logo

العزوف عن الزواج


بتاريخ : السبت ، 2 جمادى الأول ، 1444 الموافق 26 نوفمبر 2022
بقلم : تيار الاصلاح
العزوف عن الزواج

الزواج سنة بشرية لتحصين النفوس، وسبب لغض الأبصار، وسكون للروح، وطمأنينة في القلب، وراحة بال، وحياة سعيدة ينعم بها كل من الشاب والفتاة.

لكن لوحظ في السنوات الأخيرة عزوف بعض الشباب عن الزواج، خوفًا من تحمّل مسؤوليات عش الزوجية الذي يقتضي نفقات كثيرة، بدءًا من الارتباط بالزوجة ومتطلبات الزواج، مرورًا بمعيشة الأسرة وإنجاب الأولاد بعد ذلك واستقرارها.

فمطلوب من الشاب الذي يتقدم للزواج أن يدفع مهرًا للزوجة ويؤسس بيت الزوجية، وما يتطلبه ذلك من أثاث وتجهيزات كلها تقتضي توفير مبالغ مالية كبيرة أكثر من مستوى الشاب، فالأسر تطلب مهورًا عالية والسكن المستقل، وما يترتب عليه، ولا يهمها إمكانات الشاب التي لا تتناسب مع العصر الحالي.

وبعض الشباب قد لا يكون عندهم عمل يكفي للإنفاق على الأسرة، إذن عندنا مشكلتان: الأولى المغالاة في المهور ومتطلبات الزواج، والثانية: ضعف الأجور بالنسبة للشباب، فهاتان المشكلتان من أكثر المشاكل التي ينبغي وضع الحلول لها، فالمشكلة في معظمها مادية وليست في أي شيء آخر، لأن الفتيات موجودات، والكثير منهن تتوافر فيهن شروط الزواج من التدين والخلق والأسر الكريمة، إذن الذي ينقص الشباب هو الجانب المادي.

ولعزوف الشباب عن الزواج أسباب ودوافع:

الأول: أن يكون المانع من الزواج الزهد والانقطاع عن الدنيا والإقبال على الآخرة والتعبد لله بذلك، فمن فعل ذلك فقد أخطأ وخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من رهبانية النصارى، ولا رهبانية في الإسلام، وهو من طريقة الصوفية الخارجين عن منهج السنة، وفي الصحيحين قال أنس بن مالك: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (1).

ولا حجة لما يروجه بعض الناس من ذكر العلماء الذين لم يتزوجوا؛ لأن السنة مقدمة على قول كل أحد، ولا حجة في أفعال الناس، ولا تعارض السنة بقول أو فعل أحد، وكل له عذره وظروفه الخاصة به، ونعتذر عنهم ونحسن الظن بهم، وترك الزواج للتخلي للعبادة مسلك أحدث زمن التابعين، وهو مخالف لآثار الصحابة رضي الله عنهم.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها يومًا ولي طول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة (2).

وقال ابن عباس لسعيد بن جبير: تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء (3).

الثاني: أن يكون المانع عن الزواج مرض عضوي أو داء نفسي يمنع من الرغبة في الزواج؛ فهذا معذور في ترك الزواج، لكن ينبغي له أن يسعي في إزالة هذا العائق على حسب استطاعته، لأن الشارع أرشد إلى التداوي وتعاطي العلاج لرفع المرض أو تخفيفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد الهرم» (4).

والأخذ بالأسباب من كمال التوكل على الله، وإذا ترك المرض في الشباب بلا علاج استفحل وكانت نتائجه سيئة في الكبر.

قال ابن الأمير الصنعاني: وفي الحديث الإرشاد إلى التداوي، وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع ذا الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا باستعمال الأسباب التي جعلها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، وفي هذا الإخبار تقوية لنفس المريض وترويح لخاطره، وحث للطبيب على التفتيش والبحث على طلب الدواء، فإن المريض إذا علم أن لدائه دواء قويت طبعته وانبعثت الحرارة الغريزية (5).

