logo

التربية الهشة


بتاريخ : الثلاثاء ، 24 ذو القعدة ، 1444 الموافق 13 يونيو 2023
بقلم : تيار الاصلاح
التربية الهشة

لا تحبطوا الابن، لا تخوفوه، لا تمنعوه، دعوه يلعب، اتركوه يعبث ويبطش ويطيش، فله حريته المطلقة، وحياته المستقلة؛ يقوم وينام متى ما يشاء، ويسرح ويمرح ويتكلم متى ما يريد، جميع الأوامر منفذة، وكل الطلبات ميسرة.

هذه هي التربية الرخوة الهشة السطحية، المذمومة المرفوضة؛ التي تؤثر سلبًا على بناء الشخصية؛ فتجعلها ضعيفة مهزوزة، خاملة كسولة، فيها ميوعة وبلاهة، وسماجة وبلادة، لا ترى فيها سوى الأنانية والاتكالية، وعدم الرغبة في تحمل المسؤولية، مع تجاهل للتوجيهات التي تصدر من الوالدين؛ أو من المعلمين.

وإذا كانت تربية الأبناء باردة، ناعمة، خاملة، لا تهتم بتأصيل الروح الإيمانية، ولا تؤكد على الالتزام بالقيم الإيجابية، ولا تحاسب المخطئ على خطئه، ولا تزجر المستهتر على سلوكه؛ فإنها بذلك تكون هادمة غير بانية، فاسدة غير صالحة، ضارة غير نافعة.

وها هي اليوم نتائج هذه التربية ظاهرة أمامنا، وبارزة لنا بمساوئها وسلبياتها، حيث نجد بين الشباب من يتفنن في إيقاع السيئة، وارتكاب الخطيئة، ومنهم من يتنافس في فعل الأشياء المذمومة، والعمل بالأمور الممقوتة.

ففي المدرسة تشاهد لدى بعض الطلاب سوء أدب، وضعف تعلم، وقلة احترام، كما ترى الشاب يقود سيارته وهو يعبث بها، ويرتكب مخالفاتها، وأما في الطرقات فإنك تشاهد المتسكع، وكثير التجوال، والمسرف في اللهو واللعب، والملوث للمكان، والصادر منه الشجار، وبذاءة الألفاظ.

ولهذا يجب على كل مرب جهل دوره، وغفل عن عمله؛ أن يكون بصيرًا بأساليب التربية السليمة، والرعاية الصحيحة، وأن يكون حكيمًا في العمل بها، يضع الأمور في مواضعها، وأن يكون له قوة في التربية؛ ولكن بفطنة وكياسة، فلا يتساهل مع حالة تستوجب الحزم والتقريع والغلظة، ولا يقسو مع حالة تستوجب الرفق واللين والرحمة.

فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازمًا        فليقْسُ أحيانًا على من يرحم

أما مهارات الهشاشة والبشاشة، والدعابة المرحة، والممازحة اللطيفة؛ فهي ليست مهارات سلبية؛ تزرع الضعف والنعومة، بل هي مظاهر تربوية مطلوبة، يجد معها المتربي الراحة والطمأنينة، وتغرس فيه المودة للمربي، وتدفعه إلى احترامه، والقيام بتوقيره، والتحلي بسلوكه، والعمل بإرشاداته، والأخذ بتوجيهاته (1).

قد يتبادر إلى الذهن مباشرة أن أسباب تلك المشكلة تكمن بأننا نعيش في عالم مليء بالمخاطر التي تحيط بنا وبمن نقوم على تربيتهم، فنحن نواجه حربًا تستهدف أجيالنا، وتعمل على مسخ هويتهم وإخراجهم من دينهم، وأدوات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت غزت كل بيت، وأصبحت تؤثر بشكل كبير على سلوكيات الأبناء وتوجهاتهم وأذواقهم، وأخيرًا اضطر الكثير منا للهجرة إلى ديار الشرق والغرب، وفيها ثقافات بعيدة كل البعد عن تعاليم الدين والأخلاق، ومن الطبيعي أن يتأثر بها الأبناء، وليس لدينا القدرة على حمايتهم من الاختلاط بتلك الثقافات، كما أن الحروب الدائرة في ديار المسلمين أشغلتهم عن تربية أبناءهم واضطرتهم للعيش في مساكن ضيقة أو مشتركة لا تساعد على تربية الأبناء، وأصبح هم الواحد منا تحصيل لقمة العيش والبحث عن المكان الآمن للعيش.

