logo

المرأة والهاتف


بتاريخ : الأربعاء ، 18 جمادى الأول ، 1438 الموافق 15 فبراير 2017
بقلم : تيار الاصلاح
المرأة والهاتف

قال تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32].

قال ابن كثير: «قال السدي وغيره: يعني بذلك ترقيقَ الكلام إذا خاطبن الرجال؛ ولهذا قال: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}؛ أي: دغل، {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}: قال ابن زيد: قولًا حسنًا جميلًا معروفًا في الخير.

ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم؛ أي: لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها»(1).

ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال، ويحرك غرائزهم، ويُطْمِع مرضى القلوب ويهيج رغائبهم! ومَن هُن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير؟ إنهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين، اللواتي لا يطمع فيهن طامع، ولا يرف عليهن خاطر مريض، فيما يبدو للعقل أول مرة، وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جميع الإعصار.

ولكن الله، الذي خلق الرجال والنساء، يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول وتترقق في اللفظ ما يثير الطمع في قلوب، ويهيج الفتنة في قلوب، وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد، وفي كل بيئة، وتجاه كل امرأة، ولو كانت هي زوج النبي الكريم وأم المؤمنين، وأنه لا طهارة من الدنس، ولا تخلص من الرجس حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس.

فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش اليوم فيه، في عصرنا المريض الدنس الهابط، الذي تهيج فيه الفتن، وتثور فيه الشهوات، وترف فيه الأطماع؟ كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة، ويهيج الشهوة، وينبه الغريزة، ويوقظ السعار الجنسي المحموم؟ كيف بنا في هذا المجتمع، في هذا العصر، في هذا الجو، ونساء يتخنثن في نبراتهن، ويتميعن في أصواتهن، ويجمعن كل فتنة الأنثى، وكل هتاف الجنس، وكل سعار الشهوة، ثم يطلقنه في نبرات ونغمات؟! وأين هن من الطهارة؟ وكيف يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوث، وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن ذلك الرجس الذي يريد الله أن يذهبه عن عباده المختارين؟!

{وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} نهاهن من قبل عن النبرة اللينة واللهجة الخاضعة، وأمرهن في هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة، فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث، فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء، ولا هذر ولا هزل، ولا دعابة ولا مزاح؛ كي لا يكون مدخلًا إلى شيء آخر وراءه من قريب أو من بعيد.

والله سبحانه، الخالق العليم بخلقه وطبيعة تكوينهم، هو الذي يقول هذا الكلام لأمهات المؤمنين الطاهرات؛ كي يراعينه في خطاب أهل زمانهن خير الأزمنة على الإطلاق(2).

إن خلاصة ما قاله الفقهاء في صوت المرأة أنه ليس بعورة بذاته، ولا تمنع من إسماعه عند الحاجة، ولا يُمنعون هم من سماعه، ولكن بشروط، وهي:

أن يكون بدون تمطيط، ولا تليين، ولا تميع، ولا رفع للصوت، وأنه يحرم على الرجل أن يسمعه بتلذذ مع خوف الفتنة.

والحاصل أن المطلوب من المرأة المسلمة في كلامها مع الرجل الأجنبي أن تلتزم بما ورد في هذه الآية، فتمتنع عما هو محظور، وتقوم بما هو واجب عليها، كما أن عليها أن يكون كلامها في حاجة أو أمور مباحة شرعًا، ومعروفة غير منكرة، فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء ولا هذر ولا هزل ولا دعابة ولا مزاح؛ كي لا يكون ذلك مدخلًا إلى تحريك الغرائز وإثارة الشبهات، والمرأة غير ممنوعة من الكلام مع الأجنبي عند الحاجة؛ كأن تباشر معه البيع وسائر المعاملات المالية؛ لأنها تستلزم الكلام من الجانبين، كما أن المرأة قد تسأل العالم عن مسألة شرعية، أو يسألها الرجل، كما هو ثابت ذلك بالنصوص من القرآن والسنة، وبهذه الضوابط السابقة يكون كلامها لا حرج فيه مع الرجل الأجنبي(3).

فالكلام مع المرأة الأجنبية إنما يكون لحاجة؛ كاستفتاء وبيع وشراء، أو سؤال عن صاحب البيت ونحو ذلك، وأن يكون مختصرًا دون ريبة لا في موضوعه ولا في أسلوبه.

