logo

الدعاء وصلاح الأبناء


بتاريخ : السبت ، 25 جمادى الأول ، 1442 الموافق 09 يناير 2021
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاء وصلاح الأبناء

من نعم الله تعالى على عباده نعمة الذرية، ولهذا امتن الله تبارك وتعالى على عباده وذكَّرهم بهذه النعمة في كتابه الكريم فقال: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، وقال تعالى: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72].

إنهم زينة الحياة الدنيا وزهرتها وبهجتها: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، ولكن لا تقر أعين الآباء بالأبناء حقيقة إلا إذا كانوا صالحين، لهذا فإن الصالحين من عباد الله يجتهدون في صلاح أبنائهم، ويعلمون أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأن من أعظم أسباب صلاح أبنائهم كثرة الدعاء لهم والتضرع إلى الله ليصلحهم.

وقد ذكر الله تعالى عن عباده الذين أضافهم إلى نفسه إضافة تشريف فقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعنون: من يعمل بطاعة الله فتقرّ به أعينهم في الدنيا والآخرة (1).

قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم وذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له (2).

عن جبير بن نفير قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يومًا، فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت، فاستغضب، فجعلت أعجب، ما قال إلا خيرًا، ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرًا غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه؟ والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين لما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبيًا من الأنبياء في فترة من جاهلية، ما يرون أن دينًا أفضل من عبادة الأوثان.

فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى والده وولده، أو أخاه كافرًا، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها التي قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] (3).

وذلك أن الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرت عينه بأهله وعياله، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة، أو كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة، معاونون له على وظائف الدين والدنيا، لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، فتسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى، فذلك حين قرة العين، وسكون النفس (4).

وتلك القرة هي أن يشاهدوا أولادهم وأزواجهم مطيعين مؤمنين مواظبين على العبودية.

ونظرًا لما للدعاء من أثر عظيم في صلاح الأبناء وجدنا خير خلق الله تعالى وصفوتهم الأنبياء والرسل يسألون ربهم ويلحون عليه سبحانه أن يصلح لهم ذرياتهم، حتى إنهم دعوا الله تعالى من أجلهم قبل أن يولدوا.

فهذا سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام يرفع أكف الضراعة طالبًا من الله تعالى أن يرزقه أبناء صالحين مصلحين فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، فأعطاه الله إسماعيل وإسحاق.

إنه قد بلغ سنًّا كبيرة، وامرأته عجوز، وهو يشتهي الولد، لكنه لا يريد أي ولد؛ إنما يريد ولدًا صالحًا، فكانت الاستجابة من الله تعالى فأعطاه ما سأل: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، وأعجب من ذلك أن الخليل عليه السلام لم ينقطع عن الدعاء لذريته، بل ظل يتعهدهم بالدعوات الصالحات طوال حياتهم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، ويستمر في الدعاء: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40].

وعلى نفس الطريق سار سيدنا زكريا عليه السلام؛ إذ دعا الله تعالى لأبنائه قبل أن يولدوا، إننا نراه يدعو الله تعالى أن يرزقه ولدًا صالحًا مرضيًّا عند الله وعند الناس، يتحمل معه أعباء النبوة والدعوة إلى توحيد الخالق سبحانه قائلًا: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} [مريم: 5- 6]، ولقد استجاب الله تعالى لدعائه، وحملت الملائكة إليه البشرى بالولد والنبي الصالح: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39].

فإذا ما تأكدنا بما لا يدع مجالًا للشك أن الولد من عمل ابن آدم سواء كان صالحًا أو فاسدًا، فإن الدعاء ولزوم باب المولى عز وجل مما يعين على هذا العمل ليثمر ثمرة طيبة مباركة، وهذا هو دعاء عباد الرحمن الذين ذكر الحق سبحانه وتعالى أوصافهم في أواخر سورة الفرقان، قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

يقول ابن كثير مفسرًا هذه الآية وقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} يعني: الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم وذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له.

قال ابن عباس: يعنون من يعمل بالطاعة، فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة.

وقال عكرمة: لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالًا ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين.

وقال الحسن البصري -وسئل عن هذه الآية- فقال: أن يري الله العبد المسلم من زوجته، ومن أخيه، ومن حميمه طاعة الله، لا والله ما شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدًا، أو ولد ولد، أو أخًا، أو حميمًا مطيعًا لله عز وجل.

