logo

التربية النفسية للطفل


بتاريخ : الأربعاء ، 30 ربيع الآخر ، 1439 الموافق 17 يناير 2018
بقلم : تيار الاصلاح
التربية النفسية للطفل

مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على صِبْية يلعبون، وفيهم عبد الله بن الزبير، فهربوا منه إلا عبد الله، فقال له عمر رضي الله عنه: «ما لك؟ لم لا تهرب مع أصحابك؟»، فقال: «يا أمير المؤمنين، لم أكن على ريبة فأخافك، ولم يكن الطريق ضيقًا فأوسع لك»(1).

فمن أين جاءت هذه الفطنة وتلك الكياسة في السلوك؟ لا شك أن جواب ذلك الطفل إنما هو ثمرة يانعة من ثمار التربية النفسية الإسلامية، التي لا تعرف الخضوع ولا الذل ولا الخوف والفزع، سياسة تقوم على تقوية الثقة بالله، والاسترسال معه على الدوام(2).

والنفس الإنسانية تحتاج إلى التربية المستمرة، والتذكرة المستديمة، والوعظ الصادق؛ حتى لا يعتريها الصدأ، ولتأمن من رياح الشرك العابثة، وتبتعد عن الأمواج العاتية؛ حيث شط الأمن والأمان.

والإسلام يربي الإنسان على إخلاص العبودية لله وحده، فلا يخاف إلا الله، ولا يرجو أو يتوسل غيره من الإنس أو الجن، ولا يبث حزنه أو شكواه إلا لله تعالى، ومن هنا كان الإنسان المؤمن ذا شخصية قوية منذ نعومة أظفاره، فالطفل الصغير ربما يقول كلمات حكيمة يعجز الكبير غير المؤمن عن فهمها أو الاهتداء إلى مثلها(3).

من أهم حقوق الطفل على والديه أن يحصل على تربية سليمة، تؤهله لكي يبني حياته ومستقبله على أسس سليمة؛ تجعل منه إنسانًا نافعًا لنفسه ووطنه، فالطفل بطبيعته البشرية حينما يولد في الحالات الطبيعية يتميز غالبًا بعقلية نظيفة خالية من أي شوائب، عقلية قابلة للتطوير؛ أي أنه ذو عقلية قابلة للتربية، ومما لا شك فيه أننا نحن البشر نتميز عن المخلوقات الأخرى بالقدرة علي التمييز بين الضار والنافع، والصالح والطالح؛ لذا حينما نرزق بالذرية نحاول، بكل ما أوتينا من قدرة، تربية أبنائنا وبناتنا ليكونوا صالحين في أنفسهم وفي مجتمعهم.

التربية النفسية تهدف إلى تحقيق نكران الذات، وممارسة التواضع بصورة تلقائية غير متكلفة، وتهدف كذلك إلى أن يكون المرء عند نفسه صغيرًا، وأن يرى الناس جميعًا أفضل منه، كما يقول الإمام النووي: «لا تستصغر أحدًا؛ فإن العاقبة منطوية، والعبد لا يدري بم يختم له، فإذا رأيت عاصيًا فلا تَرَ نفسك عليه، فربما كان في علم الله أعلى منك مقامًا، وأنت من الفاسقين، ويصير يشفع فيك يوم القيامة».

وتبدأ التربية النفسية من قول الله عز وجل على لسان عبده لقمان في وعظه لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].

تبدأ التربية الإسلامية من نزع الشرك الظاهر والخفي من النفوس؛ فتتخلى بذلك من الظلم والرياء والفسوق والعصيان، ثم تستعد النفس بعد سلب كل شرك عن النفس بملء القلب بدين التوحيد الخالص، والتوحيد سلب وإيجاب، سلب كل ماعدا الله، وإيجاب للألوهية المنزهة عن كل شرك(4).

وللإيمان الكامل بأركانه الستة آثار تربوية عظيمة في حياة الفرد والمجتمع، فالإيمان هو الذي يهيئ النفس الإنسانية دائمًا للرضا والأمن وللعمل الجاد المثمر، كما يضفي على النفس المؤمنة رضا يغمرها فلا يستطيع شيء، مهما عظم، أن يسخطها، فيحصل لها بذلك الطمأنينة والراحة النفسية.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تُنْتَجُ البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟»، ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الروم:30](5).