آداب استعمال الهاتف:

أما الهواتف فإنها وسائل عظيمة، يحملها الناس في جيوبهم اليوم، يتصلون بها ويُتصَل بهم، ويستقبلون بها الرسائل، ويرسلون، ويحسبون، ويسجلون، وللمواقع يتصفحون، إنها ملفات وحواسيب، وعدة أجهزة في جهاز واحد، والله يخلق ما يشاء، ويُعلِّم البشر ما لم يكونوا يعلمون، ومثل هذه النعم ينبغي أن تستثمر في طاعة الله تعالى، وفيما أباحه لنا، وأن يعلم العبد أن لله فيها آدابًا وأحكامًا، ومن ذلك:

- مراعاة أحوال الناس عند الاتصال، وعدم إقلاق راحتهم، فقد يكون مريضًا، أو صاحب حاجة، أو مستعجلًا، أو مشغولًا، أو أمًا مرضعة، أو مشتغلًا بضيوفه؛ ولذلك فإن فقه المسلم لقوله تعالى: {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، يحمله على أن يلتزم الأدب، وألا يسيء الظن بصاحب الهاتف إذا اتصل عليه فلم يستقبل مكالمته، وهو يعلم قول الله تعالى: {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، وإذا كان الذي أتى الباب فطرقه؛ فرُد من الباب يجب عليه ألَّا يغضب، وألا يلوم صاحب البيت؛ فإن له حقًا، فكذلك المتصَل عليه له حق، فأما إذا كان المتصَل عليه هاربًا من حق فإنه لا يجوز له أن يتهرب من دَيْن عليه لمن يتصل به.

- الحذر من أنواع الإيذاء بالجوال، وهي متعددة، وبالهاتف الثابت أكثر، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58]، فهؤلاء يتحملون الإثم العظيم؛ إذ لا يجوز إزعاج المسلم، وهذا يجعل المتصل يتحرى من صحة الرقم الذي يتصل به، وأنه يقصد صاحبه فعلًا، ويتأدب بآداب الشريعة؛ بالبدء بالسلام وهو تحية الإسلام، وعلى المتصل به أن يرد برد السلام، فهذا من شعائر ديننا.

- أن يُعرِّف بنفسه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل يطرق الباب قال: «من ذا؟»، قال: «أنا»، فقال: «أنا، أنا» كأنه كرهها(4).

- وعليه ألا يتحدث بلا حاجة، وألا يضيع الوقت، فكثير من الأوقات تضيع، والأموال تبع للأوقات، بالخوض فيما لا يعني، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»(5)، وهذه تحصل اليوم بالجوال كثيرًا؛ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال فيما يحرج المسئول ولا يفيد السائل.

- ومن الآداب: أن يغض من صوته؛ لقوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} [لقمان:19]، وهذا فيه مراعاة الأدب الجم، وخصوصًا مع الوالدين والعالم ومن ينبغي توقيره، إلا أن يكون ثقيل السمع، يحتاج إلى رفع صوته لإسماعه؛ فيرفع صوته حينئذ للحاجة.

- وكذلك التجسس على الناس بتسجيل مكالماتهم، وهذا مخالف لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]، وقد يتصل بعضهم فيستدرج الآخر إلى كلام لا يريد أن يقوله أصلًا، لكنه يستفزه ليقوله، ثم يسجله كي يبتزه به بعد ذلك، وكثيرًا ما تفعل بعض الذئاب البشرية هذا مع الفتيات، وهذا حرام ولا شك.

وكذلك فإن تسجيل مكالمة من لا يعرف أنك تسجل مكالمته فيه حرج شرعي واضح؛ بل قد يكون مكرًا وخديعة، ونوعًا من الخيانة.

وكذا فتح سماعة الهاتف الخارجية ليسمعه من حولك وهو لا يعلم أنهم يسمعونه، ويظن أنه يحادثك سرًا، والمجالس بالأمانة، فإذا أسمعت الآخرين الكلام الذي استأمنك عليه فهذه خيانة للأمانة.

وصار استعمال الجوالات والهواتف للمقالب، والإيقاع بالناس، واستدراج بعض ذوي الهيئة لابتزازهم، أو إيقاعهم في الحرج والألم؛ تسلية بزعم البعض.

