطعام يخالط البدن ويمازجه وينبت منه فيصير مادة وعنصرًا له، فإذا كان خبيثًا صار البدن خبيثًا، فيستوجب النار، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به»، والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب (7).

فهذا الوعيد متعلق بمن كسب الحرام وأنفقه، لكن مع ذلك فإنفاقه على الأبناء فيه مفسدة لنفوسهم وعقولهم ونشأتهم، فإنه بمثابة السم لذواتهم وأرواحهم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن الحسن بن علي، أخذ تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بالفارسية: «كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة» (8)، فالإنفاق على الأبناء من الحلال، من وسائل الحفاظ على فطرتهم سليمة نقية من الأمراض الحسية والمعنوية.

فإذا أردتم صلاح أبنائكم فلا تكسبوا إلا حلالًا، ولا تطعموا أبناءكم إلا من حلال، فإذا أطعمتموهم حرامًا فسيفسدون وتفسد أخلاقهم، وستشتكون عندها من فسادهم وفساد أخلاقهم، وسيصبحون وبالًا عليكم وعلى المجتمع بأكمله، وتأملوا عباد الله، في فقه إسماعيل والد البخاري رحمهما الله، أمير المؤمنين في الحديث، وهو على فراش الموت يقول: والله لا أعلم أني أدخلت على أهل بيتي يومًا درهمًا حرامًا أو درهمًا فيه شبهة.

لهذا كانت ثمرة حرص والد البخاري على الحلال، أن رزقه الله من ذلك ولدًا صالحًا عالمًا محدثًا هو محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله أمير المؤمنين في الحديث، والذي جدد الله به سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبقاها به محفوظة في أمة الإسلام، فتأملوا عباد الله بركة الحرص على أكل الحلال وآثارها الطيبة على الأبناء.

كان المبارك رحمه الله تعالى -والد عبد الله ابن المبارك- عبدًا رقيقًا أعتقه سيده، ثم اشتغل أجيرًا عند صاحب بستان، وفي ذات يوم خرج صاحب البستان مع أصحاب له إلى البستان، وقال للمبارك: ائتنا برمان حلو، فقطف رمانات ثم قدمها إليهم، فإذا هي حامضة، فقال صاحب البستان: أنت ما تعرف الحلو من الحامض، قال: لم تأذن لي أن أكل حتى أعرف الحلو من الحامض.

فقال له: أنت من كذا، وكذا سنة تحرس البستان، وتقول هذا، وظن أنه يخدعه، فسأل الجيران عنه فقال: ما أكل رمانة واحدة، فقال له صاحب البستان: يا مبارك ليس عندي إلا ابنة واحدة، فلمن أزوجها؟ فقال له اليهود يزوجون للمال، والنصارى للجمال، والعرب للحسب، والمسلمون يزوجون للتقوى، فمن أي الأصناف أنت، زوج ابنتك للصنف الذي أنت منه، فقال: وهل يوجد أتقي لله منك، ثم زوجه ابنته.

سبحان الله!! عف المبارك من رمانة من البستان، فسيق إليه البستان وصاحبته، والجزاء من جنس العمل ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، ومن هذا البيت خرج عبد الله بن المبارك الذي كان يقول: لأن أرد درهما من شبهة، خير لي من أن أتصدق بمائة ألف درهم، ومائة ألف درهم .... حتى عد ستمائة ألف درهم.

والد يتنزه عن الشبهات وكذا ابنه الإمام، من كان لله كما يريد، كان الله له كما يريد، نسأل الله من فضله (9).

إن ساحة كسب الحرام تتسع لتشمل التهاون في وقت العمل، وذلك بالدخول في وقت متأخر، والخروج منه قبل الوقت، فهذا نوع من أنواع الكسب الحرام، كما أن التهاون في العمل نوع من أنواع الكسب الحرام، والغش سواء في العمل، أو في المهنة، أو في التجارة، أو في الحرفة هو كذلك نوع من أنواع الكسب الحرام، وسم يتناوله هؤلاء الأشخاص، ويناولونه لزوجاتهم وأبنائهم، فكيف ترجو منهم صلاحًا؟

إذا كنتم تحتاطون على أبنائكم من الفيروسات والميكروبات والأمراض بكل أنواعها، فإن إطعامهم الحرام، هو أشد فتكًا بهم وبحياتهم، فاحذروا من الحرام واحتاطوا منه وجنبوه أبناءكم فإنه أخطر من كل الأمراض حيث تشعرون أو لا تشعرون، وهذا يقتضي منكم الاطلاع على المحرمات في مهنكم وحرفكم ووظائفكم حفاظًا على سلامة حياتكم وحياة أبنائكم وأسركم.

