logo

كيف نربي أبناءنا على كتاب الله


بتاريخ : الاثنين ، 28 جمادى الآخر ، 1446 الموافق 30 ديسمبر 2024
كيف نربي أبناءنا على كتاب الله

 

القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله للبشرية، ولكي نربي أطفالنا على حبه وتعلقهم به، يتطلب الأمر بعض الجهود والتحضير، ونحن كآباء ومربين نلعب دورًا حاسمًا في تشجيع أطفالنا على حب القرآن، علينا أن نكون قدوة حسنة بتلاوة القرآن والعمل بتعاليمه في حياتنا اليومية، فعندما يروننا نحب القرآن ونعظمه، سيكون لهذا تأثير إيجابي عليهم، ومع التطور التكنولوجي، فمن حق أبنائنا علينا أن نعلمهم بما يتماشى مع هذا العصر؛ ليكون الأمر يسيرًا على عقولهم. 

وأشار ابن خلدون في مقدمته إلى أهمية تعليم القرآن الكريم للأطفال وتحفيظه، وأوضح أن تعليم القرآن الكريم هو أساس التعليم في جميع المناهج الدراسية في مختلف البلاد الإسلامية؛ لأنه شعار من شعائر الدين يؤدي إلى تثبيت العقيدة، ورسوخ الإيمان، فقال: اعلم أنّ تعليم الولدان للقرآن شعار الدّين أخذ به أهل الملّة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم؛ لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل التّعليم الّذي يبنى عليه ما يحصل بعد من الملكات، وسبب ذلك أنّ التّعليم في الصّغر أشدّ رسوخًا، وهو أصل لما بعده؛ لأنّ السّابق الأوّل للقلوب كالأساس للملكات، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال من يبنى عليه (1).

ويقول ابن سينا: فإذا اشتدت مفاصل الصبي واستوى لسانه وتهيأ التَّلْقِين ووعى سمعه أخذ في تعلم القرآن وصور له حروف الهجاء ولقن معالم الدين....

ثم بين ما ينبغي أن يتصف به المربي ذاته فقال: وينبغي أن يكون مؤدب الصبي عاقلًا ذا دين، بصيرًا برياضة الأخلاق حاذقًا بتخريج الصبيان، وقورًا رزينًا، بعيدًا من الخفة والسخف، قليل التبذل والاسترسال بحضرة الصبي، غير كز ولا جامد بل حلوًا لبيبًا ذا مروءة ونظافة ونزاهة، قد خدم سراة الناس وعرف ما يتباهون به من أخلاق الملوك، ويتعايرون به من أخلاق السفلة، وعرف آداب المجالسة وآداب المؤاكلة والمحادثة والمعاشرة (2). 

وأوصى الإمام الغزالي في إحيائه: بتعليم الطفل القرآن الكريم وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار، ثم بعض الأحكام الدينية، وكان الآباء الأولون من سلفنا الصالح الواعي يدفعوا أبناءهم إلى المؤدب؟ فأول شيء كانوا ينصحون به ويشيرون إليه، تعليم أولادهم القرآن الكريم، وتحفيظهم إياه، حتى تتقوم ألسنتهم، وتسمو أرواحهم، وتخشع قلوبهم، وتدمع عيونهم، ويترسخ الإيمان والإسلام في نفوسهم، ثم بالتالي لا يعرفون سوى القرآن والإسلام دستورًا ومنهاجًا وتشريعًا (3).

ومن المؤكد لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها، فإذا كان صلاح أول هذه الأمة بالقرآن تلاوة وعملًا وتطبيقًا، وعزتها بالإسلام فكرة وسلوكًا وتحقيقًا، فآخر هذه الأمة لا تصل إلى مراتب الصلاح، ولا تتحقق بظاهرة العزة إلا أن نربط أولادنا بهذا القرآن الكريم فهمًا وحفظًا وتلاوة وتفسيرًا وتخشعًا وعملًا وسلوكًا وأحكامًا، وبهذا نكون قد كونا في عصرنا الحاضر جيلًا قرآنيًا مؤمنًا صالحًا تقيًا، على يديه تقوم عزة الإسلام، وبفضل همته العالية الجبارة يرتفع في العالمين صرح الدولة الإسلامية لتناهض الأمم في عزتها وقوتها وحضارتها. 