إن القاعدة السابقة التي أصَّلها لقمان في ابنه من الأهمية بمكان إذا ما تربت النفوس عليها؛ ولهذا يجب على الآباء والمربين أن يغرسوا في أبنائهم وتلاميذهم مراقبة الله عز وجل في قلوبهم؛ لما في ذلك من ثمرات تربوية لا تخفى على العاقل، فمراقبة الله عز وجل هي التي تعمل على قمع الشهوات، وتحث على الطاعات، ويذل القلب ويستكين، ويفارقه الكبر والحقد والحسد، فمتى استشعر النشء روح هذه المراقبة انكف وانزجر عن المعاصي والنواهي، فجعل تقوى الله عز وجل سترًا ومانعًا له من الوقوع في المهلكات، وهي أيضًا تعمل على تحريره من الخوف من أحد غير الله عز وجل، وتحرره أيضًا من القلق والضجر والاضطراب، فالكون كله لله والأعمار والأرزاق بيد الله عز وجل، وقد بين لنا الرسول هذه الحقيقة بأسلوب تطبيقي عملي، عندما وجه ابن عباس رضي الله عنهما بقوله عليه الصلاة والسلام: «يا غلام، إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف»(6).

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: «لبستُ مرةً درعًا لي جديدة فجعلت أنظر إليها، فأعجبت بها»، فقال أبو بكر: «ما تنظرين؟ إن الله ليس بناظر إليك»، قلت: «ومما ذاك؟»، قال: «أما علمتِ أن العبد إذا دخله العجب بزينة الدنيا مقته الله عز وجل حتى يفارق تلك الزينة؟»، قالت: «فنزعته فتصدقت به»، فقال أبو بكر: «عسي ذلك أن يكفِّر عنكِ»(7).

يترتب على ما ذكر ما يلي:

1- إيجاد جيل قوي يخلص العبودية الكاملة لله عز وجل وحده.

2- العمل الجاد المثمر، والإخلاص لله عز وجل في أعمالهم، كل بحسب عمله، ومجال تخصصه.

3- مراقبة الله عز وجل في سلوكهم وفي معاملاتهم مع الآخرين(8).

ولقد اتفق كثير من الباحثين على أن السنوات الست الأولى من عمر الطفل لها آثار باقية في تكوين الشخصية، فإن كان هدفنا هو صياغة الإنسان المسلم فإنَّ الاعتناء بالتربية النفسية والنمو النفسي للطفل يصبح أمرًا بالغ الأهمية؛ بل ربما هو المرتكز الأساسي لهذه الصياغة.

فالطفل إذن يجب أن يربى على الاعتداد بالنفس، والجرأة والشجاعة والصدق وحب الخير للآخرين والانضباط عند الغضب.

وتنمية هذه الخصال في الطفل يجب أن تكون على حسب منهج مرسوم ولا تترك للصدفة، فشعور الاعتداد بالنفس عند الطفل يعتمد مباشرة على الطريقة التي يعامل بها الطفل.

فالتحقير والإهانة تشكك الطفل في قدراته، وتنمي فيه الشعور بالنقص، والدلال المفرط ينمي في الطفل شعورًا بالعظمة غير مواكبة لمقدراته العقلية من ناحية، ومن ناحية أخرى يجعل الطفل شديد الاعتماد على الغير.

والجرأة والشجاعة والصدق لا تأتي إلا إذا أعطينا الأطفال الفرصة في التعبير عن آرائهم، واستمعنا إلى رواياتهم، فالطفل في سن التعليم المبكر يمتاز بمقدرة فطرية على الحركة والكلام.

فعلينا استغلال هذه المقدرات الفطرية في تنمية تلك الخصال؛ فمثلًا عن طريق اللعب والتمثيل يمكن للأطفال أن يتحلوا بهذه الصفات، وأما حب الخير للآخرين والانضباط عند الغضب فقد حث عليهما القرآن الكريم في كثير من المواقع، في مثل قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، وقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:34].

