مفهوم حقوق المرأة
الهجمة الفكرية الغربية من خلال الإعلام والمناهج في بلاد المسلمين سهلت الصعب، وهيأت الأمر في استغلال المرأة لهدم أفكار وأحكام الإسلام، والعجيب أن المرأة المسلمة صدقت كذبهم وتزييفهم، ولم تنتبه لأفكارهم المسمومة وأيديهم الخبيثة، فانخدعت بدموع التماسيح التي تباكوا بها على المرأة المسلمة وأوضاعها وأحوالها، لم يتباكوا على المرأة البوسنية وما تعرضت له على أيدي الجيوش الروسية اللعينة، ولم يتباكوا على المرأة العراقية وما أصابها من تعذيب وقتل واغتصاب على أيدي الجيوش الأمريكية اللعينة، ولم يتباكوا على حال المرأة الفلسطينية وما نالها من أيدي إخوان القردة والخنازير وما زالت.
إن ما يشغل هؤلاء التماسيح هو كيف يفسدون المجتمع الإسلامي من خلال تدمير المرأة المسلمة، الدرع الحصينة، والمدرسة العظيمة، والأم المربية الأمينة، فاستغلوا طائفة ممن أعجبن بالحضارة الغربية، وخدعتهم المدنية المزيفة، وانبهرن بأوضاع ظاهرها جميل وباطنها خبيث دنيء، استغلوهن أسوأ استغلال، وخدعوهن بأنهن المتحررات من الأوضاع القديمة، وأنهن المتنورات، وهن طلائع النهضة، وأمل الحضارة المعاصرة، حتى إذا ما أشربن في قلوبهن ذلك، فصرن أبواقًا تتحدث بألسنتهم، وعقولًا تفكر بعقلية المحتل الغاصب، فسهل عليهم سلخهن من الدين والعفة والحياء، وتجريدهن من كل فضيلة وخلق، وأفسحوا المجال لهن في ميادين السفالة والإعلام المجرم القذر، تتباهي فيه المخدوعة بلبسها وعقلها وفكرها، وما هي إلا مسخ مشوه من أفكار أعدائها، وسيناريوا وضع لها لا تملك إلا أن تنفيذ ما يملى عليها، تحررت من دينها لتكون أسيرة لأفكارهم الخبيثة، وعبدة ذليلة لأهوائهم الدنيئة.
يقول المبشر زويمر: ليس الغرض من التبشير التنصير فقط؛ ولكن تفريغ قلب المسلم من الإيمان، وإن أقصر طريق لذلك هو اجتذاب الفتاة المسلمة بكل الوسائل الممكنة، لأنها هي التي تتولى عنا تحويل المجتمع الإسلامي وسلخه عن مقومات دينه.
ويكشف د. هنري ماكو وهو أستاذ جامعي وباحث متخصص في الشؤون النسوية زيف ادعاءات تحرير المرأة ويصفها بالخدعة إذ يقول: تحرير المرأة خدعة من خدع النظام العالمي الجديد، خدعة قاسية أغوت النساء الأميركيات وخربت الحضارة الغربية (1).
فهل تدرك المسلمة هذا؟ وهل تدرك عظمة الدين الذي فرض لها من الحقوق ما عجزت عنها كل الحركات النسوية والدساتير الأرضية، بل وحتى المنظمات الدولية، الجميع وقف ذليلًا أمام عظمة الإسلام وما أعطاه للمرأة من حقوق، فلم يكن لهم بد من العواء كالكلاب الضالة التي ينبذها الجميع، فلا رأفة لهم ولا شفقة عليهم لدناءتهم وخبث طويتهم.
لقد جاء الإسلام ليرفع شأن الإنسان بصفة عامة والمرأة بصفة خاصة، فالمرأة في الإسلام أمًا لها حقوق، وزوجة لها حقوق أخرى، وأختًا لها حقوق وبنتًا لها حقوق، كل ذلك ليرفع شأنها ويعلي قدرها.
