القيم الأسرية المفقودة
إذا كان لنا أن نبني مجتمعًا مسلمًا على قيم الإسلام الصحيحة فلا بد من تغيير ما يسود قيم الأسرة من ضعف وهوان، في بنائها وفي تربية أبنائها، وهذا هو أساس التغيير الصحيح نحو القيم الإسلامية.
إن عين الطفل وسمعه يجب ألا يقعا إلا على سلوك صحيح مترجم عن واقع صحيح وقيم سليمة؛ ولذا فإن المطلوب من الوالدين أن يكونا فعلًا قدوة صالحة، ليتلقى الطفل منهما، مباشرة وبدون مباشرة، القيم والمبادئ في إطار التصور الإسلامي الصحيح.
وينبغي أن تكون سياسة الأسرة قائمة على التفتح واختيار الجيد، والبعد عن سياسة الانغلاق والحرمان وإيصاد الأبواب، والاعتماد على تكوين الحس الإسلامي في نفوس الأطفال وبالتدرج، وإنضاج القدرة على الاختيار الجيد، والبعد عن السفاسف والرذائل(1).
إن أية محاولة لخلخلة منظومة القيم الإسلامية الثابتة، أو طرح مبادرات من هنا أو هناك لجعل تلك المنظومة قابلة لاستيعاب قيم مستمدة من معطيات العقل البشري، والخبرات المجتمعية ذات المرجعيات الإلحادية والفاسدة، كل ذلك يعد محاربة صريحة للدين الإسلامي، ومن ثم فإن التصدي لهذه المحاربة هو فرض عين على كل من يدرك معالم هذه المشكلة.
إن القيم في الإسلام تقررها إرادة الله تعالى، فهي تتمثل بأوامره التي يمكن أن تعد قيمًا موجبة، كما تتمثل بنواهيه التي يمكن أن تعد قيمًا سالبة، ومن هنا فإن هذه الأوامر الربانية مقاييس تحدد ما ينبغي أن يكون وما ينبغي ألا يكون، بعيدًا عن تقديرات الأفراد وعن ظروفهم، فهي ليست اعتبارات ذهنية، وإنما هي حقائق لا تخضع للبيئة أو التغيير(2).
ومن أبرز القيم التي جاء بها الإسلام قيم الأسرة، باعتبارها هي النواة الأولى والأساسية في المجتمع، بحيث إن صلاحها هو صلاح الأسرة.
إن كل قيمة يتشبع بها المسلم لا بد أن تظهر آثارها من خلال السلوك الصادر عنه، إلا أن هناك تفاوتًا في القوة التي يظهر من خلالها السلوك، فيمكن أن يمثل له بسلم متفاوت الدرجات، يتبارى الأفراد في الإسلام من أجل الحصول على أعلاها، كل حسب قوة إيمانه وخصائصه النفسية وأساسه التربوي، قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتْنَافِسُونَ} [المطففين:26]، {وَسَارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ للِمْتُقَّيِنَ} [آل عمران:133]، بمعنى أن قياس قيمة أو نسق كامل من القيم إنما يظهر سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو الحضارات(3).
إننا نجد أن المجتمعات تختلف فيما بينها في الأساليب التي تستخدمها في تنمية القيم لأبنائها؛ فضلًا عن اختلاف الأسر في المجتمع الواحد في استخدام تلك الأساليب، وهذا الاختلاف يعود إلى عدة عوامل، أهمها المستوى التعليمي للوالدين، والمستوى الاقتصادي والاجتماعي للأسرة، إضافة إلى ما اكتسبه الوالدان أثناء طفولتهما، وما يكتسبانه أثناء خبراتهما العلمية والعملية والاجتماعية، ولكن هناك أساس تشتق منه الأسر المسلمة قيمها وهو التشريع الإسلامي؛ حيث أعطى الدين الإسلامي الأسرة العناية والاهتمام الكبير؛ ذلك لأنها هي نواة المجتمع، وهي القاعدة الأساسية له، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»(4).
فيربي الرجل أبناءه على أخلاق المؤمن؛ من قوة في الدين، وحزم في لين، وحرص على العلم، وقناعة في فقر، وإعطاء في حق، وبر في إشفاق، وفقه في يقين، وكسب في حلال.