فتعويد الطفل على ذلك من الصغر فيه فائدة كبيرة له، وفي مجال رياض الأطفال متسع من الفرص لتحقيق ذلك، نسبة لاحتكاك الأطفال مع بعضهم البعض في نشاطات الروضة المختلفة، فالمعلمة الحصيفة يمكنها استغلال هذه الفرص لغرس تلك الخصال في نفوس الأطفال.

أما العقد النفسية فإنها تؤثِّر تأثيرًا ضارًّا ومُعوِّقًا لدى الطفل؛ فهي تشلُّ النشاط الوِجداني، وتقف حائلًا بينه وبين التعبير عما يدور في نفسه من انفعالات، وتجعله متقلِّبًا بين الحبِّ والكراهية؛ فيصبح المصاب مُتقلِّبًا في عواطفه ومزاجه؛ مما يَصعُب التعامل معه، ويجعل التواصل المريح متعذِّرًا.

فيجب عليك تفقَّد طفلك طول اليوم، وكن معه رُوحيًّا وفِكريًّا؛ فاهتم به رضيعًا، ولا تؤخِّر حاجاته الأساسية (طعامه ونومه)؛ لكي يشعر بالاطمئنان والراحة ويَركَن إليك، واحمله برفق وحنان، وضُمه إلى صدرك، واعتن به بنفسك، ولا تدعه لأخواته ولا للخادمات، كن، وبقدر استطاعتك، وَدُودًا وهادئًا وسعيدًا بخدمته.

وقبل بلوغه العامين رافقه أكثر الأوقات؛ يلعب أمامك، ويأكل بحضرتك، ويخرج بصحبتك، وقُرْبك منه وكلامك معه لهما أثرٌ كبير على استقراره وهدوئه.

كن معه في آماله وآلامه، واعرف معاناته، وهذا مهم ومهم جدًّا، ولا تستهتر بأحزانه؛ لأن همومه بحجم عمره، وعجزه عن تركيب قِطَع لعبته قد يعني نهاية العالم بالنسبة له!

وستعرف آماله وآلامه من تعليقاته وكلامه، واتركه ليُعبِّر عن نفسه وقتما يشاء، ولا تكبته بقولك: اسكت أو قُلْ بسرعة، ولا تهمله وتتشاغل عن قوله بالعمل فيشعر بالنَّبذ، فقط ألق بالًا لكل ملاحظة تسمعها؛ فإن قال لك ابنك الكبير: لماذا تطلب مني دائمًا قضاء الحاجات ولا تطلبها من أخي؟، فهذه إشارة غَيرة، والغَيرة تتحوَّل إلى عُقْدة، وإذا سألك أحدهم: لماذا تقول لي أنا بالذات: أنت بطيء؟، فهذه إشارة إلى عُقْدة نَقْص قد بدأت تتكون في داخله، وإذا سمعته يقول: أبي مشغول عني بعمله وأصحابه، وحين أطلب منه شيئًا يقول: فيما بعد، فهذه إشارة إلى شعوره بالهضم والتهميش.

وانتبه لكلامه، فإن كرَّر على مسامعك خوفًا أو أبدى قلقًا على أمر ما، أرعه انتباهًا، فما لا تُلقي له بالًا قد يكون ذا شأن كبير، وقد يؤثِّر في صحة ابنك النفسية، فعليك مساعدته على تَجاوُز الأزمة؛ لئلا تُصبح حالة دائمة.

ابحث عن سبب الفعل (غَيرة، عِناد، شعور بالكَبْت)، وعالجه قبل أن يتحول إلى عقدة، واعرف ماذا يريد منك ابنك، وما الذي يُشبِع عواطفَه ويرضيه، وصَفِّ أحزانه أولًا بأول، وحُلّ مشكلاته؛ لئلا ينشأ حقودًا، ولا تتكلَّم عن الناس أمامه بحقد وغضب، فيسخط عليهم ويَكْره معاشرتهم.

وبعض العوارض تكون بمثابة إشارات تحذيرية للأم؛ فمحاولة الصغير لَفْت انتباهك بالحركات والكلام وكثرة المشاغبة تنبيه لك وتحذير مُبكِّر عن معاناته، والتمارض دليل لا ينبغي إهماله، وكذلك الانزواء والانطواء، وحتى الخجل الزائد، كلها دليل على منطقة ضَعْف في نفسيته، فتجنَّبها تارة، وداوها تارة أخرى، أقصد تجاهَل وضْعه في بعض المرات، وتصرَّف معه بشكل طبيعي، وشجِّعه على الإقدام في مرات أخرى.