والإسراف الحاصل بهذه المكالمات داخل في النهي الذي نهانا الله عنه بقوله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، وأخبر بأنه لا يحب المسرفين، وبعض الناس قد تحملوا أحمالًا باهظة بسبب هذه الفواتير؛ مما أدى إلى طلاق الزوجات، وخراب البيوت، وتقطيع العلاقات الاجتماعية بسبب ذلك(6).

ويجب أن نعرِّف نساءنا، ونذكر، ونؤكد، وننصح، ونحذر من هذه القضية، فإن المرأة بطبيعتها في صوتها لين، وترخيم، ورقة، وخضوع، فكيف إذا تقصدت ذلك، وزادت منه، والحديث مع الرجل الأجنبي بهذا فتنة ولا شك، وإيقاع له في الفتنة، ونحن نعلم بأن الأُذُن طريق إلى القلب يؤثر فيه، وينكت النكت، نكتة إثر نكتة، وهذه النكت السوداء إذا علت القلب صارت رانًا يغلفه {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، وكم سقط إنسان في رذيلة بسبب الكلام بينه وبين امرأة أجنبية عنه، عن طريق هذه الأجهزة التي صارت مِفتاحًا للشرور، ومن هذا النوع تبدأ الفاحشة، وتؤدي إلى أنواع من الكبائر التي حرمها الله تعالى، وبالغ في ذكر إثمها، وشناعتها، وقبحها، وأنها فاحشة وساءت سبيلًا.

والأدهى والأمر والأقبح والأقذر إن كانت المرأة متزوجة وتراسل الرجال؛ مما يعرضها للعقوبة الربانية واللعن والغضب من الله جل وعلا، وخراب بيتها وضياع أولادها، وبُغض أهلها لها، وطأطأت رأسها في مستقبل حياتها، وتكون خائنة لزوجها غاشة له في عرضه.

وعلى ذلك لا يجوز المراسلات بين الرجال والنساء عبر هذه الوسائل، للأسباب التالية:

1- لأن هذا من اتخاذ الأخدان الذي نهى الله عز وجل عنه في كتابه الكريم.

2- لأنه ذريعة إلى الوقوع في المحظورات بداية من اللغو في الكلام، ومرورًا بالكلام في الأمور الجنسية وما شابهها، وختامًا بتخريب البيوت، وانتهاك الأعراض، والواقع يشهد بذلك.

3- لأنه موطن تنعدم فيه الرقابة، ولا توجد فيه متابعة ولا ملاحقة، فيفضي كلا الطرفين إلى صاحبه بما يشاء، دون خوف من رقيب ولا حذر من عتيد.

4- لأنه يستلزم الكذب إن عاجلًا أو لاحقًا، فإذا دخل الأب على ابنته، وسألها ماذا تصنع، فلا شك في أنها ستلوذ بالكذب.

5- لأنه يدعو إلى تعلق القلوب بالخيال والمثالية؛ حيث يصور كل طرف لصاحبه أنه بصفة كذا وكذا، ويخفي عنه معايبه وقبائحه حيث الجدران الكثيفة، والحجب المنيعة التي تحول دون معرفة الحقائق، فإذا بالرجل والمرأة وقد تعلق كل منهما بالوهم والخيال، ولا يزال يعقد المقارنات بين الصورة التي طبعت في ذهنه، وبين من يتقدم إلى الزواج به، وفي هذا ما فيه.

6- التسمي بأسماء كاذبة أو منتحلة، وهي أن المتخاطِبَيْن يكونان، في أغلب الأحيان، بأسماء وهمية غير حقيقية، وهذا يرفع عنهما الحياء؛ مما يتيح للبعض أن يتوسع في الكلام وهو آمن من العقوبة أو المساءلة.

7 - أنها من كيد الشيطان وخطواته، فالمراسلة تكون بمختلف الوسائل الحديثة، والبرامج الصوتية والمرئية، التي هي أكثر إغراء من غيرها على التمادي والغواية، والاقتراب من خطوات الشيطان، وقد نهانا الله تعالى عن اتباع خطوات الشيطان فقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [الفرقان:21]، وكثيرًا ما تُحْدِث تلك المغازلة والمراسلة فتنًا، وتغرس حبَّ الزنى في القلب؛ مما يوقع في الفواحش أو يسببها ويهيجها.