وإذا تمكنت التربية الدينية القائمة على الإيمان بالله، وأداء العبادات والفرائض من قلوب ونفوس الأبناء، فتؤسس على أخلاق فاضلة، وتكوين ملكة المراقبة الذاتية، والخوف من الله، وتتمثل تلك القيم فيما يلي:
1- قيمة الصدق: وهذه الصفة لا يمكن غرسها في مرحلة الشباب؛ بل إنها تغرس في الفرد الإنساني منذ طفولته الأولى، ثم يتم تنميتها عن طريق المواقف المختلفة، وذلك من خلال صدق الوالدين أنفسهم، فهم القدوة للأبناء، فيقومان بالحث على الصدق مهما كانت الظروف في كل شأن، وتحريه في كل قول وعمل؛ لأن من شب على شيء شاب عليه، فهو ركيزة في خلق المسلم، وصبغة ثابتة في سلوكه ظاهرًا وباطنًا، فالصدق من مكملات الإيمان؛ إذ أمر الله به وأثنى على المتصفين به، ومن ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
كما حث رسولُه صلى الله عليه وسلم عليه ودعا إليه فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا»(5).
2- قيمة العدل: على الآباء تعويد الأبناء على تبني مواقف العدل والعدالة في جميع أعمالهم ومواقعهم منذ الطفولة؛ لأنهم سيكونون رجال الغد وآباء المستقبل، والعدل من صفات الله، فهو العادل، وبالعدل يمكن القضاء على الأحقاد والضغائن والفساد، قال تعالى: {إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وإيتَاءِ ذِي القُرْبَى} [النحل:90].
هذا وعلى الآباء أن يعدلوا بين أبنائهم، ويرسخوا في نفوسهم الحب فيما بينهم، فالعدل هو الميزان الصحيح لسلوك المسلم في تعامله مع الآخرين، وذلك على أساس من العدل.
3- قيمة الأمانة: الأمانة فضيلة أخلاقية حث عليها الإسلام، ولقد لُقب الرسول صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين، ووجه أمته للتخلق بالأمانة.
والأمانة تكون في حفظ المال عند غياب صاحبه، وحفظ النفس من الغش، وحفظ الأمانة التي ائتمننا الله عليها، فبترسيخ هذه القيمة في نفوس الأبناء نضمن تفاعلهم مع الآخرين بكل إخلاص ووفاء.
4- قيمة الصبر: قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم إذا كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»(6).
إن قيمة الصبر من القيم العظيمة الجليلة التي تزرع في النفوس البعد عن الشهوات، فقيمة الصبر تزيد الفرد وقارًا وحكمة وبصيرة في الحكم على الأمور.
5- قيمة التسامح: فالتسامح يعني الصفح عمن أخطأ في حقك أو تجاوز حده، أو اختلف معك اختلافًا غير أخلاقي، فهو قيمة أخلاقية عظمى، وانتصارًا لروح الخير والأخلاق في النفس الإنسانية على روح الشر من الاستجابة لنزغات الشيطان، والتسامح هو أساس التعامل الذي يفترض أن يحكم علاقة الناس بعضهم ببعض، أما الإصرار على رفض التسامح فهو إصرار على إلحاق الأذى بالنفس قبل الآخرين، وهو إصرار على المعاناة الشخصية في مواجهة قلب يموج بذكريات مؤلمة عن الآخرين؛ ولذلك فنحن نحتاج إلى المسامحة من أنفسنا ومن الآخرين، وكثير من الناس يتألم لأخطائه الماضية ويظل يحملها، فلا بد أن يكون متسامحًا مع نفسه، وقادرًا على نسيان أخطائه الماضية.
إن أسلوب التربية المتبع داخل الأسرة له انعكاساته سلبًا أو إيجابًا على اكتساب سلوك التسامح وتنميته وتعزيزه لدى أبنائنا، فيجب أن تكون بيوتنا منتديات حوارية مفتوحة لأفراد الأسرة كافة، ولنشجع الأبناء على تقبل الرأي الآخر من خلال تقبل آرائهم: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7]، ويستطيع الآباء ترسيخ سمة التسامح من خلال لغة التواصل مع الأبناء، يشجعونهم عليها ويمارسونها من خلال المواقف والتفاعل معهم.