فإذا كنا نعيش في عصر مليء بالمخاطر، فهل خلت العصور السابقة من بعض تلك المخاطر؟ وكيف استطاع أسلافنا الحفاظ على هوية أجيالهم والتصدي لتلك التحديات؟

كيف استطاع أعداؤنا التأثير على فئاتٍ من أبناءنا، ولم نستطع نحن حمايتَهم وتحصينهم من التأثُّر السلبي بما يعترض طريقهم من الشهوات والشبهات؟

ما الذي جعل كثيرًا من الأبناء يتأثَّرون بأفكار الغلوِّ والتطرُّف والإلحاد في مدّة وجيزة، ويمارسون بعض السلوكيات الغريبة والمستهجنة ويدافعون عنها؟

ألم تعانِ بعضُ مناطق العالم الإسلامي من حروبٍ ودمار، لكنّها أخرجت من تحت الأنقاض قادة في مجالات متعددة؟

هذه التساؤلات وغيرها الكثير ليس الغرض منها بث الحيرة والتشاؤم؛ وإنَّما تحريك الأذهان لتوصيف الحال والبحث عن الحلول؛ للخروج من تلك المعضلة التي تؤرق الأهل والمربين.

ثمة أسباب جوهرية وراء ما نعانيه من أزمات تربوية، ومن أبرز تلك الأسباب: (سطحية التربية) والتي تتمثل في تكثيف بعضنا لجهودهم نحو قيام المتربين بالسلوكيات الظاهرة، وعندما يقع أحدهم بالخطأ نعمل أيضًا على تعديل هذا السلوك من خلال أمره بالقيام بالسلوك الصحيح، ولم ننتبه إلى أنَّ سلوكَنا وسلوكَ من نُربي ليس سلوكًا عارضًا ولم يأتِ من فراغ، وإنما وراءه دوافع ومحرِّكات كوّنت تلك السلوكيات قبل حدوثها.

وتركيزنا على بناء وتعديل السلوك الظاهري دون التوجُّه إلى إحداث تغيير في العوامل المشكِّلة للسلوك هو نوعٌ من التغيير السطحي، وربما المؤقَّت القاصر، والذي هو عُرضة بدرجةٍ عاليةٍ من الخطورة لتغيُّر السلوك إلى سلوكٍ سلبي، إذا توافرت الظروفُ المناسبة من عوارض خارجية أو محركات داخلية فيها إشباع لحاجات فكرية أو رغبات نفسية أو فطرية بأي طريقة كانت، فانتكاسُ العديد من الأبناء قد لا يكون له علاقة باهتمامنا بتربيتهم أو عدمه، وإنَّما السبب هو التربية الخاطئة التي تُنتج ابنًا غير مكتمل التربية معرضًا للانتكاس، وهي التربية التي حرص فيها المربون على الاهتمام بتعويد الأبناء على السلوك الظاهر قبل العناية بغرس القيم، ودون الاهتمام بتعميق المعتقدات والمفاهيم والتربية الوجدانية.

التربية الهشة هي التي حرص فيها المربُّون على الاهتمام بتعويد الأبناء على السلوك الظاهر قبل العناية بغرس القيم، ودون الاهتمام بتعميق المعتقدات والمفاهيم والتربية الوجدانية.