الثالث: أن يكون المرء خلق بلا شهوة ولا رغبة في النساء، جبلة من الله، فلا يطرأ عليه هذا الأمر ولا يتوق للنساء مطلقًا؛ فهذا معذور أيضًا، وقد اختلف الفقهاء في حكم الزواج بالنسبة له؛ فذهب بعضهم أنه مستحب لعموم النصوص، وذهب بعضهم أن الأولى في حقه ترك الزواج، والأقرب أن الزواج مباح في حقه، ولا حرج عليه في تركه، ولا يؤاخذ شرعًا؛ لأن مصالح الزواج منتفية في حقه، وقد يمنعه من الاشتغال بما هو أفضل منه.

وهذا العذر قليل في الرجال، ومن ابتلي بذلك ينبغي له أن يقبل على العلوم النافعة والأعمال الصالحة ويشغل فراغه بمعالي الأمور.

الرابع: أن يكون المانع الفقر وقلة ذات اليد، بحيث لا يستطيع دفع تكاليف الزواج من مهر وسكن ونفقة؛ فهذا معذور، وقد أرشد الله عز وجل إلى الصبر والتعفف عن الحرام حتى يصلح الحال، قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيهِمْ اللَّه مِنْ فَضْلِه} [النور: 33].

والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت، وتحصين النفوس، والإسلام نظام متكامل، فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء، فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدًا غير مضطر.

لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32].

وهذا أمر للجماعة بتزويجهم. والجمهور على أن الأمر هنا للندب، ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزوجوا، ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم، ونحن نرى أن الأمر للوجوب، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة، وهو واجب، ووسيلة الواجب واجبة،

وينبغي أن نضع في حسابنا- مع هذا- أن الإسلام- بوصفه نظامًا متكاملًا- يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجًا أساسيًا فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب، وتحصيل الرزق، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال، ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات.. فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله، وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقًا على الدولة واجبًا للأفراد.

أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام.

فإذا وجد في المجتمع الإسلامي- بعد ذلك- أيامى فقراء وفقيرات، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج، فعلى الجماعة أن تزوجهم، وكذلك العبيد والإماء، غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين.

ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقا عن التزويج- متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالًا ونساء- فالرزق بيد الله، وقد تكفل الله بإغنائهم، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: {إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف» (6).

وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} لا يضيق على من يبتغي العفة، وهو يعلم نيته وصلاحه.

وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج ولو كان عاجزا من ناحية المال، والمال هو العقبة الكؤود غالبًا في طريق الإحصان (7).  

وينبغي لمن كانت هذه حاله أن يشتغل بالعبادة من صوم وغيره، كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم لتضعف شهوته ويعظم تعلقه بالآخرة، ليعينه ذلك عن التورع عن تعاطي أسباب الشهوات حتى لا يقع في الفواحش.

وينبغي له أن يبتعد عن المؤثرات التي تهيج شهوته وتزين له الحرام؛ من صحبة الفساق والنظر للحرام والسفر لأماكن الفساد، ويشتغل بما ينفعه من برامج ومناشط مباحة تسليه وتروح عنه وتصرف عنه الحرام.

الخامس: أن بعض الشباب عنده مصدر رزق، ويستطيع منه على ابتداء الزواج؛ ولكن قد يشق عليه تكاليف النفقة، خاصة المسكن في ظروف أزمة السكن، ويتعلل عن ترك الزواج بهذا السبب في الوقت الذي ينفق ماله على الكماليات والسفر؛ فهذا يعيش في وهم وغير صادق مع نفسه، ولو كان صادقًا لأعانه الله كما وعد الله بذلك، كما في سنن الترمذي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف» (8).

فمن صدق في إرادة العفاف أعانه الله على كلفة الزواج، وسخر له الأسباب ويسر له الطرق، فينبغي له أن يعمل بالحزم، ويجاهد نفسه، ويعرض عن اللهو والكماليات، ويدخر قيمة المهر وتكاليف الزواج لبضع سنوات، ثم يقدم ويتوكل على الله، ولا يضيع عمره في الأوهام والأماني، ولذلك قال الإمام أحمد فيمن يمكنه الزواج: ينبغي للرجل أن يتزوج فإن كان عنده ما ينفق أنفق وإن لم يكن عنده صبر (9).

والزواج سبب للغنى قال تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.

وينبغي له أن يحسن التوكل على الله ويعظم الرجاء فيه، قال أبو بكر رضي الله عنه: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: التمسوا الغنى في النكاح (10).