وقال ابن جريج في قوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قال: يعبدونك ويحسنون عبادتك، ولا يجرون علينا الجرائر.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني: يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام (5).

وحتى لا يظن أحد أن الدعوة خاصة بالرجال فقط ذكر لنا القرآن مثلًا فريدًا لصلاح المرأة ودعائها لأبنائها وذريتها، وأثر هذا الدعاء على الذرية في قصة امرأة عمران أم مريم، وكيف أنها كانت تدعو لجنينها في بطنها وتهبه لخدمة بيت ربها {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35]، فلما خرج المولود أنثى لم يمنعها هذا أن تهبها لخدمة بيت المقدس وأن تدعو ربها ليحفظها وينبتها نباتا حسنا بل دعت بما هو أكبر من ذلك فقالت: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].

فاستجاب الله دعاءها، وبارك في ابنتها، واصطفاها على نساء العالمين، واختارها لتكون فيها آية من آياته الكبرى بأن وهبها عيسى بكلمة منه دون أب، وأعاذها وابنها من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل؛ كل ذلك ببركة دعاء الأم الصالحة المباركة (6).

وإذا رجعنا إلى هدي نبينا صلى الله عليه وسلم لوجدناه يكثر من الدعاء لأبناء المسلمين، ويوجّه المسلمين إلى الدعاء لأبنائهم حتى قبل أن يولدوا، فيحث من أراد إتيان أهله قضاءً لشهوته وطلبًا للولد أن يحرص على وقايته من الشيطان فيقول: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله، فقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدًا» (7).

ويدعو للصغار وهم نطف في رحم الأم، فعن أم سليم رضي الله عنها قالت: توفي ابن لي وزوجي غائب فقمت فسجيته في ناحية من البيت، فقدم زوجي فقمت فتطيبت له فوقع علي، ثم أتيته بطعام فجعل يأكل فقلت: إلا أعجبك من جيراننا؟ قال: وما لهم؟ قلت: أعيروا عارية فلما طلبت منهم جزعوا، قال: بئس ما صنعوا، فقلت: هذا ابنك، قال: لا جرم لا تغلبيني على الصبر الليلة، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: «اللهم بارك لهم في ليلتهم»، فلقد رأيت لها بعد ذلك في المسجد سبعة كلهم قد قرأوا القرآن يعني حفظه، وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (8).

ويدعو لهم عند ولادتهم؛ فعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم، فأتي بصبي فبال عليه، فدعا بماء، فأتبعه بوله ولم يغسله (9).

عن أسماء، أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة قالت: فخرجت وأنا متم، فأتيت المدينة فنزلت بقباء فولدته بقباء، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له وبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام (10).

ويدعو لهم أثناء مخالطتهم تشجيعًا وتثبيتًا لهم على الخير، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال: جاءت بي أمي أم أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أزرتني بنصف خمارها، وردتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله، هذا أنيس ابني، أتيتك به يخدمك فادع الله له، فقال: «اللهم أكثر ماله وولده»، قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم (11).

ولنتأمل هنا كيف بنت وأسست أم سليم رضي الله عنها لابنها مستقبله في الدين والدنيا بالدعاء؟، إنه جيل الصحابة الفريد الذين أحسنوا الأخذ والفهم والتطبيق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويكافئ صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما الغلام الصغير على إعداده لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يطلبه بأن يدعو له، فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء، فوضعت له وضوءًا قال: «من وضع هذا فأخبر فقال اللهم فقهه في الدين» (12).

ويستجيب الله تعالى لدعائه صلى الله عليه وسلم لابن عباس ويصير حبر الأمة وترجمان القرآن.

ولما كان هؤلاء هم قدوتنا وأسوتنا عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه يأمرنا الله تعالى بأن نقتدي بهم، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، ويخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة لنا في كل أمرنا به، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

وعلى هذه الخطى سار السلف؛ فوجدناهم يهتمون بالإكثار من الدعاء للأبناء؛ فعن معاوية بن قرّة قال: لما ولد لي إياس، دعوت نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأطعمتهم، فدعوا، فقلت: إنكم قد دعوتم، فبارك الله لكم فيما دعوتم، وإني إن أدعو بدعاء فأمّنوا، قال: فدعوت له بدعاء كثير في دينه وعقله وكذا، قال: فإني لأتعرف فيه دعاء يومئذ، أي أنه يعرف ويجد فيه بعد ما كبر أثر دعائه له في هذا اليوم وهو صغير (13).