وهي من مكايد الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فعن علي بن الحسين في حديث صفية رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما»(7)، وفي رواية مسلم: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا»، أو قال: «شيئًا»(8).

قال الإمام النووي رحمه الله: «وفيه الاستعداد للتحفظ من مكايد الشيطان، فإنه يجري من الإنسان مجرى الدم، فيتأهب الإنسان للاحتراز من وساوسه وشره، وقال القاضي عياض وغيره: قيل هو على ظاهره، وأن الله تعالى جعل له قوة وقدرة على الجري في باطن الإنسان مجاري دمه، وقيل هو على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه، وقيل يُلقي وسوسته في مسام لطيفة من البدن، فتصل الوسوسة إلى القلب»(9).

وسواء كان الحديث على الحقيقة أو المجاز، فإن هذه المحادثات وريد من أخطر الأوردة التي يجري فيها الشيطان، ويسرع في تزيينها والإيقاع عن طريقها، فيجتمع على أصحابها منافذ كثيرة خفية خطيرة، ينفذ إليهم الشيطان من خلالها للإهلاك.

8- هذه المحادثات معول هدم للبيوت الرفيعة، وزلزال يخسف بالحصون المنيعة، فيدمر فيها الأسر والأنساب، ويهتك بها الأعراض والأحساب، ويلبس أهلها لباس الذل والصغار، بعدما كانت في عز ووقار، فكيف لا تكون هذه المحادثات من أشنع المحرمات؟!

9- ما يترتب على هذه المحادثات من خدش حياء المرأة، والتجرؤ على مثل ذلك، فيهون عليها ويسهل عليها غيره، والأصل في الشريعة صيانة كل نفس عمومًا، والمرأة خصوصًا، من كل ما يخدش حياءها وعفتها بالابتداع عما يؤدي إلى المحذور؛ لهذا كان الحياء من الإيمان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان»(10).

قال ابن عبد البر: «ومعنى هذا الحديث، والله أعلم، أن الحياء يمنع من كثير من الفحش والفواحش، ويشتمل على كثير من أعمال البر، وبهذا صار جزءًا وشعبة من الإيمان؛ لأنه وإن كان غريزة مركبة في المرء؛ فإن المستحي يندفع بالحياء عن كثير من المعاصي، كما يندفع بالإيمان عنها إذا عصمه الله، فكأنه شعبة منه؛ لأنه يعمل عمله، فلما صار الحياء والإيمان يعملان عملًا واحدًا جُعلا كالشيء الواحد»(11).

10- فيها الخضوع بالقول والتغنج بالكلام، وقد نُهيت المرأة عن الخضوع بالقول؛ لما يؤديه ذلك من وقوع الفاحشة أو حصول مُقدِّماتها، يقول الله تعالى مخاطبًا نساء النبي، وهو خطاب لجميع النساء: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب:32]، فنهى الله سبحانه وتعالى النساء، عندما يخاطبن الرجال أو حين يسمعون كلامهن، عن لين الكلام وترقيقه والرضوخ فيه، وعن الكلام الذي فيه ما يهوى المريب ويعجب الرجال ويميلهم إلى النساء، وأمرهن الله أن يكون قولهن جزلًا، وكلامهن فصلًا، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين؛ لئلا يطمع أهل الخنى والفجور والميل للنساء والدغل ومن في قلبه مرض شهوة الحرام، فإنه مستعد ينتظر أدنى محرك يحركه؛ لأن قلبه غير صحيح؛ فأدنى سبب يوجد ويدعوه إلى الحرام يجيب دعوته.

قال الإمام السعدي: «فهذا دليل على أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فإن الخضوع بالقول واللين فيه في الأصل مباح، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم مُنِع منه؛ ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال ألَّا تلين لهم القول»(12).

وقال الإمام البغوي: «والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب»(13)، إضافة إلى أن الشخص الذي يحادث المرأة الأجنبية أقل أحواله التلذذ في خطابها، ولا يشك في مثل هذه المحادثات بحصول ميل القلب؛ وبالتالي فهو متعرض لما لا يحل له من النساء فيكون صاحب قلب مريض، قال الإمام الشنقيطي: «ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض قوله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]»(14).