جاء في القرآن الكريم سورة سميت بسورة النساء، وسورة سميت بامرأة- سورة مريم- وسورة خاصة بحكم من أحكام النساء- سورة الطلاق- وسورة التحريم – وذكر القرآن من النساء بأسمائهن امرأة عمران، وامرأة فرعون، وامرأة نوح وامرأة لوط وامرأة العزيز، وذكر السيدة مريم باسمها في القرآن أربعة وعشرين مرة، وذكر غيرها بدون ذكر الاسم، كملكة سبأ.
من المفاهيم التي جرى عليها التحريف الآثم في هذا العصر مفهوم حقوق المرأة، حيث لم يزل خصوم الإسلام يستخدمون هذه القضية لتشويه صورة الإسلام المشرقة والتنفير منه، وتشويه تعاليمه، مستغلين فترة الضعف التي يمر بها المسلمون، فقاموا بحملات تشويهية ومضللة كبيرة، حتى أوهموا ضعاف المسلمين بأن تعاليم الإسلام تتضمن التمييز ضد المرأة، وأن على النخبة في المجتمعات المسلمة محاربة ذلك، والتصدي لأشكال العنف ضد المرأة، فكانوا كما قيل: رمتني بدائها وانسلت، ولو سلطنا الضوء على المرأة في الجاهلية القديمة والمعاصرة لانكشفت الحقيقة، وتبين سمو الإسلام على كل الحضارات عمومًا وفي مسألة المرأة خصوصًا.
وليس ضربًا من المبالغة أن نقول إن حقوق المرأة لم تشهد أزهى ولا أرقى من العصر النبوي وما تلاه من القرون المفضلة كنموذج تطبيقي واقعي، ويكفي لإثبات ذلك أن نعقد مقارنة يسيرة كيف تعرضت حقوق المرأة للابتزاز في الجاهليتين القديمة والمعاصرة، وبضدها تتبين الأشياء.
فالمرأة في الجاهليتين عرضة للابتزاز والمطامع والاحتقار بكل الطرق المباشرة وغير المباشرة، وفي الجاهلية الأولى بصورة أكثر وضوحًا من خلال معاملات كثيرة متعلقة بشخصها، ووجودها، وميراثها، ومكانتها.
أما عن مفهوم حقوق المرأة فلها الجانب الأكبر في الشريعة الإسلامية، وإليك جانبًا من هذه الحقوق التي تفردت بها الشريعة الإسلامية عن غيرها.
المرأة أمًا:
إن أعظم الناس حقًا على الرجل أُمه، فللأم في الشريعة الإسلامية مكانة عليا لا تضاهيها أي مكانة، فقد أمر الله تعالى بالإحسان إليها، وجعل ذلك مقرونًا بأمر عظيم وهو التوحيد، قال تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، لذلك فقدْرُها مصان، وكريمةٌ غاية التكريم، فهي إنسانة تُضحي وتربي، وتسهر على عيالها، وتحرم نفسها الخير كله وتهبُه لأبنائها، وعرفانًا بكريم عطائها، فقد كرمتها السيرة النبوية كثيرًا، والأحاديث في ذلك كثيرة، من ذلك مثلًا: عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أبوك» (2).
ولقد كان لها هذا بما ذكر من مزيد تعبها، وضعف جانبها، ورقة عاطفتها، وشدة حاجتها، فكان هذا الترجيح لجانبها من عدل الحكيم العليم ومحاسن الشرع الكريم (3).
قال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23- 24].