6- قيمة الكفاءة والاستقلال والمسئولية: تعويد الأبناء على المرونة واستخدام مهاراتهم بطريقة مركزة على المشكلة وليس على ذواتهم، فعلى الآباء تشجيع أبنائهم باستخدام عقولهم في معالجة المشاكل، والمساهمة في طرح الحلول البديلة للمشكلة، وعلى الآباء أيضًا امتداح الأفكار والتصرفات الأفضل، وتجنب العقاب بقدر الإمكان، والذي يؤدي إلى استمتاعهم بالتعامل مع المواقف باستقلالية، وإن تعويد الأبناء على المسئولية والاعتماد على النفس من القيم الهامة التي تجعلهم قادرين على الدفاع عن أنفسهم، وقادرين على إدارة حياتهم بطريقة فعالة ومثمرة.
7- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض أكده الله عز وجل على عباده، فمتى تركوه فقد أوجبوا على أنفسهم غضب الله ولعنته، قال تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79]، وكما قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب»(7).
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، ودعامة راسخة من دعائم المجتمع الرباني، دلت على ذلك النصوص، وشهد به التاريخ، ونطق به الواقع، والأمة اليوم تحتاج إلى إحياء تلك الشعيرة، وتقوية تلك الدعامة لتنفض عنها بذلك ما علق بها من الغبار الذي أثاره عليها الكيد الخارجي والداخلي، الذي لا يكن ليفعل فعله لولا انحسار المفاهيم الإسلامية لدى الأمة وبعدها عن دينها.
الأمر والنهي فطرة في نفس كل إنسان، حتى لو كان يعيش منفردًا معتزلًا الناس فلا بد أن تأمره نفسه وتنهاه، وإن نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالباطل؛ ولذلك فإن تعليم الأبناء أساليب وطرق الأمر بالمعروف فيما بينهم والنهي عن المنكر يبعد الأبناء عن الكثير من المعاصي والانحرافات السلوكية التي قد يتعرضون لها، فهي، بلا شك، قيمة دالة وشاملة على العمل الصالح(8).
8- حسن التعاون بين أفراد الأسرة: وخاصة بين الزوجين، على تربية أولادهما، وإدارة شئون البيت، وتكامل الأدوار بينهما، فالزوج يتعاون مع زوجته، وهذا دليل على نبل نفسه، وطيب معشره، وعلى الرغم من انشغال الرسول صلى الله عليه وسلم بأعباء الرسالة وشئونها، واستقبال الوفود، إلا أنه كان أحسن الناس عشرة، وهو خير الناس لنسائه، ولم تمنعه كل هذه الأعباء أن يعاون أهله، وقد سئلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: «ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟!»، قالت: «كان يكون في مهنة أهله [تعني خدمة أهله]، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة»(9).
9- الحوار الأسري: ومناقشة ما يطرح من أفكار وآراء فيها مصلحة للأسرة ومنفعة لأفرادها، أو فيما يتعلق بشئون حياتهم ومعاشهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير بعض نسائه، كما كان يفعل مع أم سلمة رضي الله عنها، فقد كان يأنس برأيها ويعجبه رجحان عقلها رضي الله عنها.
10- حماية الأسرة من تدخلات الآخرين أو من المقارنات: فعلى كل منهما ألا ينظر إلى ما في أيدي غيره، وليقنع بما قسم الله له، كما أمر الإسلام أن يصون كل واحد من أفراد الأسرة أسرار البيت من أن تخرج خارج البيت، وخاصة ما يكون بين الزوجين من أمور خاصة يجب ألا تتجاوزهما، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من إفشاء أحد الزوجين لأسرار العلاقة بينهما، فإن هذا مما يضعف استقرار الأسرة، ويرفع الحشمة والحياء بين الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها»(10).