وإذا وصلت الأمور لأكثر من ذلك كان الوضع أخطر؛ كالتخريب والإفساد في المتاع، وأيضًا في قَضْم الأظفار، والتأتأة، أو ترديده لبعض الجُمل بشكل دائم: أنا سيئ، أنا لا أستحق الحب، أنا عديم الفائدة، ليس بإمكاني عمل شيء.

كن واضحًا في كل توجيهاتك، ولا تكن متردِّدًا ولا فوضويًا في طلباتك وأوامرك؛ لئلا يتحيَّر ابنك، وكن أبًا واضحًا يعرف ماذا يريد من صغيره، ويفهمه ولده، ولهجة حديثك مهمة جدًّا ليعرف ماذا تريد: عتاب، غضب.

بَيِّن لصغيرك ما ينبغي أن يكون عليه في نقاط قليلة مفهومة؛ ليتسنَّى للصبي اتباعها والحرص عليها، وكرِّره كلما احتاج الأمر؛ فالصغير يلهو وينسى، وعلِّمه كلَّ الآداب في وقتها المناسب (عند الطعام: كُلْ بيمينِك، عند زيارة الأقرباء: اقرعِ الباب قبل الدخول...)، وينبغي أن تكون قوانين البيت ثابتة وواضحة للصغير، والممنوع ممنوع في كل يوم وفي كل وقت، وعليه الالتزام بالأوامر القطعيَّة ومن دون تَردُّد، وما يُزعِجك اليوم هو نفسه ما يُزعِجك أمس وغدًا.

وإذا أقدم على أمر لا يُرضيك عاتبه برفق وعلى الفور.

واعتذر منه إن غلطت بحقه؛ ذلك ليعلم أنك لست مُنزَّهًا عن العيوب، وتُخطئ كما يخطئ فلا يُقدِّسك، وإذا شعر ببشرِيَّتِك تقبَّل توجيهاتك وإن أخطأت، ورضي باتباع نصائحك ونفَّذها ولو أهملتها أنت، وسوف يحبك ويُقدِّرك ولو قصَّرت، ولن تَخسر عواطفه واحترامه أبدًا(9).

التربية النفسية في الاسلام:

كثير من الناس يعتقد أن الديانة الإسلامية ما هي إلا عبادات وتكاليف يؤديها المسلم؛ وهذا، بلا شك، فهم خاطئ، فالإسلام منهج متكامل للحياة، فمن يتبحر فيه يجد أن جميع العلوم التي يؤلف فيها علماء الغرب المراجع والبحوث تجد أن الإسلام عالجها وتطرق إليها قبل مئات السنين، ولكن من يأخذ الإسلام بسطحية، دونما يتعمق في مفاهيمه، لا يستشف هذه المعاني والدروس، فعلم النفس تطرق إليه المنهج الإلهي، وتجده في كثير من أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فالإسلام عمد إلى بناء شخصية المسلم المتوازن نفسيًا.

فالطفل مهما كان صغيرًا لا بد أن يتم التعامل معه بدرجة كافية من الاحترام والتقدير؛ وهي حاجة أساسية للنمو، فالحاجة للتقدير والحب تلي مباشرة الحاجة إلى الطعام والشراب؛ فينادى الطفل باسمه الذي أحسن والداه اختياره، وربما رخم الاسم تدليلًا، أو بأي من اللهجات الدارجة، أو نقول له: يا حبيبي،... يا قلبي، ونحو ذلك من الكلمات العاطفية التي تمنح الطفل مشاعر الحب التي يحتاجها.

ومن مقومات التقدير ألا يستهزأ به مطلقًا، فكم من جراح غائرة سببها المزاح الثقيل الممزوج بالاستهزاء من شكل الطفل أو شخصيته.