ومما لا شك فيه أن الشجرة الطيبة ذات الجذور الراسخة التي تسقى بماء صاف لا تنبت إلا خيرًا، وكان عمر بن عبد العزيز غرسـًا طيبـًا لأسرة كريمة طاهرة؛ فوالده هو عبـد العزيز بن مروان بن الحكم، من خيار أمراء بني أمية، شجاعًا كريمًا، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لـمَّا أراد الزواج قال لخازنه: اجمع لي أربعمائة دينـار من طيب مالـي؛ فإني أريد أن أتزوج إلى أهـل بيت لهم صلاح، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمـر بن الخطـاب رضي الله عنه، حفيدة أمير المؤمنين (10).

إن زواجه من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحسن سيرته وخلقه؛ فقد كان حسن السيرة في شبابه، فضلًا عن التزامه وحرصه عل تحصيل العلم واهتمامه بالحديث النبوي الشريف؛ فقد جلس إلى أبي هريرة رضي الله عنه وغيره من الصحابة وسمع منهم، وواصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مُرَّة في الشام أن يبعث إليه ما يسمعه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من طريق أبي هريرة رضي الله عنه فإنه عنده.

لذلك لا بد أن ننتبه إلى أن صلاح الأولاد والذرية مسؤولية وأمانة، وأن لهـذا الصلاح بعد توفيق الله تبارك وتعالى سببين ظاهرين:

أولهما: الحرص على الحلال الطيب في المطعم والمنكح.

وثانيهما: البحث عن الأسر الصالحة الطيبة عند الزواج، ليخرج الله لنا أبناءً بررة غُذُّوا بالحلال، ونشأوا عليه وعلى تعظيم الشرع الحنيف، وهذا النبت هو أساس الشجر الوارف الظلال الذي ينتج للأمة ثمارًا نافعة، وأطفال اليوم هم قادة الغد، فيا ليتنا ننتبه إلى بداية الطريق الصحيح حتى لا نضل ولا ننسى.

وعن أسلم قال: بينما كنت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعسُّ بالمدينة إذا هو قد أعيا فاتَّكأ على جانب جدار في جوف الليل؛ فإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه! قومي إلـى اللبن فامذقيـه بالماء (أي اخلطيـه)، فقالت لها ابنتهـا: يا أُمتاه! أما علمـت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم، ألا يُشاب اللبن بالماء، فقالت الأم: قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء؛ فإنك في موضع لا يراك فيه عمر ولا منادي عمر، فقالت البنت لأمها: والله! ما كنت لأطيعه علانية وأعصيه سرًّا، وكان أمير المؤمنين في استناده إلى الجدار يسمع هذا الحوار فالتفت إليَّ يقول: يا أسلم! ضع على هذا الباب علامة، ثم مضى أمير المؤمنين في عَسِّه، فلما أصبح ناداني: يا أسلم! امضِ إلى البيت الذي وضعتَ عليه العلامة، فانظر من القائلة، ومن المقول لها؟ انظر هل لهما من رجل؟

يقول أسلم: فمضيت، فأتيت الموضع؛ فإذا ابنة لا زوج لها، وهي تقيـم مع أمها وليس معهما رجل، فرجعت إلى أمير المؤمنين عمر فأخبرته الخبر، فدعا إليه أولاده، فجمعهم حوله ثم قال لهم: هل منكم من يحتاج إلى امرأة فأزوجه؟ لو كان بأبيكم حركة إلى النساء، ما سبقه أحد منكم إلى الزواج بهذه المرأة التي أعرف نبأها، والتي أحب لأحـدكم أن يتزوجهـا، فقال عاصم يا أبتاه! تعلم أنْ ليس لي زوجة؛ فأنا أحق بزواجها.

فبعث أمير المؤمنين من يخطب بنت بائعة اللبن لابن أمير المؤمنين عاصم، فزوجه بها، فولدت له بنتًا تزوجها عبد العـزيز بن مروان، فولدت له خامس الخلفاء الراشدين الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليهم أجمعين (11).

كان مِن يُمْنِ هذا التصرف الكريم أن كانت ثمرة هذا الزواج، خليفةً لم تعرف الإنسانية بعده نظيرًا له في عدالته، وزهادته، وسعادة رعاياه به، رضي الله عنه ورحمه.

 ورحم الله أهل المعرفة عندما قالوا: من أكل الحلال أطاع الله شاء أم أبى، ومن أكل الحرام عصى الله شاء أم أبى.

فإذا أردت أن يكون أولادك من أهل الطاعة والبر فلا تنفق عليهم إلا من المال الحلال الطيب.