الأمر بالإحسان إليهما عام في جميع الأحوال، وخصصت حالة بلوغ أحدهما أو كليهما الكبر بالذكر، لأنها حالة الضعف وشدة الحاجة، ومظنة الملل والضجر منهما، وضيق الصدر من تصرفاتهما، فهما في هذه الحالة قد عادا في نهايتهما إلى ما كان ولدهما عليه في بدايته، وليس عنده من فطرة المحبة مثل ما عندهما، فكان بأشد الحاجة إلى التذكير بما عليه من تمام العناية بهما، ومزيد الرعاية لهما، وشدة التوقي والتحفظ من كل ما يمس بسوء جانبهما في هاته الحال على الخصوص، وإن كان ذلك واجبًا عليه في كل حال على العموم.
وطول بقائهما عنده في كنفه وثقل مؤونتهما عليه، وما يكون من ضرورات الكبر والمرض مما يستقذره في بيته، كل هذا قد يؤديه إلى الضجر والتبرم، فيقول ما يدل على ضجره وتبرمه.
فنهي عن التفوه بأقل كلمة تدل على ذلك وهي كلمة أف بقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}، فأحرى وأولى ما فوقها؛ وهذا أمر بتحمل كل ذلك منهما، ونهي عن التضجر منهما.
ومن ضرورة مباينتهما لولدهما في السن وفي النشأة أنهما كثيرًا ما يخالفانه في آرائه وأفكاره، وقد يتناولان ما لا يحب أن تصل يدهما إليه، وقد يسألانه للمعرفة أو للحاجة، وكل هذا قد يؤديه إلى نهرهما، أي زجرهما بصياح وإغلاظ، أو إظهار للغضب في الصوت واللفظ، فنهى عن هذا بقوله تعالى: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا}، وفي هذا أمر له بالتلطف معهما في الطلب والعرض، والدلالة على وجه الصواب في الأمر وأبواب الفعل والترك، وبحسن التلقي لكل ما يسألان ويطلبان، ونهى عن أي إغلاظ في اللفظ والصوت وحالة الكلام.
ولما نهاه عن القول القبيح المؤذي أمره بالقول اللين السهل الحسن في لفظه وفي معناه، وفي قصده وفي منشئه، السالم من كل عيب ومكروه بقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}، وفي هذا أمر بأن يخاطبهما بجميل القول، ويؤنسهما بطيب الحديث، ونهى عن أن يؤذيها في قول، أو يوحشهما بطول السكوت، فليس له أن يتركهما وشأنهما؛ بل عليه مجالستهما ومحادثتهما، وجلب الأنس إِليهما، وإدخال السرور عليهما.
ثم إن القول إنما هو عنوان ما في الضمير، ولا يكون كريمًا شريفًا إلا إذا كان عنوانًا صادقًا، حسن مظهره ومخبره، وعذب جناه، وطاب مغرسه، وما ثماره إلا معانيه وما مغرسه إلا القلب الذي صدر عنه.
فيفيد هذا أن على الولد أن يكون معهما باللطف والعطف من صميم قلبه، كما يعرب لها بلسانه، فيكون محسنًا لهما حينئذ في ظاهره وباطنه، وذلك هو تمام البر الذي أمر به.
وقوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} مضى فيما تقدم أدب القول، وهذا أدب الفعل، وبيان الحال التي يكون عليها: فالوالدان عند ولدهما في كنفه كالفراخ الضعيفة المحتاجة للقوت والدفء والراحة، وولدهما يقوم لهما بالسعي، كما يسعى الطائر لفراخه، ويحيطهما بحنوه وعطفه كما يحيط الطائر فراخه، فشبه الولد في سعيه وحنوه وعطفه على والديه بالطائر في ذلك كله على فراخه، وحذف المشبه به، وأشير إليه بلازمه وهو خفض الجناح، لأن الطائر هو ذو الجناح، وإنما يخفض جناحه حنوًا وعطفًا وحياطة لفراخه، فيكون في الكلام استعارة بالكناية، وأضيف الجناح إلى الذل- وهو الهون واللين- إضافة موصوف إلى صفة: أي اخفض لهما جناحك الذليل، وهذا ليفيد هونه وانكساره عند حياطتها، حتى يشعر بأنهما مخدومان باستحقاق، لا متفضل عليهما بالإحسان.