مفاهيم لتعميق التربية والسلوك:

مما سبق يظهر أننا بحاجة لبعض المفاهيم التربوية التي تعمل على تعميق التربية وتجذير السلوك في المتربي، وفيما يلي بعض المفاهيم المتعلقة بهذا الموضوع:

قال عُتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده عبد الصمد: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاحك بني إصلاحُك نفسَك؛ فإن أعينهم معقودةٌ بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيحُ عندهم ما استقبحت، علِّمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم رووهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه (2).

- بناء السلوك وتعديله عملية نمائية، ومن مبادئ علم نفس النمو أن النمو يمر بمراحل، وأن الفرد ينمو نموًا داخليًا كليًا.. وليس من الخارج، ويستجيب ككائن كلي، ومصدر النمو هو الفردُ نفسه (3)، وأيُّ عملية نمائية للإنسان يجب أن تسير وفق هذا القانون، لذا فإن تربية الطفل لا بد أن تبدأ ببناء جوهره أولًا، ثم ينعكس هذا البناء على سلوكه، كما يجب أن يكون تكوين السلوك ضمن مراحل، والإنسان يولد وهو مزود بداخله بمجموعة من الدوافع والغرائز الطبيعية التي تمكنه من العيش وأداء أدواره، ولهذه الدوافع أثر كبير على سلوكه (4)، ونمو تلك الدوافع ونضجها وعملها يمر بمراحل تبعًا للمراحل العمرية التي يعيشها الفرد، ودور التربية فيما يتعلق بتلك الدوافع تعليمه كيف يضبطها ويديرها ليتم إشباعها بطريقة صحيحة، ويصدر عن الفرد سلوك إيجابي تجاه نفسه ومن حوله.

- السلوك يمكن أن يكون حيويًا أو هشًا حسب اللُّب (التربية الداخلية العميقة)، فكلما كان اللبُّ حيًا كان السلوك حيويًا وملتصقًا به، حتى لو تلقّى هذا السلوك بعض الصدمات الخارجية، فهناك ما يُسنده من الداخل، وإن حصل فيه نوع من التصدُّع فسرعان ما يلتئم الصدع أو يتبدّل بآخر، أما إن ضعُف اللب فإنَّه سيصبح عُرضة للتغيُّر مع التقلبات والأوضاع، كما الثمرة التي يصيبها العطن من داخلها فيبدأ ذلك بالظهور على سطحها حتى يسري فيها وتضعف وتتشقق ويسهل كسرها.

- كلما اعتنى المربي بتربية جوهر المتربي وتزكية نفسه، انعكس ذلك على سلوكه إيجابيًا بالصلاح والاستقامة، وأحدث لديه حالة من التوازن عند اشباع دوافعه وحاجاته وفق ما أمره الله

فكلَّما اعتنى المربي بتربية جوهر المتربي (القيم– المعتقدات– الأفكار– الوجدان) وتزكية نفسه انعكس ذلك على سلوكه إيجابيًا بالصلاح والاستقامة، وأحدث لديه حالة من التوازن عند اشباع دوافعه وحاجاته وفق ما أمره الله، وكانت استجابته عن حب وطمأنينة، ولو تعرَّض لمثيرات سلبية فإنَّ نفسَه المؤمنة سوف تحجزه عن ارتكاب السلوك الخاطئ، ولو زلّت قدمُه فإنَّ نفسه سرعان ما تدعوه للإقلاع عما يفسد سلوكه أو لتبديل السلوك السلبي بسلوك إيجابي، وأن يحدث توبة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].

- السلوك هو ثمار لشجرةٍ إن كان أصلها طيبًا وجذورها عميقة كانت ثمارها طيبة، أما إن كانت جذورها ضعيفة سطحية؛ فسرعان ما تسقط الشجرة كاملة بما تحمله من ثمار، وإن كان لبُّها عفنًا أنتجت لنا ثمارًا فاسدة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 24- 27]، فمع أهمية المظهر (السلوك الظاهر) والمطالبة بإصلاحه، لا بدَّ من العناية بتربية وتكوين الجوهر (قيم– معتقدات– أفكار) بحيث يكون منبعًا لهذا السلوك ومرجعًا له، ومحركًا له، وأخطر ما يمكن أن يُفشِل المشروع التربوي هو العمل عليه وتمثيله بسلوكيات ظاهرة وصور خارجية لا علاقة قوية لها بمقاصد التربية ومراميها العميقة.