زار القاهرةَ أحدُ المستشرقين، فقال لأحد المشايخ: سننزع الإسلام من صدوركم! فقال له الشيخ: على رسلك، ثم أخذه إلى الشارع، فلقيَا أطفالًا، فطلب منهم الشيخ أن يقرؤوا - من الذاكرة- سورًا معينة من القرآن، فقرؤوا والمستشرق ينظر إليهم في دهشة بالغة، فلما أفاق من دهشته سأل: هل كل أطفالكم يحفظون القرآن؟! فسأله الشيخ: وهل كل أبنائكم يحفظون كتبكم المقدسة؟! ثم أردف الشيخ: ما دام أطفال المسلمين يحفظون القرآن، فلن تستطيعوا أبدًا أن تنزعوا الإسلام من قلوبنا. 

أهمية حفظ القرآن الكريم:

يُعَدُّ حفظ القرآن أحد أعظم العبادات التي تقرّب الإنسان إلى خالقه، وتنمّي في نفوس الأطفال القيم الإيمانية والأخلاق الحميدة، لذا فإن من أهم الأمور التي يجب على الآباء والأمهات الحرص عليها، لما له من فوائد عظيمة على الطفل، ومن أهم الفوائد لتحفيظ القرآن الكريم للأطفال: 

الاتصال بالله: حفظ القرآن يعزز الاتصال بالله ويعمق الإيمان في قلوب الأطفال، فعندما يتعلمون كلام الله تعالى ويحفظونه، يكونون على اتصال دائم بربهم. 

القدوة الحسنة: حفظ القرآن يجعل الأطفال يقتدون بالصحابة والأنبياء والصالحين الذين حفظوا وعاشوا بالقرآن.. يتعرفون على أخلاقهم الفاضلة ويحاولون التعلم والتأسي بهم.

التربية السلوكية: حفظ القرآن يعمل على تهذيب السلوك وتنمية القيم الإسلامية الحميدة، مثل الصدق، الأمانة، العفو، العدل والرحمة. 

الشعور بالثقة بالنفس: حيث يُشعر حفظ القرآن الكريم الطفل بالفخر والاعتزاز بنفسه، ويُعزز ثقته بقدراته وإمكاناته.

تحسين التركيز والذاكرة: يساعد حفظ القرآن الكريم على تحسين قدرة الطفل على التركيز والانتباه، كما يُقوي ذاكرته ويُساعده على حفظ المعلومات بشكل أفضل.

الشعور بالهدوء والسكينة: يُساعد تلاوة القرآن الكريم على الشعور بالهدوء والسكينة، ويُخفف من التوتر والقلق. 

تنمية الصبر والمثابرة: يُساعد حفظ القرآن الكريم على تنمية صبر الطفل ومثابرته، ويُعلمه أهمية المثابرة في تحقيق الأهداف.

الشعور بالمسؤولية: يُشعر حفظ القرآن الكريم الطفل بالمسؤولية تجاه نفسه وتجاه دينه.

اكتساب لغة عربية فصيحة: حفظ القرآن يعمل على اكساب الأطفال لغة عربية خالية من الأخطاء كما يعمل على تصحيح مخارج الحروف وتنمية معجمهم اللغوي.

الأجر العظيم: حفظ القرآن من أفضل العبادات والأعمال الصالحة، ويُثاب الطفل على كل حرف يحفظه ويقرأه. 

غرس الهوية الإسلامية: حفظ القرآن يعمل على تعزيز الهوية الإسلامية للطفل ويجعله متمسكًا بعقيدته وقيمه الدينية.