قال أبو عبد الله النباجي: خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله عز وجل ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السُّنة، وأكل الحلال؛ فإن فُقدَت واحدة لم يرتفع العمل؛ وذلك أنك إذا عرفت الله عز وجل ولم تعرف الحق لم تنتفع، وإن عرفت الحق ولم تعرف الله لم تنتفع، وإن عرفت الله وعرفت الحق ولم تخلص العمل لم تنتفع، وإن عرفت الله وعرفت الحق وأخلصت العمل ولم يكن على السنة لم تنتفع، وإن تمت الأربع ولم يكن الأكل من حلال لم تنتفع.

وقال وهيب بن الورد: لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك؛ حلال أم حرام؟ (12).

ويقول ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيًّا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه؟ (13).

وقال يوسف بن أسباط: إذا تعبَّد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعمه مطعم سوء قال: دعوه لا تشتغلوا به، دعوه يجتهد وينصب؛ فقد كفاكم نفسه (14).

وقال سهل بن عبد الله: من نظر في مطعمه دخل عليه الزهد من غير دعوى (15).

وسأل رجل سفيان الثوري عن فضل الصف الأول فقال: انظر كسرتك التي تأكلها من أين تأكلها؟ وقم في الصف الأخير (16).

وقال إبراهيم بن أدهم: ما أدرك من أدرك؛ إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه (17).

لقد كانوا رحمهم الله يؤكدون على هذا المعنى كثيرًا؛ حتى إن الفضيل رحمه الله لما أراد أن يعرف أهل السنة قال: أهل السُّنة مَن عرف ما يدخل بطنه من حلال.

إن كل معاملة ليست على أصل شرعي واضح هي من أكل أموال الناس بالباطل الذي حرَّمه الله ونهى عنه.

وكم تجرأ الناس على الكسب الحرام؛ فهذا عامل لا يؤدي عمله على وجه صحيح، ورَبُّ عمل يقتطع من حق أجيره، وموظف لا ينهض بمسؤولية وظيفته، وتاجر يغش في سلعته، ومتجرئ على التعامل بالربا، ومتاجر بما يفسد عقول الناس ويدمر حياتهم... والكسب الحرام ينعكس على صلاح الأولاد.

وفي تصنيف المال الحرام ما يفتح أبوابًا للشيطان، فيها الشر والفساد والهلاك وتردي الأوضاع الأسرية، كأن تتحول السعادة إلى مشاكل هي مُنغِّصات لراحة البال وصفاء الذهن وطمأنينة الخاطر، فتنشأ العداوة فيما بين أبناء تلك الأسرة، وتَكثر القطيعة والتنافس للظفر على مال ليس لهم أصلًا، وما يَزيد الطين بِلَّة هو سكوتُ ولي الأمر عن تلك التجاوزات.

ويفقد آكل الحرام البَصيرةَ في أكل الحرام، ويغلَّف قلبه بالران فلا يفقَه شيئًا في المحرَّمات والممنوعات، ويزين له الشيطان هذه السبيل فيُحبُّها، بل ويَعشقها، ويرى فيها فخرًا واستِحسانًا له ولأسرته، في حين بلاء الله ينزل بأهله، والمرض ينخر جسد كل من أكل مالًا حرامًا؛ مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل لحم نبت من سحت، فالنار أولى به» (18)، ولو أن أفراد الأسرة ليس لهم ذنب في هذا المكسب الحرام الذي دخل البيت من أبوابه الواسعة، ولكن صلاة الإنسان تنهاه عن الفحشاء والمُنكَر، ومِن المُنكَر عدم السؤال عن مصدر ذاك الرِّزق، خاصة إن كان كثيرًا في حَجمه.

ثم مَن ظنَّ أنه سيبني قصورًا من المال الحرام، أو ظن أنه سيكون سيد قومه بهذا التفوق السريع وغير الشرعي، فيقين أن ساعة انهيار صرحه آتية، فيضيع كل شيء، ويفقد طعم الحياة، ولن يجد له من خلاص سوى العودة إلى الله تعالى بنية صادقة، وتصفية ماله وأكله ومشربه وملبسه، ساعتها فقط يحسُّ بطعم العيش ولذته، فينجِّي نفسه وأهله من النار.

تربية الأبناء على حب الحلال:

يجب الاتفاق بين الزوجين على تربية الأبناء على حب الحلال والبعد عن الحرام، في بداية الحياة الزوجية، مهما كانت الظروف وضغوط الحياة ومتطلبات الأسرة، ولا بد من التنشئة على كراهية الكذب لأي سبب، والإقبال على قول الحق وعدم الخوف من النتائج، والتوكل على الله تعالى فهو كفيل بعوننا على النجاة إن اتقيناه، ويمكن اتباع هذه الوسائل لتنشئة الأطفال على الحلال:

غرس محبة الله وتقواه تعالى: فذلك مما يعين على طلب الحلال والبعد عن الحرام، فلا نقبل أخذ شيء لا يحق لنا وإن وجدناه في الطريق، ولا نأكل طعامًا لا يحل لنا، ولا نسرق شيئًا ليس من حقنا.