كثير من الفتيات تمتلك رقم هاتف خاص بها، وليس لأحد أي سيطرة عليه، ومع ذلك فإنها، أحيانًا، لم تتلق في البيت التربية الإيمانية والرعاية الأبوية الكافية، أو لم تتلق من ذلك شيئًا يذكر، وهنا الخطر الكبير! الثقة في غير محلها، وقد يسيء الإنسان أحيانًا الظن بالأباعد؛ ولكنه لا يتوقع أبدًا من أولاده وبناته إلا الخير، لماذا؟ لأنه يعرفهم منذ الصغر، يعرفهم من أيام البراءة، براءة الأطفال، ويحس بأنهم لم يكبروا بعد، ويلاحظ أنهم يتميزون بالحياء والخجل، حينما يحادثهم، فالبنت، مثلًا، لو كلمها أبوها في أمر الزواج لطأطأت رأسها، ولم تستطع أن تتكلم، فكيف يظن بها أبوها أنها من ورائه قد تدير قرص الهاتف على ما لا يسوغ؟ يستبعد الأب هذا كثيرًا؛ لما يرى من حيائها وخجلها منه، ولكنه يلصق هذا بالآخرين.

والواقع أن هذه الثقة في غير محلها، وأن الشيطان لا يوقر أحدًا، ولا يحترم أحدًا، ولا يقدر أحدًا، وأنه يهجم على كل إنسان، وأن أي فتى أو فتاة لم يتلق التربية الكافية فإنه معرض لأن يسيء استخدام هذا الجهاز، خاصة حين يكون الجهاز خاصًا له في غرفته الخاصة.

سلبيات استخدام المرأة للهاتف:

أولًا: الخضوع بالقول: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]، هذا الأدب من الله تعالى لـعائشة، وزينب، وسودة، وأمهات المؤمنين، فما بالك بالناس في هذا الزمان، وقد كثرت الفتن، والمغريات، وارتفع أجيج الشهوات، وضعفت النفوس، وتسلط الشيطان، ومع ذلك يكون الخضوع بالقول سرًّا وعلانية!!

ثانيًا: العشق؛ وقديمًا كان بشار يقول:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة       والأذن تعشق قبل العين أحيانًا

وهو في الواقع عشق مزيف، الخاسرة الكبرى فيه هي البنت، ولهذا يقول أحد الأدباء، واسمه فاروق جويدة، عن الحب عن طريق الهاتف، يقول، ومن فمهم ندينهم: «إنه حب بارد، حتى لو وصفه الخط التليفوني في وقتها بأنه ساخن جدًّا».

ومن الطرائف أن إحداهن اتصلت، وكان صوتها عذبًا رقيقًا؛ فاتصلت برجل وتحدثت معه طويلًا، ثم واعدها مكانًا قصيًا، ولما اقترب منها على سيارته، رأى منها ما يكره، فمضى لحاله وهو يولول وتركها، حتى طال انتظارها فانصرفت، فالخاسر الأكبر هي المرأة، ثم الأسرة التي قد تجرها هذه الأمور إلى فضيحة لا يعلم مداها إلا الله عز وجل.

ثالثًا: التدرج في المعصية: قال ربنا جل وعلا: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21]، فهي خطوة تجر إلى خطوات، والذي وضع قدمه في بداية الطريق السيء لا يلومن إلا نفسه إذا مشى في هذا الطريق، دون أن يملك التوقف فيه! نظرة، فابتسامة، فسلام، فكلام، فموعد، فلقاء! مكالمة، بعد ذلك تعطيه رقم هاتفها، ثم تواعده ليراها، ثم يخلو بها، ثم «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان»(15)، فما ظنك باثنين إبليس ثالثهما، ماذا يمكن أن يصنع رجل وامرأة؟

كثيرون هم الذين وقعوا في الفاحشة الكبرى، ولم يكونوا يخططون لذلك في البداية، خاصة من الفتيات؛ بل الذي يضع قدمه في أول الطريق يجره إلى النهاية، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] .

فنهى عن قربان الزنا، وقربان كل وسيلة تؤدي إليه، فالآية: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى}، نهي عن النظرة إلى الرجل، ونهي الرجل عن النظرة الحرام إلى المرأة، ونهي عن المحادثة الحرام، ونهي عن الخلوة، ونهي عن الضمة، ونهي عن القبلة، ونهي عن الضحكة التي تغري أحدهما بالآخر، كل ذلك ذرائع وبريد، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى}.

