logo

الجانب الاقتصادي للأسرة المسلمة


بتاريخ : الثلاثاء ، 17 شوّال ، 1441 الموافق 09 يونيو 2020
بقلم : تيار الاصلاح
الجانب الاقتصادي للأسرة المسلمة

كلما استقر الوضع المادي للأسرة وتوفرت لدى أفرادها متطلبات الحياة؛ كلما كان ذلك أدعى للشعور بالرضا والسعادة، وكلما افتقرت الأسرة في مواردها واحتاجت للتذلل من أجل لقمة العيش؛ كلما كان ذلك سببًا في انحراف أفرادها وتشرد أبنائها، لذلك اعتبر الإسلام الافاق على الأهل صدقة وقربة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك» (1).

قال الطبري: ما مُلخّصه: الإنفاق على الأهل واجبٌ، والذي يُعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبةً، وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوّع.

وقال المهلّب: النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سمّاها الشارع صدقة خشية أن يظنّوا أنّ قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر، فعرّفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يَكْفُوهم؛ ترغيبًا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوّع.

وقال ابن الْمُنّيِّر: تسمية النفقة صدقةً، من جنس تسمية الصداق نِحْلَةَ، فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها -في اللذّة والتأنيس، والتحصين، وطلب الولد- كان الأصل ألا يجب لها عليه شيء، إلا أنّ الله خصّ الرجل بالفضل على المرأة بالقيام عليها، ورَفَعَه عليها بذلك درجةً، فمن ثَمَّ جاز إطلاق النحلة على الصداق، والصدقة على النفقة (2).

والاقتصاد المنزلي ضروري لمواجهة أعباء الحياة؛ نتيجة زيادة أسعار السلع المختلفة والخدمات، الأمر الذي يتطلب الانتفاع بالموارد المتاحة إلى أقصى حد ممكن وبطريقة سليمة.

ومما لا شك فيه أن الأسرة التي تهتم بتخطيط أسلوب حياتها، سوف تحقق أهدافها؛ لذا ينبغي مراعاة إمكانات الأسرة واتباع نظام الإنفاق السليم، من حيث عدم زيادة مقدار المنفق على الدخل، وتوزيع الدخل قدر الإمكان على أبواب الإنفاق.

يقول تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط.

قال جل جلاله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29].

والمسلم مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة ليس حرًا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء؛ كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان؛ إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير.

فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع؛ والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله، فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية.

والإسراف والتقتير يحدثان اختلالًا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب، ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق.

والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] (3).

ميزانية الأسرة:

تلعب ربة المنزل دورًا مهمًا في إسعاد أسرتها، وذلك بإدارتها الحكيمة لشؤون المنزل وتدبير مصروفاته وصحة أفراده.

فالمنزل هو المكان الذي يسعد فيه جميع أفراد الأسرة، ومن العوامل المساعدة على توفير السعادة في الأسرة الناحية المادية من حيث تقدير دخل الأسرة وتنظيم ميزانيتها، حيث توفر جميع حاجات ومتطلبات الأسرة؛ للمحافظة على صحة الأفراد، وتأمين الملبس والمسكن المريح.

ويا ليت لو اهتمت الأسر بتخصيص مبالغ مالية للتوفير والادخار لوقت الحاجة والطوارئ المفاجئة؛ إذ أن ربة المنزل الواعية هي التي توزع ميزانية الأسرة على الأبواب اللازمة للإنفاق.

لذا، ينبغي وضع ميزانية محكمة للأسرة، تضبط النفقات وتحدد الإيرادات وأوجه الصرف، مع المراقبة الدقيقة لهذه الميزانية.

الخطة والتخطيط:

كثيرًا ما يكون لدى الفرد العديد من الأعمال التي تحتاج إلى إنجاز في وقت محدد، أو يحتاج إلى القيام بعمل لم يسبق له القيام به فيما مضى؛ في هذه الحالات، وغيرها يكون التخطيط هو الحل، إذ يحدد الخطوات الواجب اتباعها للوصول إلى هدف معين، ويحدد الوقت المطلوب لإنجاز هذه الخطوات، وعن طريق ذلك يمكن تصور العقبات التي قد تصادفنا، والهدف الذي نريد الوصول إليه.

فالتخطيط هو الخطوة الأولى في العملية الإدارية، والخطة هي تصور لبعض الأعمال المستقبلية، وهي مرحلة تسبق أي عمل من الأعمال.