الأمر بأن يكون ذلك الخفض ناشئًا عن الرحمة الثابتة في النفس، لا عن مجرد استعمال ظاهر، كما كانا يكنفانه ويعطفان عليه عن رحمة قلبية صادقة، فيكون هذا مفيدًا ومؤكدًا لما قدمناه، من لزوم أن يتطابق على الإحسان إليهما الظاهر والباطن، ليتم البرور.
والكاف في قوله تعالى: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} للتعليل أي رب ارحمهما لتربيتهما لي، وجزاء على إحسانهما إليّ في حالة الصغر؛ حالة الضعف والافتقار، وفي هذا اعتراف بالجميل، وإعلان لسابق إحسانهما العظيم، وتوسل إلى الله تعالى في قبول دعائه لهما بما قدما من عمل؛ لأنه وعد أنه يجزي العاملين، وقد كانت تربيتهما لولدهما من أجل مظاهر الرحمة (4).
المرأة زوجًا:
وكرم الإسلام المرأة زوجةً، فأوصى بها الأزواج خيرًا، وأمر بالإحسان في عشرتها، وأخبر أن لها من الحق مثل ما للزوج إلا أنه يزيد عليها درجة، لمسئوليته في الإنفاق والقيام على شئون الأسرة، وبين أن خير المسلمين أفضلُهم تعاملًا مع زوجته، وحرم أخذ مالها بغير رضاها، ومن ذلك قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (5)، وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يتودد إليها بذلك.
ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها.
وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم (6).
وقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228].
أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت في صحيح مسلم، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته، في حجة الوداع: «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (7).
قال القرطبي: أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة، فيما أوجبه عليهن لأزواجهن (8).
فقوله تعالى: {وَلَهنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} هذا هو القانون العادل الشامل، نطق به القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنًا، وقد شرعه الإسلام في وقت لم يعترف أي قانون من قوانين العالم بأن للمرأة أي حق من الحقوق، وفرضت عليها القوانين في العصور الغابرة كل الواجبات، فجاء الإسلام ووضع تلك القاعدة العادلة، وهي أن الحقوق يجب أن تكون متكافئة مع الواجبات، فما على الإنسان من واجبات يكافئ ما له من حقوق، وما من حق إلا تعلق به واجب، فإذا كان للرجل سلطان في البيت وعلى المرأة واجب الطاعة، فلها حق، وهو العدل، وإذا كانت المرأة قارة في البيت قائمة بشئونه، وفرض عليها ذلك الواجب فلها حق الإنفاق، وإذا كان عليها أن تعد البيت إعدادًا حسنًا بمقتضى العرف فلها حق المهر، وإذا كان عليها أن تؤنس زوجها، فعليه ألا يوحشها، وقد أدرك ذلك المعنى الجليل، وهو التساوي بين الحقوق والواجبات الصحابة الأولون، حتى أن ابن عباس كان يقول: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي.
وإن التساوي بين الحقوق والواجبات ليس مقصورًا على ما بين الرجل والمرأة، بل إنه قانون شامل سنه الإسلام وأيده العقل، وبه يقوم العدل، فقد جعل الواجب على المرء بمقدار ما له من حق.
وليس معنى أن الواجبات على المرأة مساوية للحقوق التي لها على الرجل أن المرأة مساوية للرجل من كل الوجوه، فإن الإسلام قرر فقط تساوي الحقوق والواجبات، بالنسبة لها وليس لذلك علاقة بشأن المساواة بينها وبين الرجل في نوع الحقوق والواجبات، ولكي لَا يفهم أحد هذا المعنى قال الله سبحانه وتعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فالرجل ليس مساويًا للمرأة، وليست المرأة مساوية الرجل؛ لأن قانون المساواة يوجب أولًا تحقق المماثلة، ومن البداهة أنه لَا مماثلة بينهما، فهما وإن كانا من جنس واحد إلا أنهما نوعان متقابلان غير متماثلين، وإن كان كلاهما متممًا للآخر، ومن ازدواجهما يتكامل النوع الإنساني، ويسير في مدارج الكمال.