والتوازن بين إشباع الحاجات المادية والحاجات الروحية للطفل؛ فالطفل، كإنسان، له حاجات مادية لا بد من إشباعها، كلازمة من لوازم وجوده البشري، «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت»(10)، ويرى الكثير من خبراء التربية أنه يكفي إشباع 70% من مطالب الطفل، حتى لو كانت جميعها منطقية، وذلك حتى لا تفقد الأشياء مذاقها، ويتحول لطفل مدلل، فلا بد أن يشعر دائمًا أنه على الرغم من إشباع معظم حاجاته إلا أن هناك أشياء يتمناها وعليه بذل الجهد من أجل تحقيقها.

كذلك فإن الحرمان الشديد له عواقب وخيمة، فالحرمان يولد الحقد، وهو مصدر الشرور والآفات النفسية، وقد يقود الطفل إلى السرقة.

وهذه الحاجات المادية تسير بالتوازي مع إشباعات الروح فنقول له: لا معنى لألذ طعام ما لم نذكر اسم الله عليه، وهذه النعم الكثيرة لا بد أن نشكر الله تعالى عليها، واحتياجاتك التي تريدها اسأل الله تعالى أن يحققها لك(11).

تكامل التربية:

ونعني بهذا التكامل أن يتم الاتفاق بين الأم والأب على الأسلوب المناسب للتعامل مع الطفل، وقد يشترك آخرون، كالجد والجدة، إذا كان لهم دور فاعل في عملية التربية، كما أنه من المفضل أن يكون هناك علاقة جيدة مع المعلمين؛ بحيث يستطيع الوالدان أن يوضحوا للمعلم بعض معالم شخصية الطفل، وأسلوب التربية المتبع معه، وفي الوقت نفسه يزودهم المعلم بأي ملاحظات تطرأ على سلوك الطفل.

وتزداد الحاجة لعملية التكامل في حال طلاق الوالدين، أو وجود خلافات عميقة بينهما، إذ ينبغي أن تكون مصلحة الطفل فوق هذه الخلافات، ولا يتخذ غرضًا في الحرب الخفية أو المعلنة بين الطرفين، ولا ينبغي بحال تشويه الطرف الثاني وتشكيك الطفل في حب أحد والديه له؛ لأننا بذلك نعرضه لهزة نفسية عنيفة ناتجة عن إحساسه بافتقاد الأمان.

ولا بد من أجل نجاح عملية التربية من الناحية النفسية أن يعايش المربي مشاعر الطفل ويتفهم احتياجاته، فيلعب قليلًا مع الصغير ويداعبه؛ كما كان يفعل النبي صلى الله عله وسلم، ولننظر بتمعن لحديث أنس وهو يحكي كيف كان يراعي النبي الجانب النفسي للأطفال الصغار، فعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال: أحسبه فطيمًا، وكان إذا جاء قال: «يا أبا عمير، ما فعل النغير» نغر كان يلعب به(12).

كما ينبغي على المربي أن يحاول أن يتقمص شخصية المراهق، الذي يريد أن يثبت نفسه، ويقترب من عقليته التي تختلف بالطبع عن عقلية الإنسان الناضج، وكلما تمثل المربي شخصية الطفل وتفهمها كلما نجح أكثر في التعامل معها وأحسن توجيهها، ليصل بها إلى مرحلة الصحة النفسية.

الحقيقة أن معايشة العنف الأسري، والحدة في تربية الأطفال، والتشدد في معاملتهم يؤثر سلبًا على صحتهم النفسية والعقلية؛ إذ يجعلهم عرضة للخوف والعجز والفشل، ويقلل من قدراتهم على مواجهة المواقف الاجتماعية، ويخلق لديهم مشكلات عدة؛ كالاكتئاب، والقلق، والكذب، والعزلة، والانطواء، والسلوك العدواني، ومن جهة أخرى فإن من واجب الأسرة، وخاصة الوالدين، ألا تتجاوز حدود الحرص والاهتمام بأطفالها، أو تسرف في تدليلهم وحمايتهم، وتغدق عليهم الهدايا والهِبات، أو تقوم بالمسئوليات التي يجب أن يقوموا هم بها، فالدلال الزائد يجعل الطفل أكثر تمردًا وأكثر ميلًا إلى الغضب، ويَحرمه من فرص التفاعل الأمثل مع بيئته، إضافة إلى مشاكل أخرى؛ كضَعف الشخصية، والخوف والانطواء، والأنانية وغيرها، كما عليها ألا تتغاضى أو تتجاهل سلوكهم السلبي، أو تتستر على أخطائهم، وألا تفرضَ عليهم ما لا يرغبونه أو يطيقونه؛ تحقيقًا لرغبات الكبار في جَعْلهم نسخًا مكررة عنهم، ولا بد، وفقًا للتربية الحديثة، من إعطائهم الحرية المناسبة التي تُمَكِّنهم من اختياراتهم وفق رغباتهم، وبما يتناسب مع قدراتهم، ويراعي خصائصهم ومستويات نموهم، مع تحاشي تَرْكهم فعل كل ما يريدون بدون توجيه وإرشاد غير مباشر.