- ينبغي تشكيل المفاهيم الصحيحة للطفل والاهتمام بالتربية الوجدانية، ثم مطالبته بالسلوك الذي يحقِّق تلك المفاهيم، وعندما يصل إلى مرحلة التمييز يزوَّد بالقيم والمعتقدات والأفكار ثم يطالب بالسلوكيات التي تتفق معها، فعن جندب بن عبد الله، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن فتيان حَزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمانًا (5).

- تربية النبي صلى الله عليه وسلم بدأت بتغييرٍ في العقائد، والأفكار، والتَّصوُّر، وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه؛ حيث كان اهتمام التربية الإسلامية في العهد المكي منصبًا على ترسيخ الجوانب الفكرية والعقدية والإيمانية، الأمر الذي أحدث بعد ذلك تغييرًا في سلوك الصحابة رضوان الله عليهم بما يتلاءم مع ما تشبعت به نفوسهم من إيمانٍ راسخ، ثم بعد ذلك فرُضت العبادات والتي تعبِّر عمّا يحمله المسلم من عقيدة وتعظيم وتسليم لله رب العالمين، وإذا فقدت العبادات القيم التي تحافظ عليها وتحميها غدًا صاحبها مفلسًا، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقالَ: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» (6)، بهذا المعنى تصبح العبادات، التي لا تُثمِر أخلاقًا في سلوك المتعبِّدِ، علامةً على إفلاسٍ داخلي، أو قل: تُصبِحُ مجردَ طقوسٍ بلا معنى.

- من خصائص السلوك الإنساني إمكانية ضبطه وتهذيبه وترشيده وتوجيهه؛ وذلك لا يكون عن طريق قمعه والمنع منه، وإنما يكون عن طريق إدراك دوافع السلوك والإلمام بطبيعةِ المُثيرات -الداخلية والخارجية- المحدّدة التي تؤدي إلى استجاباتٍ معينة (7)، فالسلوك ليس استجابةً لمثير خارجيٍّ فقط (كما تدعي المدرسة السلوكية) بل هو أيضًا لسان الحال المعبِّر عما في داخل النفس من قيمٍ ومعتقدات، وهو القالب الذي تتجسَّد فيه المشاعر والأحاسيس والعواطف والانفعالات والغرائز (8)، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، فالعليم سبحانه وتعالى جعل التقوى هي الضابط للدوافع التي خلقها في عباده، وجعل اجتناب الكبائر والفواحش مؤشر عليها.

السلوك ليس استجابةً لمثير خارجيٍّ فقط! بل هو أيضًا لسان الحال المعبِّر عما في داخل النفس من قيمٍ ومعتقدات، وهو القالب الذي تتجسَّد فيه المشاعر والأحاسيس والعواطف والانفعالات والغرائز (9).

ومن خلال ما سبق، فإن المربي عليه أن يكون كصياد اللؤلؤ فلا يرجو المربي من تربيته إخراج طلاب سطحيين يرضى منهم بأية نتيجة؛ بل عليه إخراج طلبة مربين تربية عميقة كاللؤلؤ المكنون في عمق البحر، وهذا يحتاج للصبر والأناة والاجتهاد والنفس الطويل.

ولا شك أن بعض المربين يكتفون بتربية سطحية تركّز على بعض الشكليات أو الأمور التي تتعلق برعاية المـُربى لا بتربيته تربية حقيقية، فينحرف المـُربى في أول فتنة يتعرض لها، والتربية بهذا الأسلوب مضيعة للجهد والوقت دون طائل.

فمن المؤثرات الداخلية للتربية السطحية؛ قلة خبرة المربي التربوية، فتراه يخبط خبط عشواء في العملية التربوية، فإذا وصل لأية نتيجة اعتبر أنه وصل للمراد من العملية التربوية.