وإذا كانت الأسرة لَا تتكون إلا من ازدواج هذين العنصرين، فلا بد أن يشرف على تهذيب الأسرة، ويقوم على تربية ناشئتها وتوزيع الحقوق والواجبات فيها أحد العنصرين، وقد نظر الإسلام إلى هذا الأمر نظرة عادلة؛ فوجد الرجل أملك لزمام نفسه، وأقدر على ضبط حسه، ووجده الذي أقام البيت بماله، وأن انهياره خراب عليه، فجعل له الرياسة؛ ولذا قال سبحانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.
هذه هي الدرجة التي جعلها الإسلام للرجل، وهي درجة تجعل له حقوقًا، وتجعل عليه واجبات أكثر، فهي موائمة كل المواءمة لصدر النص الكريم، فإذا كان للرجل فضل درجة، فعليه فضل واجب.
ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قيد المماثلة بين حقوق المرأة وواجباتها بالمعروف، كما قيدها بما للرجال من درجة تضاعف واجباتهم، والتقييد بالمعروف معناه التقييد بالأمر الذي لَا تستنكره العقول، بل تقره وترضاه، ويتعارفه العقلاء، فلا يطالب الرجل بخدمة البيت كما تطالب بها المرأة.
فعلى المرأة أن تقوم بواجباتها، وتطالب بحقوقها بالنسبة لنفسها ولأولادها في دائرة العقل، والعرف المستمد من قضايا الحق والعدل، وإلف العقول والفضلاء؛ لأنه لَا يستقيم أمر الأسرة بغير ذلك التقييد العادل، وذلك التوزيع الحكيم (9).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيرًا» (10).
فقد أخبرنا القرآن أن المرأة في ذاكرة الرجل الجاهلي مصدر قلق وريبة، وبمجرد سماعه لولادتها ينتابه الحزن والأسى، ويصور القرآن مشهده كما في قوله تعالى: {إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)} [النحل: 58، 59]، وهذا عنوان كاف لتوضيح مكانة المرأة في ذهن العربي قبل أن يكون مسلمًا.
أما بعد أن صبغ بصبغة الإسلام، فالمرأة خَلق إنساني مكرم، وهي حجاب له من النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ابتلي بشيء من البنات فصبر عليهن كن له حجابًا من النار» (11)، ورعايتها والقيام على تربيتها قربة توصله للجنة، ورحم ينال بصلتها صلة الله، وبسط الرزق، وطول العمر، وطيب الذكر والأثر، فالأنثى في ذاكرة المسلم هبة الله له، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، وبدأ بها تكريمًا لها، وإمعانًا في إزالة رواسب الجاهلية الأولى.
ومن جانب آخر من جوانب الجاهلية القديمة يرون المرأة ليست كفؤا للرجل ولا شريكًا في الحياة بحيث يشاورها ويأخذ رأيها، فجاء الإسلام لينقل العقل العربي تمامًا من النظرة الدونية للمرأة إلى أنها مكافأة للرجل، ومماثلة له، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما النساء شقائق الرجال» (12).
قال الخطابي في معالم السنن: أي نظائرهم، وأمثالهم في الخلق، والطباع فكأنهن شققن من الرجال (13).
وقد انعكست النظرة الجاهلية للمرأة على كثير من الأحكام والتشريعات الجائرة عليها كحرمانها من الميراث، بل وجعلها من ضمن متاع الرجل الذي يورث، ويمارس عليها العضل في الزواج، وقصد الإضرار في الطلاق والرجعة، فجاء الإسلام بثورة تشريعية في وجه الجاهلية العمياء المستعبدة للمرأة، ورفع عن المرأة الأغلال والقيود الظالمة لينقلها إلى رحابه الواسعة، وأحكامه العادلة المعقولة.