لقد حوّل الدعاء الولد المتمرد المستعصي على التأديب والتربية إلى شاب صال؛ وهو ابن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى، حيث اجتهد والده في تربيته اجتهادًا كبيرًا، وكان يأمل أن يكون صالحًا ورعًا تقيًا ولكن الأمر صعب عليك فدعا الله تعالى قائلًا: اللهم إني اجتهدت أن أؤدب عليًا فلم أقدر على تأديبه، فأدبه لي.

إنها مشكلة الكثير من الآباء اليوم، أن يبذل الوالد الحاني كل ما يستطيع تقريبًا في تربية ولده ولكن لا يحالفه التوفيق، ولكن الفضيل هنا لم ييأس ورفع أكف الضراعة لله تعالى، فكان التوفيق منه سبحانه إذ أصبح على بن الفضيل بن عياض إمامًا كأبيه في العلم والزهد، فقال عنه الإمام النسائي: ثقة مأمون، وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: كان من الورع بمحل عظيم، وقال ابن المبارك: خير الناس الفضيل بن عياض وخير منه ابنه على، وعن سفيان ابن عيينة قال: ما رأيت أحدًا أخوف من الفضيل وابنه.

عن محمد بن الحسين قال: كان علي بن الفضيل يصلي حتى يزحف إلى فراشه، ثم يلتفت إلى أبيه فيقول: يا أبت سبقني المتعبدون (14).

وأصبح الفتى عونًا لأبيه على التقى والزهد والورع، يخرجان معًا للصلاة والحج وأعمال الخير، يقيمان الليل ويصومان معًا، وهكذا أصبحت العلاقة بين الابن وأبيه إلى أن جاء اليوم الموعود، وفارق على بن الفضيل الحياة سنة 183هجرية.

ولقد افتقده والده وحزن عليه كثيرًاً فها هو يحكى عنه بعد وفاته ويقول: قال لي علي يومًا: أسأل الذي جمعنا في الدنيا أن يجمعنا في الآخرة ثم بكى، فلم يزل منكسر القلب حزينًا، ثم بكى الفضيل فقال: حبيبي يا من كان يساعدني على الحزن والبكاء، شكر الله لك ما قد علمه فيك.

وهكذا ظل والده حزينًا حتى لحق به بعد أربعة أعوام، حيث توفى الفضيل سنة: 187 هجرية.

وهو مع هذا لم يتوانَ عن تعهده بالإصلاح والرعاية وحسن الأدب، لكنه يعلم أن الأمر كله لله فيدعوه سبحانه ويتضرع إليه في إصلاح ولده؛ فيستجيب الله تعالى دعاءه ويصلح له ولده حتى إن بعض العلماء ليفضل علي بن الفضيل على أبيه على جلالة قدر أبيه رحمهما الله.

فإذا تأملنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء»، أدركنا أهمية الدعاء والتضرع إلى الله تعالى في صلاح الأبناء، إذ قلوبهم وقلوب العباد جميعًا بين يديه يقلبها كيفما يشاء، وهو سبحانه وحده الذي بيده هداية الخلق إلى صراطه المستقيم، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يدعو في اليوم الواحد أكثر من سبعين مرة قائلًا: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (15).

ولننظر كيف كان الدعاء هو الحل لكثير من المعضلات والمشاكل التربوية عند سلفنا الصالح رضي الله عنهم جميعًا، فلم تكن أمور التربية تسير عندهم بلا مشكلات كما يتصور البعض، ولكن كان لديهم الكثير من الصعاب في عملية التربية ولكنهم ذللوها بالدعاء الذي إذا بذلناه للولد صغيرًا؛ ظهر أثره عليه كبيرًا.