ورزقه ورزق عياله على الله الذي تكفل برزق خلقه، ولذلك زوج النبي صلى الله عليه وسلم الموهوبة من بعض أصحابه لم يقدر على خاتم حديد، وليس له إلا إزار واحد، وقد رضيت بذلك، كما في صحيح البخاري، فإذا وجد الإنسان المرأة القنوع التي ترغب في الستر ولا تتطلع لكثرة المال فليتزوج بها، وسيفتح له أبوب الرزق بإذن الله، ولا يخطب المرأة المتطلعة للمظاهر الكذابة، وتشترط وضع مادي مرتفع، وليكن صريحًا في خطبته مع أسرتها ليكون زواجه على بصيرة ويأمن المشاكل في المستقبل.

وهذا العذر كثير في أحوال الشباب، وينبغي على أعيان المجتمع والمؤسسات المتخصصة وكبار التجار أن يساهموا في حل هذه المشكلة، ويوجدوا حلول جذرية من السعي في تقنين تخفيف المهور وتيسير الأفراح والمساكن والقروض الميسرة للمقبلين على الزواج، وكثير من الشباب من الطبقة المتوسطة يأنف من الدخول في برامج الزواج التي خصصت لطبقة الفقراء، وللأسف لا تزال المشكلة قائمة.

السادس: أن يكون المانع من الزواج العلاقات المحرمة، والسير في طريق الفواحش والعياذ بالله، فترى الرجل ما أظرفه وما أعقله وما أجمله، قدرته المالية حسنة، وليس فيه مانع يمنع من الزواج، فتتسائل ماذا يمنعه من إعفاف نفسه وقد تجاوز الثلاثين، ثم يتبين لك أنه واقع في بحر الرذيلة، فهذا قد سلك سبيل الشيطان، وأضاع شبابه وأفسد ماله وأفنى عمره في لذة عابرة وإثم مكتوب وحسرة دائمة، وحين يبلغ الكبر سيعض أصابع الندم إذا صار عالة على أقاربه، وسيفوته خير كثير، من أعظم النعم نعمة الولد بر في الدنيا وثواب في الآخرة، وقد ذم السلف هذه الحال وحذروا أشد التحذير، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي الزوائد: ما يمنعك عن النكاح إلا عجز أو فجور (11).

وقد ورد التحذير عن مقارفة الزنا وورد الوعيد الشديد وأنه من الكبائر قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].

ومن ترك الزواج بلا عذر وهو يخشى على نفسه الوقوع في الزنا فهو آثم، ومتعرض للوعيد، لأن الزواج في حقه واجب، قال ابن قدامة: والناس في النكاح على ثلاثة أضرب؛ منهم من يخاف على نفسه الوقوع في المحظور، إن ترك النكاح فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام وطريقه النكاح (12).

وقد عظمت فتنة النساء في هذا الزمان، ومما شجع الشباب على هذا السلوك ضعف الإيمان وسهولة الحرام، فيقضي الشاب وطره بلا التزام بأي مسؤولية وغياب الأنظمة الرادعة، وهذه الحال كثيرة الوقوع عند الشباب هداهم الله وردهم إلى ساحة الفضيلة وسترهم الله بستره.

السابع: أن يكون المانع رغبته في الحرية وتخليه عن المسؤولية بلا عذر معتبر، بحيث يريد أن يكون حرًا في حله وترحاله طيلة حياته لا يرتبط بزوجة ولا ولد، وليس مطالب بأي واجب مالي أو اجتماعي، يقضي وقته بين العمل والأنس والراحة مع الأصحاب في الاستراحات والرحلات والسفريات، وربما تظاهر ببعض الأعذار الواهية المختلقة؛ فهذه حال مذمومة، ووالله إنها لحياة البطالين بلا فائدة ولا هدف، وعدم الشعور بالمسؤولية، وضعف في البصيرة، ومظنة للتهمة ونقد المجتمع، وإن سلم من الوقوع في الحرام إلا إنها حياة تافهة ومخالفة للفطرة السوية والسنة الصحيحة وأقوال الصحابة ومقاصد الشريعة، ومهما اشتغل بوسائل اللهو والترفيه فلن يجد الراحة والطمأنينة والسعادة النفسية إلا بالزواج الذي وصفه الله بالسكن والمودة والرحمة، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].