إنَّ الاتجاه السليم في التربية النفسية هو إيجاد نوعٍ من التوازن الممكن بين العطف والشدة، وبين الحب والحزم، أو الحب المعتدل والنظام الثابت، وبين الحرية والتوجيه، إلى جانب خلق بيئة مواتية لعلاقات تعاطف وتعاون بين الأبناء، والاتفاق على نهج تربوي واضح بين الوالدين.

لقد أثبتت الدِراسات النفسية الحديثة أن للعلاقات الإنسانية السائدة في الأسرة تأثيرات بالغة في الخبرات والانطباعات التي يكونها الطفل من محيطه، وأن الاضطراب العائلي بأشكاله يخلق لديه الشعور بعدم الاستقرار، ويضعف قدرته على التلاؤم مع نفسه ومع مجتمعه، ويمهد لمشكلات سلوكية عدة، بعكس الأسرة التي يسودها الدفء العاطفي والاحترام المتبادل، والتي تعود طفلها على حرية الرأي واتخاذ القرار، وتعامله وفقًا للقيم التربوية الحديثة، وتؤكد دراسات أخرى أن الأطفال الأكثر صحة وذكاء، والأكثر مقدرة على الإبداع والتواصل، هم الذين يعيشون في أجواء أسرية كهذه.

ومن الضرورة أن تعتمد الأسرة مع أبنائها أساليب المصارحة والمناقشة والحوار البناء، وأن تتيح لهم فرص إبداء آرائهم ومقترحاتهم، والسماح لهم بالحديث عن مشكلاتهم، وتقبل ما يطرحونه من أفكار وملاحظات، وإن كانت تبدو سخيفة للراشدين، وأن تجيب عن تساؤلاتهم إجابات صادقة ومبسطة، وتتحاشى التهرب منها؛ حتى لا تثبط رغباتهم في الوصول إلى المعرفة، ومن الخطأ أيضًا تخويفهم من أشياء معينة، أو سرد قصصٍ مرعبة لهم؛ كقصص الأشباح والحيوانات المفترسة، أو الكائنات الغريبة، أو السماح لهم بالإسراف في مشاهدة التلفاز، أو متابعة الإنترنت واللعب الإلكترونية.

إلى جانب الاهتمام بميولهم وهواياتهم، وتهيئة الأجواء لهم؛ لممارسة أنشطتهم، وتشجيعهم على القراءة والكتابة، وممارسة الرياضة بأنواعها، وإتاحة فرص اللعب الحر لهم؛ كونه يَهدف إلى الغاية ذاتها التي تهدف إليها التربية، كما يجب تدريبهم على المثابرة ومواجهة الصعوبات والتغلب عليها، ووضع العراقيل المصطنعة أمامهم؛ ليتعلموا كيف يجتازونها بأنفسهم، مع عدم السخرية أو الاستهزاء بقدراتهم، وأخيرًا تربيتهم على الاعتزاز بالذات وتقديرها، وعلى حب النظام وتحمل المسئولية واحترام الآخرين.

ذلك في إطار قناعات الأسرة بدورها في الصحة النفسية لأطفالها، وضمن سياسات تربوية متكاملة، تساير أحدث نظرياتها، وتنسجم مع معطياتها الحديثة(13).