11- الوفاء بين أفراد الأسرة، وهو أشد مطلوب سيما عند الكبر، فقد أمر الزوج أن يكون وفيًا لزوجته على كل حال، يحفظ لها حقها، ويذكر لها جميلها، ويقدر لها معروفها، خاصة بعدما كبرت سنها، واشتد ضعفها وحاجتها إليه، وكيف لا يكون كذلك وقد جعل الله كلًا من الزوجين سكنًا للآخر، وسمى عقد النكاح ميثاقًا غليظًا؟!
12- الاعتدال والتوسط: فكلا طرفي الأمور ذميم، ذم الله الإسراف كما ذم التقتير، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوامًا} [الفرقان:67]، فَشَرْعُ اللهِ عَدْلٌ بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط، وقال عز وجل: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29].
وعن وهيب بن الورد أن رجلًا قال لعالم: «ما البناء الذي لا سرف فيه؟»، قال: «ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر»، فقال له: «فما الطعام الذي لا سرف فيه؟»، قال: «ما سد الجوعة»، فقال له في اللباس، قال: «ما ستر عورتك، ووقاك من البرد»(11).
وقد بغض الله تعالى الإسراف للناس ببيان أنه سبحانه لا يحبه ولا يرضاه لعباده، فقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}؛ لأن الإسراف يؤدي إلى إضرار أبدانهم، وحرمان غيرهم، وضياع لذوي الحاجة في الجماعة الإسلامية، كما قال ابن عباس: «ما من مسرف إلا ووراءه حق مضيع»(12).
والاعتدال الفردي نابع من وسطية الأمة التي أشار الله إليها بقوله: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
13- الإصلاح: الإصلاح له من اسمه نصيب، وفي الصلح خير عظيم، قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزًا أَوْ إِعْراضًا فَلَا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، وقال تعالى: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:129](13).
قال ابن كثير: «يقول تعالى مخبرًا ومشرعًا عن حال الزوجين، تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها.
فالحالة الأولى: ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها، فلها أن تسقط حقها أو بعضه، من نفقة أو كسوة، أو مبيت، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا جناح عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها؛ ولهذا قال تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُمَا صُلْحًا}، ثم قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}؛ أي: من الفراق.
وقوله: {وَأُحْضِرَت الْأَنْفُسُ الْشُحَّ}؛ أي: الصلح عند المشاحة خير من الفراق؛ ولهذا لما كبرت سَوْدَةُ بنت زَمْعَةَ عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها، فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها وأبقاها على ذلك(14).
14- البر والإحسان: قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا} [الإسراء:23]، وقال عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8].
قال القرطبي: «وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد؛ لأن النشأة الأولى من عند الله، والنشء الثاني، وهو التربية، من جهة الوالدين، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، والإحسان إلى الوالدين معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما، وصلة أهل ودهما»(15).
15- المودة والرحمة: قال تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
المودة والرحمة عطف قلوب بعضهم على بعض، وقال السدي: «المودة: المحبة، والرحمة: الشفقة»(16).
قال الرازي: «وذكر هاهنا أمرين أحدهما يفضي إلى الآخر، فالمودة تكون أولًا ثم إنها تفضي إلى الرحمة؛ ولهذا فإن الزوجة قد تخرج عن محل الشهوة بكبر أو مرض ويبقى قيام الزوج بها، وبالعكس»(17).
فالمودة وحدها آصرة عظيمة، وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما، والرحمة وحدها آصرة منها الأبوة والبنوة، فما ظنكم بآصرة جمعت الأمرين، وكانت بجعل الله تعالى، وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان(18).
16- المساواة في الحقوق والواجبات: قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، قال ابن كثير: «ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته، في حجة الوداع: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف)»(19).
وقال أيضًا: «طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله...
وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يتودد إليها بذلك، ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العَشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العِشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]»(20).
وفي الحديث: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت»(21).
17- التحية: قال تعالى: {وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها} [النساء:86]، إذا دخلتم بيوتًا مسكونة فسلموا على من فيها من الناس {تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}؛ أي حيوهم بتحية الإسلام (السلام عليكم)، وهي التحية المباركة الطيبة التي شرعها الله لعباده المؤمنين، قال القرطبي: «وصفها بالبركة لأنه فيها الدعاء واستجلاب المودة، ووصفها بالطيب لأن سامعها يستطيبها»(22).