وسيندم كثيرًا حين يتفرق عنه الأصحاب ويفقد الأحباب وتقتله الوحدة في مشيبه، ويحرم الولد وينقطع ذكره ويكون عالة حال كبره وضعفه، وقال عمر رضي الله عنه: إني لأقشعر من الشاب ليست له امرأة، ولو أعلم أنه ليس عيش من الدنيا إلا ثلاثة أيام لأحببت أن أتزوج فيهن (13).

وقال عمرو بن دينار: أراد عبد الله بن عمر ألا يتزوج بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت حفصة: أي أخي تزوج فإن ولد لك فمات كان لك فرطًا، وإن بقي دعا لك بخير (14).

الثامن: أن يكون المانع من الزواج أفكار تسيطر على ثقافة الشاب، كأن يقول لن أتزوج حتى أكوّن ثروة، أو حتى أنال منصب مرموق وأحقق لي مكانة، أو لا بد من تكوين علاقة حب بشريكة حياتي قبل الزواج ليكون الزواج ناجحًا، أو يشترط شروط تعجيزية في الزوجة، أو يغلب عليه سوء الظن ببنات المسلمين، ويعتقد صعوبة وجود العفيفة، أو خوفًا من الوقوع في مشاكل، أو الوقوع في الفقر، ونحو هذه من العوائق، وكل هذه الأفكار مجرد أوهام من تلبيس الشيطان لا تنسجم مع روح الإسلام، وهي دخيلة علينا، ومخاطرة وسير في طريق غير مضمون، والعمر يمضي وتفوت الفرص، وكم وكم من نادم على فوات الشباب وضياع السنين، وحين يستيقظ الشاب فلن يجد غالبًا فتاة مميزة تقبل به، وسيضطر للقبول بأي امرأة ليلحق بالركب، وقد لا يستيقظ فتكون النتيجة بائسة، ولو استمع لصوت العقل والتجربة من والديه لأفلح وكان النجاح حليفه.

أما من كانت لديه ظروف حقيقية تمنع من الزواج وهو عازم عليه عند زوالها؛ كطبيعة عمله أو ابتعاثه للدراسة أو كثرة سفره للتجارة، أو انشغاله بعلاج والديه، ونحو ذلك من الظروف الشاغلة؛ فهذا معذور لأنه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وعليه يحمل تأخير بعض أئمة السنة تأخير الزواج لانشغالهم بالرحلة في طلب الحديث.

وينبغي للوالد والأسرة أن يحثوا ابنهم الشاب على الزواج في مقتبل شبابه، ويعينوه على تكاليف الزواج المادية والمعنوية على حسب استطاعتهم، وإن كان الولد فقيرًا محتاجًا للزواج والوالد غنيًا وجب عليه شرعًا التكفل بتزويج ولده، لأن الإعفاف من جنس الحوائج الضرورية كالطعام واللباس والسكنى، قال ابن قدامة: على الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه نفقته وكان محتاجًا إلى إعفافه (15).

وتزويج الوالد لولده من أعظم القربات لأنه نفع متعدي وإعفاف عن الحرام وتكوين أسرة مسلمة وتفريج هم عظيم على الولد، وإدخال سرور على الزوجين.

وإذا ترك الشاب بلا زواج في مقتبل عمره حتى يكبر ويقارب الأربعين صعب غالبًا إقناعه بالزواج، وانصرفت همته عن الزواج، وتكاسل عن حمل المسؤولية (16).

التاسع: تجارب سابقة:

قد يؤدي عدم النجاح في العلاقات طويلة الأمد كزواج سابق أو علاقة امتدت لسنوات وانتهت؛ إلى جعل الشخص المنفصل لا يُفكّر في الارتباط مرة أخرى، إذ يصبح مفهوم الزواج بما يحمله من شراكة أبدية غير محبّب بالنسبة له، كما أنّ هناك أشخاصًا شهدوا الكثير من العلاقات الزوجية الفاشلة حولهم، مما جعلهم ينظرون إلى الزواج كأمر منفر.