كيف ننشئ أطفالنا على حب القرآن؟

إن نشأة الطفل ليست محصورة في المنزل فقط، وإنما تكون من المنزل جنبًا إلى جنب المسجد، ويجب أن نبدأ بتعريف أطفالنا بالقرآن الكريم من سن مبكرة، حيث يمكننا قراءة القصص القرآنية لهم، وشرح معانيها بطريقة مبسطة ومناسبة لعمرهم، ويجب أن نساعد أطفالنا على جعل القرآن جزءًا من حياتهم اليومية، ونخصص لهم وقتًا محددًا في اليوم لتلاوة القرآن والتأمل في آياته، كما يمكننا تحفيظهم بعض السور بحيث يسهل عليهم تلاوتها وتطبيقها في حياتهم اليومية، فإن  كتاب الله عز وجل نورٌ يضيء دروبنا، وهدايةٌ تُنير حياتنا، وتنشئة أطفالنا على حبه هو مسؤولية عظيمة تقع على عاتق كل والد ومعلم، فكيف ننشئ أطفالنا على حب القرآن؟

أولًا: القدوة الحسنة:

الوالدان: من خلال حبهما للقرآن وتلاوته بشغف أمام أطفالهما، وحرصهما على تلاوة القرآن في المنزل بشكل يومي، وتفاعلهما مع آياته وتفسيرها للأطفال.

المعلمون: من خلال شغفهم بالقرآن وتلاوته بتجويد، وربطهم معاني القرآن بواقع الطلاب، واستخدام أساليب محببة لتعليم القرآن.

ثانيًا: خلق بيئة إيجابية:

وذلك من خلال تخصيص مكان للقرآن في المنزل، وتشغيل القرآن في المنزل بشكل مستمر، وحث الأطفال على الاستماع للقرآن.

تخصيص حلقات في المسجد لتعليم القرآن وتجويده، وتنظيم مسابقات قرآنية، ودعوة مشايخ لإلقاء محاضرات عن القرآن.

ثالثًا: الربط بين القرآن وحياة الطفل:

وهذا عبر سرد قصص القرآن للأطفال بأسلوب شيق، وربط قصص القرآن بحياة الطفل. 

الثناء على الطفل عند تلاوته القرآن، وتقديم الهدايا له عند حفظه للقرآن، ومشاركة الطفل في الفعاليات القرآنية. 

إن الصبي في ابتداء نشوئه يكون على الأكثر قبيح الأفعال إما كلها وإما أكثرها.. ثم لا يزال به التأديب والسنن والتجارب حتى ينتقل في أحوال بعد أحوال (4). 

والمربي عندما يدرك أبعاد المهمة الصعبة التي كلف بها، يستعد للصبر على مشقة التربية والتوجيه، التي تستفرغ جهد سنوات من العمر، فلا يمل طولها، ولا يزهد في أجرها عند الله تعالى، ويدرك إدراكًا لا يخالجه شك أن تحسين الخلق، واستبدال القبيح منه بالحسن، ممكن بالتدريب والمتابعة والمجاهدة، ومهما وجد في ولده من بلادة في الطبع، وسماجة في السلوك، وسوء خلق، فإن تعديل ذلك ممكن تحقيقه، وهذا ما أكَّده الغزالي رحمه الله حيث قال: لو أن الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وكل ذلك تغيير للأخلاق (5).

واستدلال الإمام الغزالي، واستشهاده بإمكانية تعديل خلق الحيوان، فيه دليل واضح على إمكانية تعديل خلق الولد، خاصة عند صغر سنه، ونعومة أظفاره، فإذا كان هذا جائزًا في حق الحيوان الأعجم؛ ففي حق الولد الذي هو أعقل وأقدر على الفهم من البهيمة أولى وأقرب للحصول والتحقيق؛ لهذا لا ينبغي للأب أن ييأس من إصلاح خلق ولده، بل يلتزم الصبر والمجاهدة والتدريب، حتى يصلحه الله بفضله.