 قلة خبرة المربي التربوية، فتراه يخبط خبط عشواء في العملية التربوية، فإذا وصل لأية نتيجة اعتبر أنه وصل للمراد من العملية التربوية، ويدخل في هذا الباب التأثر بمظاهر المتربين الخارجية من لباس وعبادة ظاهرة وغير ذلك.

 - عدم إخلاص المربي لله تعالى في تربيته، فهو يسعى لإظهار نفسه أمام المجتمع المحيط بأنه قدّم إنجازًا تربويًا، فيتحدث الناس عن إنجازاته.

- ضعف شخصية المربي أمام أتباعه، فيسعى لإرضائهم بأي شكل، مما يؤدي لحرف العملية التربوية عن مسارها الصحيح فينتج عن ذلك أناس سطحيين.

- تعلق المربي العاطفي بمن يربيهم، فيختل الميزان التربوي عنده لخضوع تقييم المتربين للعاطفة والقلب، فيعطيهم تقييمًا فوق ما يستحقون.

- قلة لقاء المربي بمن يربيهم؛ بسبب انشغاله، أو بسبب طبيعة اللقاءات التربوية، كأن تكون أسبوعية أو شهرية مما يؤدي إلى تأثر الطلبة بكثير من المؤثرات الخارجية؛ فتهدم ما يبنيه المربي أولًا بأول.

- اعتقاد المربي أو المعلم أن الإنجاز في المنهاج النظري يؤدي إلى الارتقاء بالطلبة تربويًا، دون الانتباه إلى الفرق بين الأمور النظرية والعملية.

التربية العميقة:

صناعة الجواهر التربوية تحتاج لسهر وتعب وتفكير من المربي، وهمّ يحمله ويؤرقه، بالإضافة لإبداع وسائل جديدة وبشكل مستمر.

إن صناعة الجواهر التربوية تحتاج لسهر وتعب وتفكير من المربي، وهمّ يحمله ويؤرقه، بالإضافة لإبداع وسائل جديدة وبشكل مستمر.

كما أن قوة المربي العلمية وخبرته التربوية وذكائه لها دور كبير في التربية العميقة للطلبة، فلا يرضى بأي نتيجة، بل يسعى لإيجاد أفراد قادرين على التقدم بمسار الدعوة، وحمل أعبائها، وإنجاح وتقوية مشاريعها.

ولهذا، على المربي أن يتجاوز فكرة التربية السطحية الهشة، لأنها تدمر المناعة الداخلية للأفراد، ولا توجد إلا من هم عبء على الدعوة، وعليه أن يسعى لتحقيق ما يتوافق مع روح الدعوة، والمتمثل بالتربية العميقة القوية، والتي يمكن تحقيقها من خلال مجموعة من الأمور التي لا بد أن تتوفر في المربي، وفي الطبلة والمتربين، والمتمثلة بما يأتي:

أولًا: فيما يتعلق بالمربي:

- انتقاء المربين الذين وقع عليهم جهد تربوي سابق، وخاصة من كان متميزًا منهم وعايش المربين فترة طويلة، وممن هم قدوات في سلوكهم وأخلاقهم؛ لأن ذلك يعطي المربي خبرة تربوية سابقة فيقيس عليها ويطورها.

- الحرص على تدريب وتأهيل المربين قبل خوضهم العملية التربوية، بالقيام ببعض الدورات في كيفية التعامل مع الطلبة على اختلاف طباعهم، وكيفية حل المشكلات وغيرها مما يناسب المربي.

- العناية بقلب المربي وعلاقته مع الله تعالى، بالإضافة لبعض البرامج الإيمانية والروحانية وتذكيره الدائم بالإخلاص لله تعالى، ولا شك أن تحقيق الإخلاص يحتاج لمجاهدة للنفس، فكلما زاد إخلاص المربي، زاد تأثيره في الطلاب وكما قيل "قل لغير المخلص لا تتعب.

- مراقبة علاقة المربي بالطلبة حتى لا يقع بفخ التعلق العاطفي، وتوجيهه إلى ضرورة عدم تأثير العاطفة على العملية التربوية.