عن أم سلمة قالت: جاءت امرأة إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشكت عينها أفنَكحلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا» مرَّتينِ أو ثلاثًا كل ذلك يقول لا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأسِ الحول»، قال حميد فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرةِ على رأسِ الحولِ؟ فقالت: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشًا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبًا ولا شيئًا حتى تمر بِها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره (14).
والمعنى: أنها كانت تبقى سنة كاملة مبتعدة عن الزينة، لا تلبس إلا أردأ ثيابها، وتجلس في أسوأ مكان في البيت، فإذا انقضت سنة من وفاة زوجها ترصدت كلبًا يمر بها، فرمت ببعرة -وهي مخلفات البهائم بعد أن تيبس وتجف-؛ لتعلن أن إحداد سنة على زوجها أهون عليها من رمي تلك البعرة، ثم تخرج من إحدادها.
فأين هذا من أحكام العدة العادلة في الإسلام التي تحمل رسالة التكريم والوفاء وحسن العهد وحفظ الأنساب، من غير إضرار بالمرأة أو مبالغة في حق الزوج؟ بينما العدة في الجاهلية بزمانها ومكانها تتضمن معاني الاحتقار والإهانة.
وعلى الطرف الآخر لو نظرنا نظرة إجمالية إلى المرأة في الجاهلية المعاصرة ستغرينا المظاهر والشكليات، وظهور المرأة في مظهر الزهو الفارغ، وتحولت تلك المظاهر الخادعة إلى حجاب مانع عن رؤية الحقيقة البائسة للمرأة في هذه الحضارة الزائفة التي وصفها أحد عقلاء الغرب حين قال: هي عبارة عن غطاء جميل لحالة من البؤس والشقاء، فالجاهلية اليوم تستعبد المرأة وتسترقها بأساليب مختلفة، وشعارات براقة، وإن شئت الحقيقة فاعكس تلك الكلمات والشعارات فذلك هو الواقع تمامًا.
وإذا ما جئت تقارن هذا الواقع بمكانة المرأة في الإسلام ستجد من أول وهلة أنه لا وجه للمقارنة، بل إن المرأة في الذاكرة الإسلامية أعلى وأسمى من هذا التوظيف الساخر، والاستخدام المهين، فالمرأة محور اهتمام في كل المراحل والحالات، صغيرة وكبيرة، ومتزوجة وأرملة، ولها الحقوق المادية والمعنوية من الرعاية والحماية، فجعل لها وليًا يحميها من المجرمين والبطالين، فهو محْرَمُها وحرَمُها سفرًا وحضرًا، يتولى حماية حقوقها، والإشراف على خياراتها في الزواج، ومع أهمية الولي للمرأة يرفض الإسلام من الأولياء التعسف في ممارسة الولاية بأي شكل من الأشكال، فأمرهم بكل ما فيه مصلحة، ونهاهم عن العضل، وجعل لها حق التقاضي لإنصافها ورفع الظلم عنها، ومنحها حق التعليم وحق التملك، ولها ذمة مالية مستقلة، فهي نصف المجتمع؛ بل وتزيد حسب الإحصائيات التي تشير إلى كثرة عدد الإناث في أكثر المجتمعات، فإذا فرطنا فيها فقد فرطنا بأغلبية المجتمع، وهي عنصر فاعل في تربية بقية أفراد المجتمع الآخر.