فالآباء والمربون هم القدوة والمثل العليا للأبناء في هذه المرحلة حيث يتعود الطفل تقليد من حوله، ومفهوم أن المؤمن الحريص على صلاح أبنائه في الدنيا والآخرة سيكون أحرص على أن يظهر أمامهم في أحسن صورة وأن يكون خير مثل يحتذى به أمام أولاده، وقبل كل شيء على الأبوين اتباع رسم المعالم الأولية للطفل من خلال زرع الثقة بينهم وبين من خلال الآتي: 

- توفير الدعم للطفل، وذلك من خلال تعليمه أنّ العلاقة بينه وبين الأسرة هي علاقة دعم متبادلة.

- الاحترام المتبادل، يكون ذلك من خلال الاستماع للطفل والتركيز فيما يقول والاهتمام به.

- اتباع أسلوب الحزم مع الطفل، وذلك من خلال عدم التهاون في الأمور الحتمية، ليعلم أن هناك أمورا حازمة لا تقابل التفاوض.

الوقوف عند المعاني:

والمقصود بذلك: أن يقف القارئ عند المعنى فلا يتجاوزه إلى غيره، متأمِّلًا له، ومتفكِّرًا فيه، ومن أبلغ الشواهد وأوضحها: عن حذيفة، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ (6).

وصفة الوقوف عند المعاني: أن يشغل قلبه بالتفكير في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك؛ فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوذ، أو تنزيه نزه وعظم، أو دعاء تضرع وطلب (7). 

وينبغي للتَّالي: أن يستوضح من كل آية ما يليق بها، ويتفهم ذلك، فإذا تلا قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]، فليعلمْ عظمته، ويتلمَّح قدرتَه في كل ما يراه، وإذا تلا: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58]، فليتفكر في نطفة متشابهة الأجزاء، كيف تنقسم إلى لحم وعظم، وإذا تلا أحوال المكذبين، فليستشعر الخوف من السَّطوة إن غفل عن امتثال الأمر. 

ومما يساعد على ذلك استشعار أن الله سبحانه هو المتحدِّث بهذا القرآن، يقول ابن القيم: إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعَكَ، واحضر حضور مَن يخاطبه به مَن تكلَّم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] (8). 

وينبغي لتالي القرآن: أن يعلم أنه المقصود بخطاب القرآن ووعيده، وأن القصص لم يرد بها السمر بل العبر، فحينئذٍ يتلو تلاوة عبدٍ، كاتبه سيده بمقصود، وليتأمل الكتاب، ويعمل بمقتضاه (9). 

وعليه فإن المتدبر:

1- يجب أن يلمَّ بمعاني الآيات وتفسيرها.

2- ويتفكر ويتأمل فيها.

3- ويُدرك ما تَؤول له عمليًّا، فيعرض نفسَه عليها، وكذلك أسرته ومجتمعه اتِّعاظًا واتباعًا، فكريًّا وعمليًّا.

ترديد الآية المؤثرة في القلب:

مما يعين على تدبر القرآن والتفكر في معانيه: ترديد الآية المؤثرة في القلب، وهذا الترديد من أبرز صور الوقوف عند المعاني، قال ابن القيم رحمه الله: فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة والتي بها فساد القلب وهلاكه. 

فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاجًا إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح، وقد ثبت عن النبي أنه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]. 

فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب، ولهذا قال ابن مسعود: لا تهذوا القرآن هذا الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، لا يكن همّ أحدكم آخر السورة (10).

وقال ابن قدامة رحمه الله: وإن لم يحصل التدبر إلا بترداد الآية، فليرددها (11). 

وقال بِشْر بن السريّ رحمه الله: إنما الآية مثل التمرة، كلما مضغتها استخرجت حلاوتها، فحُدِّث به أبو سليمان، فقال: صدق؛ إنما يؤتى أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها (12).