- تكثيف لقاء المربي بطلبته، فكلما كان لقاء المربي بالطلبة أكثر كلما كان تأثيره عليهم أكبر.

- تخفيف الضغط على المربي من قبل قيادات العمل التربوي؛ فيما يتعلق بالإنجاز حتى يأخذ العمل طبيعته بأريحية، وتشجيع المربي وتقييم عمله بموضوعية لصعوبة العمل التربوي وأهميته.

فيما يتعلق بالمتربين:

- التركيز على تعليم الطلاب مفهوم الالتزام الحقيقي، وهو الجوهر الداخلي، فلا يعلق المربي طلبته بشكلهم الخارجي، أو القيام ببعض العبادات فقط؛ فإذا وصل لها الطالب وصل لغايته، ويغرس المربي في أذهان طلبته أن على المسلم الاستمرار في تزكية نفسه حتى مماته.

- العناية بقلب المتربي وتربيته على مراقبة الله تعالى في السر والعلن، والإخلاص لله تعالى، فهو لله تعالى ويعمل لله وكله لله تعالى، حتى يخرج من دائرة النفاق والرياء، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، والتركيز على ذلك في المنهاج وبعض الأنشطة الإيمانية مثل الصيام والقيام وغيره.

- تعهد المربي طلابه بالمحاسبة المستمرة، فقد قال سيدنا عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم.

- التكاليف المتعلقة بالتطبيق العملي للمنهاج النظري، مثل: الصدقة بعد الدرس المتعلق بها أو الهدية للأم بعد درس بر الوالدين.

- تعليم الطلاب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بإشراف مباشر من المربي أو المعلم، والطلب منهم أن يكونوا قدوة للمدعوين، فيكون الطالب المتأثر قبل المدعوين، قال تعالى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

- استغلال بعض المشكلات والمواقف التي تحدث من الطلبة لزرع القيم وتوجيه السلوك، فقد يستغل المربي الذكي نزاعًا بين طالبين لتعزيز الأخوة بينهما، أو موقفًا لتعزيز غض البصر وهكذا، وهذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عمر بن أبي سلمة، يقول: كنت غلامًا فِي حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك»، فما زالت تلك طعمتي بعد (10).

وختامًا:

فإن أولادنا هم هبة من الله تعالى أنعَمَ بهم علينا، وشكر هذه النعمة وتمامها يكون بتربيتهم التربية السليمة، والمطلوب منّا تجاهَهم لا يقف عند تعويدهم على السلوكيات الصحيحة وحمايتهم من المخاطر الخارجية، فمعَ أهمِّيتها لكنها لا تكفي لإنشاء جيل صالح ومُصلح، وإنما الأهم هو بناؤهم من الداخل؛ بزرع المفاهيم والقيم والمعتقدات في نفوسهم، وتعودِيهم على ضبط مشاعرهم وانفعالاتهم؛ لينعكس ذلك في سلوكيّاتهم، ومع تكرار تلك السلوكيات تُصبح جزءًا من شخصياتهم، فإذا وصلوا لمرحلة تحمُّل المسؤولية كانوا ممكّنين قادرين على الثبات على مبادئهم والحفاظ على هويتهم، بعد توفيق الله ومنّته.

---------

(1) التربية الرخوة/ الجزيرة (العدد: 15887).

(2) البيان والتبيين (2/ 73).

(3) أساسيات علم النفس (ص: 123).

(4) المدخل إلى علم النفس (ص: 163).

(5) أخرجه ابن ماجه (52).

(6) أخرجه مسلم (2581).

(7) أساليب تعديل السلوك الإنساني (ص: 13).

(8) تعديل السلوك الإنساني في التربية الإسلامية (ص: 1).

(9) التربية الهشة/ مجلة رواء (العدد: 3).

(10) أخرجه البخاري (5376)، التربية السطحية تدمير للمناعة الداخلية للأفراد/ بصائر.