قواعد الصحة النفسية للطفل:

يذكر د. محمد المهدي، استشاري الطب النفسي، مجموعة من القواعد الصحية التي يجب على الأسرة معرفتها لصحة نفسية أفضل للطفل، وهي:

1- التوازن بين التطور والتكيف: بمعنى أن يكون هناك توازن بين متطلبات نموه وتطوره، ومتطلبات تكيفه مع المجتمع والحياة، كون الطفل كائنًا ناميًا باستمرار.

2- الدوائر المتسعة: صحة الطفل، صحة الأم، صحة الأسرة، صحة المجتمع، فالطفل دائرة تحيطها مجموعة دوائر، يُفترض أن تكون جميعها في حالة توازن.

3- الصحة النفسية بين المطلق والنسبي؛ أي أن مفهوم الصحة النفسية عمومًا مفهوم نسبي وليس مفهومًا مطلقًا، يختلف من بيئة لأخرى، ومن مجتمع لمجتمع، ومن أسرة لأسرة، وما يمكن اعتباره صحيًّا في مكان يمكن اعتباره اضطرابًا في مكان آخر.

4- الاستقطاب بين النقيضين مقابل الحوار والتعايش: بمعنى أن هناك أسرًا أحادية النظرة وأحادية التفكير، فلا ترى الأشياء إلا بلونين فقط، ويرون أن ما يفعلونه هو الصحيح المطلق، وكل ما عداه خطأ ولا يَقبل النظر ولا التفكير ولا الحوار، فينشأ الطفل في هذا الجو على هذه النظرة.

5- الاحتياجات بين الإشباع والحرمان: إن للطفل حاجات متعددة، وهذه الاحتياجات لا بد من أن تُشبَع بتوازن، بمعنى أن نبدأ أولًا بالاحتياجات الأساسية، ثم الأمان والانتماء، ثم الحب، وهكذا كل حاجة من هذه الحاجات تشبع ولا تَطغى على الأخرى، مع ضرورة وجود توازن بين درجة الإشباع ودرجة الحرمان.

6- مواكبة مراحل النمو: بمعنى أن يعيشوا معهم مرحلة مرحلة، وهذه المواكبة مفيدة ليس فقط للأبناء؛ بل للأب والأم؛ لأنهما بحاجة أيضًا لأن يعيدوا هذه المراحل مرة أخرى لأنفسهم.

7- احترام إرادة الطفل.

8- مراعاة مشاعر الطفل.

9- رعاية مواهب الطفل واحترام الفروق الفردية بين الأطفال؛ إذ إن كثيرًا من الآباء والأمهات يريدون للأطفال أن يصبحوا قالبًا واحدًا، يريدونهم بنفس السلوك، ويُهدرون الفوارق الفرديَّة.

10- مراعاة الترتيب والتكامل في وسائل التربية، وهي وفقًا لعلماء التربية تتبع الترتيب التالي: القدوة، الثواب، العقاب، الذي يُتبع له وسائل أخرى؛ كالعتاب والتوبيخ، والحِرمان وغيرها، ولكي تسير العملية التربوية بشكل صحيح فلا بد أن تتوازن وتتكامل فيها كل الوسائل التربوية(14).

إن المعرفة بالأساليب التربوية السليمة في التعامل مع الطفل، والعمل بها قدر الممكن، إنما هي بوابة واسعة للتنشئة التي نريدها لِمَن هم أغلى مَن نَملك في الحياة، وتتيح لنا كمربين، في الوقت نفسه، أن نُسْهِم في تربيتهم، مؤمنين بقدراتهم في إثبات ذواتهم والتعبير عنها بحرية، متسلحين بالثقة والتفاؤل، متفاعلين مع مجتمعاتهم ومُتغيراتها، ومُدركين لقِيَم إنسانية سامية، هي كنه الحياة وغايتها.

ماذا لو أهملت التربية النفسية؟

عندما يهمل المرء تزكية نفسه فمن المتوقع أن تظهر عليه وعلى الدائرة المحيطة به الكثير من الآثار السلبية، هذه الآثار ستتفاوت من شخص لآخر بحسب درجة إهمال تزكية النفس.

فمن تلك الآثار المتوقعة: استحواذ المُعجَب بنفسه على الحديث في أي لقاء يجمعه مع غيره؛ لأنه يرى أنه أحسن من يتكلم.