نماذج من ترديد الآية: وردت نقولٌ كثيرة ومتنوِّعة عن السَّلف الصَّالح في ترديدهم لبعض الآيات، ومن أبرزها ما يلي:

عن مسروق رحمه الله: أن تميمًا الداري رضي الله عنه ردد هذه الآية حتى أصبح: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] (13)، وكذا قام بها الربيع بن خثيم رحمه الله (14). 

وعن عباد بن حمزة رحمه الله قال: دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، فَوَقَفَتْ عليها، فجعلت تستعيذ وتدعو، قال عباد: فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي، ثم رجعت، وهي فيها بعد، تستعيذ وتدعو (15).

عن رجلٍ من أصحاب الحسن البصري رحمه الله قال: بينا أنا ذات ليلة عند الحسن فقام من الليل يصلي، فلم يزل يردد هذه الآية، حتى أسحر: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، فلما أصبح، قلنا: يا أبا سعيد، لم تكن تجاوز هذه الآية سائر الليلة، قال: إن فيها معتبرًا، ما ترفع طرفًا ولا ترد، إلا وقع على نعمة، وما لا نعلم من نعم الله أكثر (16).

قال النَّووي رحمه الله: وقد بات جماعة من السَّلف، يتلو الواحد منهم الآية الواحدة، ليلةً كاملةً أو معظَمَها، يتدبَّرها عند القراءة (17).

تجديد العهد بالقرآن الكريم

إنّ تجديد العهد بالقرآن والعودة إليه والمداومة على قراءته هي أولى الوسائل وأعظمها أثرًا؛ لذلك على العبد أن يجاهد نفسه على ذلك، وأن يصبر على مشقة ذلك؛ لأن هذه المشقة -إن وُجدت- هي نتيجة بُعد العهد بكتاب الله، لذلك عليه أن يستمر ولا ييأس، وليكن على يقين أنّ مَن داوَم على قرع الباب يوشك أن يُفتَح له، وأنَّ دوامَ نزول قطر الماء على الحجر يُحدِث فيه أثرًا لا محالة، فما بالك بأثر كلام الله على القلوب إذا داوم العبد عليه؟ 

الجهر بتلاوة القرآن:

فالجهر بتلاوة القرآن يساعد على يقظة القلب، ومِن ثمَّ التأثر بالقرآن، بخلاف ما لو قرأ المسلم سرًّا، فإنه يكون أقرب لشرود الذهن وانصراف القلب؛ ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يجهر بالقرآن، فعندما سُئل ابن عباس رضى الله عنهما عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل قال: «كان يقرأ في حجرته، فيَسمع قراءتَه مَن كان خارجًا» (18).

الاستشعار بأنك مخاطَب بكل آية:

فمِن أعظم أسباب التأثر بالقرآن أن يستشعر المسلم بأنه هو المقصود بهذا الخطاب، وأن كل أمرٍ أو نهي هو مأمور به، فلقد فطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر جيدًا، ومن ذلك ما ورَدَ عن أنس بن مالك، أنه قال: لمَّا نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، جلس ثابت بن قيس في بيته، وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ، فقال: «يا أبا عمرو! ما شأن ثابت؟ أشتكَى؟» قال سعد: إنه لَجاري، وما علمتُ له بشكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أُنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني مِن أرفعكم صوتًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل هو من أهل الجنة» (19). 

استخراج المواعظ والعبر من قصص القرآن وأمثاله:

فالقرآن يحوي الكثير من القصص والأمثال، والعاقل مَن تدبَّرها وتأمَّلها واستخرج ما فيها من العبر وتأثَّر بما فيها من المواعظ؛ لأن هذا هو الهدف الذي من أجله ذَكَر اللهُ هذه القصص والأمثال، فقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]، كما قال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25]، وقال أيضًا: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، وقال أيضًا: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]. 