الأسرة هي المسؤول الأول عن التربية: ومن الضروري عدم ترك قضية تربية أطفالنا وَفق مبادئ الحلال والحرام على عاتق المدرسة والرفاق ووسائل الإعلام وحدها، لأنّ الأهل هم الأولى في التربية والمتابعة والحرص على التنشئة السليمة، فهي الطريق الموصل إلى الجنة، والبعد عن النار، وليس الانشغال لكسب المال وتوفير احتياجات الأسرة كافة.

استخدام وسائل الإقناع، وتعزيز مبدأي الثواب والعقاب: فتعليم الأبناء حب الحلال، والابتعاد عن الحرام يحتاج إلى وسائل في التربية والإقناع كتذكير الأبناء بأن لكل شخص ملكين يسجلان ما يقول وما يفعل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}

[ق: 18]، فلم لا يكون كلامنا ذكرًا وشكرًا وخيرًا وعونًا وإبداعًا وإسعادًا للنفس وللآخرين، بدلًا من أن يكون كلام سوء وشر وإيذاء.

استخدام المعززات المادية والمعنوية: وذلك كلما تلفظوا بكلمات يحبها الله تعالى، أو مارسوا شيئًا من ذكر الله تعالى كالاستغفار والتسبيح، ويمكن معاقبتهم أو حرمانهم من بعض ما يحبون إن تلفظوا بما حرم الله تعالى أو ارتكبوا المحرمات، فإن تربى الأبناء على ذلك لن يقلق الآباء عليهم أينما حلوا أو ارتحلوا.

دوائر الحلال: ومن رحمة الله بعباده أن جعل دائرة الحلال كبيرة، ودائرة الحرام ضيقة قليلة، فمثلًا: أحل الله جميع المال عدا الربا أو الرشوة أو السرقة، وجميعها إما بها إيذاء للآخرين، أو إيذاء للنفس، وحلل الله جميع أنواع اللحوم إلا لحم الخنزير، والذي ثبتت مضاره الكثيرة على صحة الإنسان، وأحل الله جميع المشروبات وحرم الخمر، وأحل جميع المأكولات إلا ما به مضرة للإنسان، وأحل الكلام إلا ما كان به أذى للآخرين كالغيبة أو النميمة أو الكذب أو قذف المحصنات.

التربية على غض البصر: وعلى الوالدين تقع مسؤولية تنشئة الأبناء على غض البصر عن المحرمات: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]، فالنظرة سهم من سهام إبليس، وما ينفذ للعين ينفذ للقلب، فعلينا تعليم الأبناء أنّ هذا الأمر الإلهي جاء لينقذ الإنسان من الوصول إلى تبعاته التي تُوقع فيما حرم الله.

التربية بالقدوة والمثل الأعلى: مما لا شك فيها أن الحديث عن المثل الأعلى والقدوة الطيبة شيء ضروري في هذه الأيام؛ حتى ينشأ الأطفال والشباب مقتدين بسير العلماء وأهل الفضل والخير من هذه الأمة، ممن جمعوا بين العمل الصالح وفعل الخير ونفع الخلق، وحتى يتطلع الجميع إلى مُثُل عُليا حقيقية أثرت في حياة الناس، وغيرت الاهتمامات والطموحات (19).

----------

(1) صفة الصفوة لابن الجوزي (2/ 239).

(2) أخرجه البخاري (2059).

(3) شرح صحيح البخاري لابن بطال (6/ 201).

(4) تفسير ابن كثير (3/ 353).

(5) أخرجه الترمذي (614).

(6) غريب الجامع (4/ 77).

(7) مجموع الفتاوى (21/ 541).

(8) أخرجه البخاري (3072)، ومسلم (1069).

(9) فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب (3/ 467)، بترقيم الشاملة آليًا.

(10) ابن سعد في الطبقات (5/ 331).

(11) الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (3/ 110).

(12) جامع العلوم والحكم (1/ 263).

(13) الزهد لوكيع (ص: 502).

(14) الزهد الكبير للبيهقي (ص: 343).

(15) نفس المصدر.

(16) موسوعة الرقائق والأدب (ص: 7112).

(17) إحياء علوم الدين (2/ 91).

(18) أخرجه الترمذي (614).

(19) كيف نربي أبناءنا على حب الحلال وبغض الحرام؟ المنتدى العالمي الإسلامي للتربية