ومع ذلك تبقى المرأة في كثير من المجتمعات المسلمة محط احترام وتقدير، وتتمتع بقدر كبير من الحقوق المادية والمعنوية، رغم كل التشويش والمغالطات التي تشوه بها مكانة المرأة عند المسلمين مما جعل البعض يصدق فعلًا أن المسلمين يستعبدون نساءهم وأنهم بحاجة إلى تحرير المرأة من قيود القوامة والولاية والمحرم والحجاب والفصل بين الجنسين، وعمل معهم بعض المنافقين على محاربة ذلك عبر الإعلام المنفلت، والتشريعات الجائرة، وها هي التجربة البائسة التي مرت عليها عقود متطاولة لم تثمر إلا التمرد على القيم، والتفكك الأسري، والخيانات، والفواحش، وهدم بنيان العائلة الممتدة، وضياع الجيل، وفقدان الهوية، والتيه في صحراء الشهوات، وبحار الملذات.
فهل آن الأوان للمسلمين أن ينصفوا أنفسهم وتراثهم، ويقارنوا بين تعاليم الإسلام المتعلقة بالمرأة وتطبيقاتها في القرون المفضلة، وبين طيش الجاهلية وانفلاتها، وما أفرزته من نموذج للمرأة التي لا هم لها إلا إغراء غرائز الرجال بمفاتنها، حتى ولو كانت عاملة أو موظفة فلا بد أن تتمتع بمظهر جاذب للرجال كجزء من متطلبات قبولها في تلك الوظيفة، فإذا ترهل جمالها لم يعد لها أي قبول في ذلك المجتمع الباحث عن الجسد الفاتن، فأي احتقار وامتهان أعظم من ذلك.
لذا لكل امرأة تريد أن تتحرر وتعلي من شأنها وتثبت نفسها أقول: ثوري ولكن ثوري بعقل وذكاء وليس بهوس وانخداع، ثوري على أغلال المفاهيم المغلوطة عنكِ والأدوار المستحدثة التي أُنيطت بكِ وسلختك من دورك الأساسي.
تحرري من سراديب الموضة ومزاعم التحرر واعلمي أن حريتك تنتهي عندما تصبحين أسيرة صور ومفاهيم وموضة تُرسم لكِ وتُحاك وتُعلّب وما أنتِ إلا أنسب من يلبسها ويتلقّفها.
كوني حرة في انتقاء من الموضة ما يحاكي واقع الكيان؛ كيان العقل والروح والجسد، كيان قائم على العفّة والحياء والحكمة والفكر، والحرية التامة في إطار العبودية لله (15).
إنَّ الإسلام يحمي أنوثة المرأة من أنياب المفترسين من ناحية، ويحفظ عليها حياءها وعفافها بالبعد عن عوامل الانحراف والتضليل من ناحية ثانية، ويصونُ عرضها من ألسنة المفترين والمرجفين من ناحية ثالثة، وهو- مع هذا كله- يحافِظُ على نفسها وأعصابها من التوتر والقلق، ومن الهزّات والاضطرابات، نتيجة لجموح الخيال، وانشغال القلب، وتوزع عواطفه بين شتى المثيرات والمهيّجات وهو أيضًا -بهذا الأحكام والتشريعات- يحمي الرجل من عوامل الانحراف والقلق، ويحمي المجتمع كلّه من عوامل السقوط والانحلال.
-------------
(1) الاختلاط بين الرجال والنساء (1/ 192).
(2) أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (2548).
(3) تفسير ابن باديس (ص: 68).
(4) تفسير ابن باديس (ص: 69- 71).
(5) أخرجه الترمذي (3895).
(6) تفسير ابن كثير (2/ 242).
(7) تفسير ابن كثير (1/ 609)، والحديث أخرجه أحمد (20695).
(8) تفسير القرطبي (3/ 124).
(9) زهرة التفاسير (2/ 769).
(10) أخرجه البخاري (3331)، ومسلم (1468).
(11) أخرجه الترمذي (1913).
(12) أخرجه أبو داود (236).
(13) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 139).
(14) أخرجه أبو داود (2299).
(15) المرأة المسلمة حرية في عبودية الله/ الجزيرة نت.