الزنا سبب لكل مصيبة؛ وباختصار: الهم، والفقر، وأولاد الحرام، وفقدان الحياء، وقلة الخوف من الله، والفضيحة، وعقوق الأولاد، وبغض الله تعالى للعبد، وبغض الناس له، وتكدير العيش، وحرمان البركة، وسوء الخاتمة، وفقدان لذة العبادة، وحب الدنيا، وشدة الخوف والجبن، وسوء الظن، وكل بلاء في الدنيا وفي الآخرة.

رابعًا: ضياع الوقت: الذي هو رأس المال، وبه يحاسب الإنسان، وعليه يعاقب، والله تعالى يقول في محكم تنزيله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:36]، فاسمع ماذا يأتيهم الجواب من الرحيم الحليم اللطيف الخبير البر الجواد المتفضل المنعم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37]، نعمركم؛ أي: نعطيكم أعمارًا، ونعطيكم أيامًا، وليالي، ونعطيكم ساعات، ودقائق، وسنوات؛ بل وجاءكم النذير، فكثير منكم وصلوا إلى حد المشيب، وبعث إليهم الرسل، ومع ذلك هم مصرون على ما هم عليه.

فبالعمر يعاقب الإنسان أو يثاب، وعليه يجازى في دار المآب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أصحاب السنن، عن ابن مسعود وأبي الدرداء وغيرهم: «لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع»، منها: «عن عمره فيما أفناه»، ومنها: «عن شبابه فيما أبلاه»(16)، فالإنسان يسأل عن الشباب خاصة مرتين: مرة باعتباره جزءًا من العمر، ومرة يسأل عنه سؤالًا خاصًا؛ لأهمية هذه المرحلة وخطورتها؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي رحمه الله يقول: «الوقت سريع التقضي، أَبِيُّ التأتي، بطيُّ الرجوع».

ولذلك، أحيانًا، تجد الموظف مثلًا في مكتبه يتصل طويلًا، وربما قضى جزءًا كبيرًا من وقته الرسمي في مكالمة لفلان أو لعلَّان، وينسى أن هذا الوقت ليس ملكًا له؛ بل ملك للناس، ملك للمراجعين الذين ينتظرون أن يقوم بالإنجاز، وإذا انشغل بذلك فلا بد أنه سوف يكون ناقصًا نقصًا كثيرًا بينًا في الإنتاجية والعطاء الذي ينتظره منه مجتمعه.

خامسًا: كثرة الكلام في الهاتف وما يعتاد عليه الإنسان من ذلك، والكلام محسوب، ويتخلل الكلام القيل والقال، والغيبة والنميمة، والكذب، والتصنع؛ فيتظاهر الفتى للفتاة  بشيء آخر، وتتظاهر هي له بغير حقيقتها، والغش والغزل، وكم سينطق الهاتف لو استشهدته، ينطق بعبارات الغرام، وعبارات الغزل، والقصائد، قصائد الحب وغير ذلك؛ بل قد يتطور الأمر أحيانًا إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.

سادسًا: ضياع الشخصية: فلا عمل، ولا إنتاج، ولا خدمة في البيت، ولا دراسة، ولا حل واجب، ولا قراءة مفيدة، ولا سماع شريط نافع؛ بل الهم الوحيد هو الجلوس إلى الهاتف، ومحادثة فلان وفلان، فيوجد ذلك من التزهد، وضعف الهمة، والاسترخاء، ما يجعل هناك جيلًا من الأولاد والبنات لا يحب الواحد منهم أن يصنع أي شيء؛ لأن بضاعته تبدأ وتنتهي بالكلام، والكلام ليس أي كلام، فمن الكلام ما ينفع، فمن الكلام ما يدخل الجنة؛ كذكر الله تعالى وقراءة القرآن؛ ولكن المؤسف أنه كلام يضر ولا ينفع، فيشترون ما يضرهم ولا ينفعهم.

سابعًا: الانشغال عن طاعة الله: وأضرب لكَ ولكِ مثلًا واحدًا، ألا وهو (المكالمات الليلية)، التي تبدأ غالبًا بعد الساعة الثانية عشر ليلًا، وقت نزول الرب جل وعلا إلى سماء الدنيا، كما في الصحيحين وغيرهما؛ بل هو حديث متواتر حيث يقول سبحانه: «يا عبادي، هل من سائل فأعطيه سُؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ وذلك حتى ينفجر الفجر»(17)، على حين أن هذا الفتى وتلك الفتاة غارقان في مكالمة هاتفية تضرهم ولا تنفعهم، وتبعدهم عن ربهم جل وعلا(18).