العاشر: معدلات الطلاق المرتفعة: تُعاني معظم البلدان من معدلات طلاق مرتفعة، وهو ما يجعل الشخص أكثر خوفًا من الإقدام على فكرة الزواج، ذلك لما يترتب على الطلاق من آثار نفسية سيئة خصوصًا عند وجود الأطفال، إلى جانب ما يترتب على الطلاق من تبعات مالية بالنسبة للطبقة المتوسطة العاملة تحديدًا.

الحادي عشر: الشعور بأن الزواج قيد: هناك انطباعات كثيرة مسبقة تأتي عند الإقبال على الزواج قد تجعل البعض يميل إلى عدم الرغبة في الارتباط، ومن هذه الصور النمطية الشائعة في الكثير من الثقافات أنّ الزواج يقيد الحريات.

لم يكن الزواج يومًا قط عائقًا عن الإنجاز، بل غالبًا ما يكون حافزًا ومشجعًا، وإنما تلك وسوسة شيطان، أوحاها إلى أذهان كثير من الشباب حتى غَدَت ثقافةً وعادةً في مجتمعاتنا، فأصبَحتَ تَسمَعُ الكثير ممن يؤخر زواجه أو زواج ابنه أو ابنته بمثل هذه الدعاوى، وصارت مجتمعاتنا مثقلة بآفات العزوبة والعنوسة وتأخر سن الزواج، ومع ذلك لا نجد الإنجاز ولا التطور ولا التقدم، في حين أن الجيل الأول من المسلمين كانوا يعجلون في الخير ولا يؤخرون الزواج، وكانت إنجازاتهم أعظم الإنجازات وأتمها.

يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: الواجب البدار بالزواج، ولا ينبغي أن يتأخر الشاب عن الزواج من أجل الدراسة، ولا ينبغي أن تتأخر الفتاة عن الزواج للدراسة، فالزواج لا يمنع شيئًا من ذلك، ففي الإمكان أن يتزوج الشاب، ويحفظ دينه وخلقه ويغض بصره، والزواج فيه مصالح كثيرة، ولا سيما في هذا العصر، ولما في تأخيره من الضرر على الفتاة وعلى الشاب، فالواجب على كل شاب وعلى كل فتاة البدار بالزواج إذا تيسر الخاطب الكفء للمرأة، وإذا تيسرت المخطوبة الطيبة للشاب (17).

كيف لو علمت أنك بزواجك تحفظ نصف دينك؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني» (18).

وكيف إذا علمت أنك بزواجك تمتثل وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (19).

وكيف لو علمت أن لك في ولدك الصالح صدقة جارية، حين تربيه على الخلق والإيمان، وأنك تؤجر على زواجك إذا احتسبته عند الله تعالى.

وأنك بزواجك تحفظ نفسك، وتغض بصرك، وتسد عليك بابًا من أعظم أبواب الشيطان التي يغوي بها الناس، وقد لا تكون تشعر بخطره الآن، ولكن الفتنة تأتي من حيث لا يعلم الإنسان، فلا بد أن يحرص على غلق الأبواب قبل أن تفتح وهو لا يشعر.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء» (20).

إن الزواج راحة وطمأنينة وسكينة، وهو خير متاع الدنيا، وفيه من ذلك ما جعله الله آية للناس، وذكره في كتابه ليتفكروا ويتأملوا عظيم قدرته سبحانه فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].

----------

(1) أخرجه البخاري (5063).

(2) سنن سعيد بن منصور (1/ 164).

(3) شرح السنة للبغوي (9/ 6).

(4) أخرجه أبو داود (3855).

(5) كتاب التنوير شرح الجامع الصغير (ص: 279).

(6) أخرجه الترمذي (1655).

(7) في ظلال القرآن (4/ 2515).

(8) تقدم تخريجه.

(9) ظاهرة عزوف الشباب عن الزواج/ صيد الفوائد.

(10) تفسير ابن كثير (6/ 51).

(11) سنن سعيد بن منصور (1/ 164).

(12) منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/ 92).

(13) جامع الأحاديث (26/ 489)، بترقيم الشاملة آليًا.

(14) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (6/ 172).

(15) المغني لابن قدامة (8/ 217).

(16) ظاهرة عزوف الشباب عن الزواج/ صيد الفوائد.

(17) مجموع الفتاوى (20/ 421).

(18) أخرجه الحاكم (2681).

(19) أخرجه البخاري (5065)، ومسلم (1400).

(20) أخرجه مسلم (2741).