18- خفض الصوت: قال تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]؛ أي: لا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه، واخفضه، فإن شدة الصوت تؤذي آلة السمع، وتدل على الغرور والاعتداد بالنفس وعدم الاكتراث بالغير، واعتدال الصوت أوقر، فلا تبالغ في الكلام، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي، والمراد بذلك كله التواضع.
كذلك الأسرة تحتاج للتعامل بخفض الصوت ولين الجانب، فذلك أدب إسلامي رفيع، وقيمة أسرية كبرى.
19- الاستئذان: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27].
وقد كان الاستئذان معروفًا في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان يختلف شكله باختلاف حال المستأذن عليه من ملوك وسوقة، فكان غير متماثل، وقد يتركه أو يقصر فيه من لا يهمه إلا قضاء وطره وتعجيل حاجته، ولا يبعد بأن يكون ولوجه محرجًا للمَزُور أو مثقلًا عليه، فجاءت هذه الآيات لتحديد كيفيته، وإدخاله في آداب الدين؛ حتى لا يفرط الناس فيه أو في بعضه باختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة، واختلاف أوهامهم في عدم المؤاخذة أو في شدتها.
وشرع الاستئذان لمن يزور أحدًا في بيته؛ لأن الناس اتخذوا البيوت للاستتار مما يؤذي الأبدان من حر وقر ومطر وقتام، ومما يؤذي العرض والنفس من انكشاف ما لا يحب الساكن اطلاع الناس عليه، فإذا كان في بيته وجاءه أحد فهو لا يدخله حتى يصلح ما في بيته، وليستر ما يحب أن يستره، ثم يأذن له أو يخرج له فيكلمه من خارج الباب.
ومعنى تستأنسوا تطلبوا الأنس بكم؛ أي تطلبوا أن يأنس بكم صاحب البيت، وأنسه به بانتفاء الوحشة والكراهية، وهذا كناية لطيفة عن الاستئذان؛ أي أن يستأذن الداخل؛ أي يطلب إذنًا من شأنه ألا يكون معه استيحاش رب المنزل بالداخل(23).
20- الإيثار: تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، وقال تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].
يقول السعدي: «يعني: لن تنالوا وتدركوا البر، الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنات، حتى تنفقوا مما تحبون، من أطيب أموالكم وأزكاها، فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها، ومن أدل الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال، التي جبلت النفوس على قوة التعلق بها»(24).
إنه الإيثار، الذي به تحصل الكفاية الاقتصادية والمادية في المجتمع، فطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة، والبيت الكبير الذي تستأثر به أسرة واحدة مع سعته يكفي أكثر من أسرة ليست لها بيوت تؤويها.
***
______________
(1) نضرة النعيم (1/ 168)، بتصرف.
(2) مجلة دراسات العلوم الإنسانية، ص3217.
(3) القيم التربوية في ضوء الرؤية القرآنية والحديث النبوي الشريف، ص68.
(4) أخرجه أحمد (8951).
(5) أخرجه البخاري (6094).
(6) أخرجه الترمذي (2507).
(7) أخرجه أبو داود (4338).
(8) الدور التربوي للأسرة في تنمية القيم لدى الشباب، المنتدى الإسلامي العالمي للتربية.
(9) أخرجه البخاري (676).
(10) أخرجه مسلم (1437).
(11) مفاتيح الغيب (24/ 482).
(12) زهرة التفاسير (6/ 2819).
(13) الموسوعة القرآنية المتخصصة (1/ 90).
(14) تفسير ابن كثير (2/ 426).
(15) تفسير القرطبي (2/ 13).
(16) المصدر السابق (14/ 17).
(17) مفاتيح الغيب (25/ 92).
(18) التحرير والتنوير (1/ 644).
(19) تفسير ابن كثير (1/ 609).
(20) المصدر السابق (2/ 242).
(21) أخرجه أبو داود (2142).
(22) صفوة التفاسير (2/ 321).
(23) التحرير والتنوير (18/ 197).
(24) تيسير الكريم الرحمن، ص970.