دور الهاتف في وقوع الجرائم:

كل جريمة تقع اليوم فلا بد أن للهاتف دورًا بارزًا فيها، كل جريمة تقع اليوم فالهاتف طرف فيها، في أي مرحلة من المراحل، إما أن يكون هو السبب الأول ونقطة البداية، أو يكون دوره في المرحلة الثانية أو الثالثة، أو الأخيرة، وأعني بذلك كل الجرائم، سواء كانت جريمة خلوة، أو جريمة زنا، أو جريمة قتل، أو أي جريمة أخرى.

وهذا ثابت من خلال دراسات لمئات الحالات في هذه البلاد وفي غيرها؛ التي كُشِفت والتي لم تكشف أيضًا، نعرف أخبارًا كثيرة منه، من خلال بعض الشكاوي وبعض المشكلات.

وقد تتصل الطالبة بزميل لها في الجامعة، خاصة إن كانت منتسبة، لتسأله عن المنهج، ورقم الأستاذ، وطريقة الأسئلة، وتناقشه في الموضوعات التي تقول هي: إنها غير مفهومة، وتحتاج هي إلى شرح وبيان.

الرد على الهاتف:

أما الرد على الهاتف فحدث ولا حرج، فهو من مهمة البنت غالبًا؛ أن تقوم بالرد على الهاتف، وهي فرصة للسؤال عن الحال: كيف أحوالكم؟! وكيف الأهل؟! وكيف الجيران؟! وكيف الوالد؟! وكيف الوالدة؟! إلى غير ذلك من الأسئلة، وكثيرون يرغبون في محادثة المرأة، والاسترسال معها في الحديث، والشيطان يغريهم بذلك كثيرًا.

أما اتصال الفتاة بفتاة أخرى فهذا باب آخر؛ فالصديقات يقضين وقتًا طويلًا في الحديث، وأحيانًا المعجبات أيضًا، فالفتاة قد تعجب بفتاة أخرى ولا تصبر عنها، فإذا فارقتها في المدرسة أصبحت تتصل بها في المنزل، وأيضًا تحدثني بعض البنات الصالحات أن هذه المكالمات قد تمتد لثلاث وأربع ساعات أحيانًا، وهي لا تخرج بطائل، إلا الإعراب لها عن محبتها والإعجاب بها، وأنها تتمنى أن تكون مثلها.

وأحيانًا تكون الحالة، في حقيقة الأمر، لا تعدو أن تكون حالة عشق واضحة صريحة، ولكنها قد تلبس لبوسًا آخر، مثل لبوس الحب في الله، أو الإعجاب أو غير ذلك، والله تعالى يحب الصدق، ويقول جل وعلا: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [القيامة:14-15]، والمسميات لا تغير من الحقائق شيئًا.

الجارة أحيانًا تتصل بجارتها، وليست المشكلة في الاتصال بذاته، فالهاتف، أصلًا، إنما يفرح به لأنه ييسر سبيل الاتصال، لكن المشكلة في السلبيات الناجمة عن الاتصال(19).

***

_________________

(1) تفسير ابن كثير (6/ 409).

(2) في ظلال القرآن (5/ 2859).

(3) المفصل في أحكام المرأة (3/ 276).

(4) أخرجه البخاري (6250).

(5) أخرجه البخاري (1477).

(6) أدب هاتف الجوال، موقع الشيخ محمد المنجد.

(7) أخرجه البخاري (2035).

(8) أخرجه مسلم (2175).

(9) شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 157).

(10) أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35).

(11) التمهيد (9/ 234).

(12) تفسير السعدي (1/ 664).

(13) تفسير البغوي (3/ 527).

(14) أضواء البيان (6/ 245).

(15) أخرجه الترمذي (1171).

(16) صحيح الجامع الصغير (7300).

(17) صحيح الجامع الصغير (8167).

(18) قصة مكالمة هاتفية، للشيخ سلمان العودة، إسلام ويب.

(19) المصدر السابق.