قد تجده مصرًّا على فرض رأيه على من حوله، مُعرضًا عن الاستماع إلى آراء الآخرين، بل قد يسفه آراءهم، ولا يقيم لها اعتبارًا.

إكثاره من نصح الآخرين وتوجيههم، ونقد آرائهم وأفعالهم، وفي نفس الوقت تجده لا يقبل النصح من أحد، وخاصة من أقرانه أو من هم أقل منه سنًا أو شأنًا، ولا يسمح لأحد بنقد آرائه أو أفعاله.

يصعب عليه الاعتراف بخطئه، ويجتهد في تبرئة نفسه من أي اتهام بالتقصير، ولو اضطره ذلك إلى الكذب أو اتهام الآخرين بالتجني عليه وظلمه.

إذا ما تولى رئاسة عمل ما تراه شعلة نشاط، فإذا ما تم تأخيره ولو لخطوة واحدة، وَتقدَّم غيره عليه أصابه الفتور، وأخذ يتهرب من أداء التكاليف، مع تصيده لأخطاء من أخذ مكانه، وكثرة نقده والتقليل من شأن أعماله.

لا يحب الناجحين من أقرانه، ويتحاشى الحديث عنهم، فإن اضطر لذلك تجده يجتهد في إبراز سلبياتهم، والتقليل من حجم نجاحهم.

عندما يتحدث في أي محفل فإنك تجده دومًا يصبغ كلامه بالحديث عن نفسه (أنا .. لي .. عندي)، ولا يمل من تكرار ذلك.

لا يقوم بتفويض غيره من أقرانه، أو من يعمل تحت يديه بأداء أعماله ذات الصبغة التوجيهية ولو كانت صغيرة؛ لأنه لا يرى أن هناك من يمكنه أن يؤدي مثل أدائه المتفرد، ويوجه مثل توجيهه المتوحد.

كل هذا وغيره قد يؤدي إلى نفور الناس منه، وضيقهم من حديثه، وعدم العمل معه بتفان وحب، فكما يقول مصطفي السباعي رحمه الله: «إن نصف الذكاء مع التواضع أحب إلى قلوب الناس وأنفع للمجتمع من ذكاء كامل مع الغرور»(15).

ولنتذكر جيدًا أن التربية النفسية للطفل تعتمد على أنه:

عندما يعيش في ظل النقد المستمر فإنه يتعلم أن يدين الآخرين.

وعندما يعيش في ظل الأمن فإنه يتعلم أن يجد الثقة في نفسه.

وعندما يعيش في ظل العداوة فإنه يتعلم الهجوم.

وعندما يعيش في ظل من يتقبلونه فإنه يتعلم الحب.

وعندما يعيش في ظل الخوف فإنه يتعلم ترقب الشر.

وعندما يعيش في ظل الاعتراف به فإنه يتعلم أن يكون له هدف.

وعندما يعيش في ظل الشفقة الزائدة عليه فإنه يتعلم أن يتحسر على نفسه.

وعندما يعيش في ظل التأييد له فإنه يتعلم أن يحب نفسه.

وعندما يعيش في ظل الغيرة الزائدة فإنه يتعلم الشعور بالإثم.

وعندما يعيش في ظل الصداقة فإنه يتعلم أن العالم مكان جميل(16).

______________

(1) أدب الدنيا والدين، ص9.

(2) نحو تربية إسلامية، ص92.

(3) المصدر السابق، ص87–88.

(4) المصدر السابق، ص93.

(5) أخرجه البخاري (1358).

(6) أخرجه الترمذي (51).

(7) حلية الأولياء (1/ 37).

(8) معالم أصول التربية، ص471.

(9) كيف تتجنب العقد النفسية في التربية؟ شبكة: الألوكة.

(10) أخرجه أحمد (6495).

(11) الصحة النفسية للطفل المسلم، موقع: رسالة الإسلام.

(12) أخرجه البخاري (6129).

(13) الأسرة والصحة النفسية للطفل، موقع: ثقف نفسك.

(14) قواعد الصحة النفسية للطفل، موقع: واحة النفس المطمئنة.

(15) هكذا علمتني الحياة، مصطفى السباعي.

(16) أطفالنا وحب الإسلام، أماني زكريا الرمادي.