الحرص على قيام الليل بالقرآن:

فإنّ قيام الليل من أعظم العبادات وأحبها إلى الله، وأكثرها حضورًا للقلب؛ لذلك إن أراد المسلم التأثر بالقرآن فعليه أن يقوم الليل به، وهذه وصية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حيث قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)} [المزمل: 1- 7]، يقول الإمام ابن كثير: والمقصود أنّ قيام الليل هو أشد مواطأةً بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة، ولهذا قال تعالى: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} أي: أجمعُ للخاطر في أداء القراءة وتفهّمها مِن قيام النهار. 

الدعاء عند آية الرحمة، والتعوذ بالله عند آية العذاب، أو حكاية أهل النار.. ذكر النووي في التبيان: أنه يستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر، ومن العذاب، أو يقول اللهم إني أسألك العافية، أو أسألك المعافاة من كل مكروه، وإذا مر بآية تنزيه لله تعالى نزه فقال سبحانه وتعالى أو تبارك وتعالى أو جلت عظمة ربنا. كما ورد في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وصف حذيفة بن اليمان قراءة رسول الله أنها كانت ترسل إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ (20). 

ترديد قراءة الآية يعين على تأمل معاني القرآن، لذلك جاء النهي عن قراءة القرآن بالسرد السريع، وشبه ابن مسعود ذلك بنثر الدقل (21).

ويلزم من يريد أن يطبق هذه السنة أن يتدبر معاني القرآن، ويتعرف على مدلولاتها، فيقف عند آية الرحمة ليطلب فضلها، ويتأمل آية عذاب ليستعيذ بالله منها.

وجوب العمل بالقرآن العظيم:

إن العمل بالقرآن العظيم هو ذروة حقوق القرآن وسنامها، وهو العناية من تنزيل الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155].

إن من أعظم أسباب شقاء اليهود هو أنهم اكتفوا بقراءة التوراة وسماعها دون أن يتبع ذلك عمل، فَشَبَّهَهم الله تعالى بالحمير، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]. 

فهؤلاء اليهود حُمِّلوا التوراة؛ أي: عَلِمُوها وكُلِّفوا العمل بها، ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فيها؛ كمثل الحمار يحمل كتباً يتعب في حملها ولا ينتفع بها (22). 

عن أبي الدرداء، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: «هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء»، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال: «ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟» قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت، قلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس؟ الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى فيه رجلًا خاشعًا (23).

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ، فإني لقائم أسقي أبا طلحة، وفلانًا وفلانًا، إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال: حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس، قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل (24). 

عن صفية بنت شيبة: أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول لما نزلت هذه الآية: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها (25).

--------------

(1) تاريخ ابن خلدون (1/ 740).

(2) السياسة لابن سينا (ص: 102- 103).

(3) انظر: إحياء علوم الدين (3/ 73).

(4) التراث التربوي الإسلامي فتحي حسن ملكاوي (1/ 201).

(5) إحياء علوم الدين (3/ 55).

(6) أخرجه مسلم (772).

(7) الإتقان (1/ 369).

(8) الفوائد لابن القيم (ص: 3).

(9) مختصر منهاج القاصدين (ص: ٦٨).

(10) مفتاح دار السعادة (1/ 187).

(11) مختصر منهاج القاصدين (ص: 56).

(12) البرهان في علوم القرآن (1/ 471).

(13) أخرجه الطبراني في الكبير (1251).

(14) أخرجه ابن أبي شيبة (8371).

(15) أخرجه ابن أبي شيبة (6037).

(16) أخرجه ابن أبي الدنيا (1/ 159).

(17) الأذكار (ص: 87).

(18) أخرجه البيهقي (4699).

(19) أخرجه مسلم (119).

(20) أخرجه مسلم (772).

(21) أخرجه أبو داود (1396).

(22) روح المعاني (28 /95).

(23) أخرجه الترمذي (2653).

(24) أخرجه البخاري (4617).

(25) أخرجه البخاري (4759).