حكي سليم بن أيوب بن سليم عن طفولته فقال: أنه كان في صغره بالري، وهى مدينة من مدن فارس، وله نحو من عشر سنين، فحضر بعض الشيوخ وهو يلقن (يعنى: يحفظ الصغار القرآن) فقال لي: تقدم فاقرأ، فجهدت أن أقرأ الفاتحة فلم أقدر على ذلك لانغلاق لساني (لأنه لم يكن يتكلم اللغة العربية) فقال: لك والدة؟ قلت: نعم، قال: قل لها تدعو لك أن يرزقك الله قراءة القرآن والعلم، قلت: نعم، فرجعت فسألتها الدعاء فدعت لي، ثم إني كبرت ودخلت بغداد وقرأت بها العربية والفقه، ثم عدت إلى الري، فبينا أنا في الجامع أقابل مختصر المزني (يعنى يشترك مع غيره في مناظرة حول شرح كتاب مختصر المزني ويتحدثون باللغة العربية)، وإذا الشيخ قد حضر وسلم علينا وهو لا يعرفني، فسمع مقابلتنا وهو لا يعلم ماذا نقول، ثم قال: متى يُتَعَلّم مثل هذا؟ فأردت أن أقول: إن كانت لك والدة فقل لها تدعو لك، فاستحييت (16).

فلماذا لا نقتدي بأم سليم بن أيوب في الدعاء لأبنائنا فيم أغلق عليهم فهمه، أو صعب عليهم حفظه من المواد الدراسية؟ لنجعل الدعاء هو ما نستعين به على صعوبات الدراسة والامتحانات التي يواجهها أبناؤنا جميعًا.

الدعاء على الأبناء من الممنوعات:

إن مما ينبغي أن يكون معلومًا ومستقرًّا في نفوس الآباء أن الدعاء على الأبناء من الممنوعات التي لا يجوز الاقتراب منها بحال، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعاء على الأطفال فقال: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم» (17).

إن الوالدين أو أحدهما قد يغضب لإساءة بعض الأبناء أو عقوقه، وهما إن غضبا فحقهما، لكن ينبغي ألا يلجأ الوالدان أو أحدهما في هذا الحال إلى الدعاء على الأولاد؛ فإنهما أول من يكتوي ويتألم إن أصاب أبناءهما مكروه، وليستحضر الوالدان أن دعوة الوالد لولده أو عليه هي مما يستجاب، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: «ثلاث دعوات يستجاب لهن، لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده» (18).

وقد تكون إجابة الدعوة على الولد سببًا في مزيد من العقوق والفساد لمن دعي عليه من الأولاد، وقد جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله يشكو إليه عقوق ولده، فسأله ابن المبارك: أدعوت عليه؟، قال: نعم، قال: اذهب فقد أفسدته.

وهذا الجواب منه يدل على سعة علمه رحمه الله؛ فإن الدعاء على الأولاد لن يزيدهم إلا فسادًا وعنادًا وعقوقًا، وأول من يشتكي هذا العقوق هو من تسرع بالدعاء على الأولاد (19).

كثيرون هم الآباء الذين يشتكون من حال أبنائهم السلبي تجاه التزامهم دينيًا وأخلاقيًا وسلوكيًا في فترة من فترات حياتهم، ويبحثون هنا وهناك عن حلول ناجعة لإصلاحهم، ويسألون القريب والخبير والمختص عن طريقة لتقويم اعوجاجهم، ويعبرون ببالغ الأسى والألم عن مدى حزنهم وحجم كربهم لرؤية أبنائهم على هذه الحال بعد الجهود التي يقولون إنهم بذلوها في سبيل هدايتهم وصلاحهم.

في هذه المرحلة بالذات يطرق الآباء جميع الأبواب لإيجاد علاج لحال أبنائهم، ويجربون من الوسائل التربوية الحديثة والمعاصرة ما لا يمكن حصره أو عده، إلا أن كثيرًا منهم قد يغفل عن طريقة هي من أفضل الطرق لإصلاحهم، ووسيلة من أكثر الوسائل المضمونة الأثر والنتيجة، ألا وهي: دعاء الآباء والأمهات المستمر لأبنائهم بالهداية والصلاح والرشاد.

والحقيقة أن مصدر غفلة الكثير من الآباء والأمهات عن مدى أهمية وأثر دعائهم لأبنائهم في استقامتهم وعدم اعوجاجهم أو انحرافهم قد يكون اعتمادهم على الأسباب والمسببات في تربيتهم فحسب، فتلاحظ أن لسان حال أحدهم حين تسأله عن عدد المرات التي يدعو فيها لأبنائه بالهداية والصلاح في صلاته أو قيامه أو خلواته في اليوم أو الأسبوع أو حتى الشهر يقول: وهل يحتاج ولدي إلى دعائي بعد أخذي بجميع الأسباب لصلاحه وهدايته؟!!

نعم؛ لا شك أن الأخذ بأسباب صلاح الأبناء وهدايتهم من الأهمية والضرورة بمكان، بدءًا بانتقاء الزوجة الصالحة والأم المربية المستقبلية، وصولًا إلى اختيار الاسم الحسن وغرس أصول الإيمان في القلب في الصغر، وليس انتهاء بمتابعة الولد تربويًا داخل الأسرة وخارجها وتبصيره بأهمية الالتزام بأوامر الله واجتناب نواهيه في كل خطوة يخطوها في هذه الحياة؛ إلا أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن هذه الأسباب يمكن أن تغني عن ضرورة دعاء الآباء لأبنائهم .

إن أخطاء أبنائنا تحتاج إلى صبر ودعاء، ولا نقصد بالدعاء أن يكون مرة واحدة أو مرتين، ولكن علينا أن ندعو الله تعالى لهم ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، ولا نيأس من رحمة الله تعالى ولا نستعجل الإجابة، فربما تأتى الإجابة بعد شهور وسنين من الدعاء العريض، روى الإمام الذهبي عن التابعي الجليل مورق العجلي أنه قال: لقد سألت الله حاجة عشرين سنة، فما شفعني فيها (يعنى ما أعطاني إياها) وما سئمت من الدعاء.

إذن علينا أن نقرع أبواب السماء دائمًا بالدعاء لأبنائنا والتضرع بلا ملل أو كلل، فإن من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له، ولنعلم أن الدعاء للأبناء يصلح أحوالهم، ويجبر كسرهم، ويعالج أخطائهم، ويحميهم من شرور الدنيا والآخرة، فهيا بنا نرفع أيدينا على الله تعالى نسأله أن يهديهم سواء السبيل وأن يجعلهم قرة أعين لنا في الدنيا والآخرة (20).

وفي العصر الحديث الكثير من النماذج الحية التي تؤكد مدى أهمية دعاء الوالدين لأبنائهم في صلاحهم وهدايتهم، فهذا أحدهم يسأل أحد الآباء الذي رزقه الله تعالى الكثير من الأبناء المعروفين بصلاحهم بشهادة كل من خالطهم وعاشرهم فيقول: ما سر صلاح أبنائك وهم كثر؟ فيقول: والله لا أترك الدعاء لهم.

فيا من يشتكي من الآباء والأمهات من سوء حال ولده وقلة التزامه بدينه أو اضطراب في سلوكه وخلل في أخلاقه: إن الله تعالى قد جعل بين أيديكم سلاحًا فعالًا لصلاح أولادكم واستقامتهم، ومنحة ربانية لتقويم اعوجاج أحدهم إن اعوج، وتصحيح مسار طريقه إن ضل، وإعادته إلى الصراط المستقيم إن حاد عنه أو انحرف، فلا تبخلوا على أولادكم بالدعاء لهم (21).

فكم من دعوة صادقة ردت شاردًا، وقربت بعيدًا، وأصلحت فاسدًا، وهدت ضالًا.

بل كم من دعوة كانت سببًا في صلاح هذه الذرية من أصلها، وحلول البركة فيها.

__________________

(1) تفسير ابن كثير (6/ 119).

(2) تفسير ابن كثير (6/ 132).

(3) أخرجه ابن حبان (6552).

(4) تفسير القرطبي (13/ 82).

(5) تفسير ابن كثير (6/ 132).

(6) أهمية الدعاء للذرية والأبناء/ إسلام ويب.

(7) أخرجه البخاري (7396).

(8) أخرجه الطبراني (311).

(9) أخرجه مسلم (286).

(10) أخرجه مسلم (2146).

(11) أخرجه مسلم (2481).

(12) أخرجه البخاري (143).

(13) الأدب المفرد (1255).

(14) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 298).

(15) أخرجه الحاكم (1926).

(16) سير أعلام النبلاء (13/ 265).

(17) أخرجه مسلم (3009).

(18) أخرجه ابن ماجه (3862).

(19) أثر الدعاء في صلاح الأبناء/ طريق الإسلام.

(20) إصلاح البنين بدعاء رب العالمين/ لها أون لاين.

(21) الدعاء للأبناء ضرورة لصلاحهم/ موقع المسلم.