وفي الأسرة، ينبغي أن يشترك جميع أفرادها في إدارة شؤونها، فمرحلة التخطيط أهم المراحل التي ينبغي إشراك أفراد الأسرة فيها؛ لمناقشة المشكلات المتوقعة والرغبات المطلوبة والمفاضلة بين الأهداف المطروحة على ضوء الموارد المتاحة.

إن في ذلك -إلى جانب الفوائد الاقتصادية العديدة- تقوية للروابط الأسرية، وتكوين شخصيات فردية ذات مسؤولية عالية وذات تخطيط وتفكير سديد.

عملية الشراء:

ليست عملية الشراء سهلة، كما يظن بعض الناس، بل تحتاج إلى تفكير ودراية، إن قرارات مثل: كم من النقود مع الأسرة معدة للشراء؟ وما نوعية الأطعمة التي تشترى؟ ومن أي الأماكن تشترى الاحتياجات؟ وكيف تخزن هذه الأطعمة؟ إن هذه القرارات تؤثر على أفراد الأسرة؛ لذا لا بد من التفكير العميق والخبرة والمقارنة بين الأثمان والأنواع؛ ليكون قرار الشراء صائبًا حكيمًا.

ومن ثم، فأول ما ينبغي مراعاته أثناء عملية الشراء هو عدم شراء أكثر من الحاجة، أي شراء كميات الغذاء اللازمة فقط؛ لتجنب التلف لما يزيد عن الحاجة، كما ينبغي الشراء من المحال النظيفة التي تتبع التعليمات الصحية في العرض والتغليف والبيع.

فقد أدى التقدم التقني والاجتماعي والاقتصادي إلى ظهور الأسواق المركزية التي سهلت للمشتري اختيار وشراء ما يطلبه من الأطعمة بالنوعيات التي يحتاجها وتناسب اقتصاداته.

دعوة للاقتصاد:

إن على ربة المنزل الواعية أن تكون أول من يحافظ على ميزانية الأسرة، وتحاول الاقتصاد في المصروفات والاعتدال في النفقات.

إن المستهلك الرشيد هو ذلك المستهلك الذي يراعي مبدأ الرشد والعقلانية والاعتدال في أكله ومشربه وملبسه ومنزله وسيارته وأثاثه، واستخدامه للكهرباء والمياه؛ حماية لنفسه ولأسرته.

إن المستهلك الرشيد هو الذي يراعي قرارات الشراء والاستهلاك، بحيث تكون في الوقت المناسب وللحاجة المطلوبة ومن المكان المناسب وبالسعر المناسب وبالجودة المطلوبة وبالقدر اللازم والحجم المناسب والنوعية المطلوبة.

والمستهلك الذي يراعي ذلك يمكن أن يحقق الرشادة الاقتصادية والعقلانية الحكيمة من وجهة نظر الاقتصاد المعاصر، بحيث لا يقع فريسة التلاعب والاستغلال، ولا ينساق خلف الإسراف والتبذير، ولا تتعرض سلعه وبضائعه للكساد والتلف والفساد.

ومن ثم، فلا بد من توفير القدوات الاستهلاكية، ومراعاة الاقتصاد في النفقات، والاعتدال في المصروفات، والترشيد في الاستخدام، والتقليل من مظاهر الإتلاف (4).

ضوابط شرعية مهمة:

أولًا: تحري الكسب الحلال الطيب والتحرز من الحرام الخبيث:

إن تحرى الكسب الحلال من الواجبات التي أمر الله سبحانه وتعالى بها في القرآن الكريم، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].

عن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» (5).

والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك» (6).

ثانيًا: التشاور بين الزوج والزوجة في ميزانية البيت:

لا يخلو أي منزل من الخلافات لأسباب عديدة، ولكن قد يكون هناك رابط مشترك وسبب وراء نوع من هذه الخلافات تشترك فيه الكثير من الأسر، وهي تلك التي تدور حول مصروف البيت، فحصر النفقات أصبح أمرًا شبيهًا بالمستحيل، وذلك نتيجة غلاء المعيشة وزيادة المتطلبات، الأمر الذي يؤرق رب الأسرة ويجعل طريق التحكم في الميزانية طريقًا مسدودًا، مما يسبب الخلافات الأسرية.

ولكي نتجنب هذه الخلافات:

1- التفاهم المسبق والمصارحة: الصراحة أساس كل شيء، وما يبنى عليها يكون بناءً سليمًا من الصعب هدمه، لذا لا تترددي في الجلوس مع زوجك ومناقشته حول الوضع المادي والتحدث بصراحة وشفافية مطلقة، فهذا الأمر بالتأكيد سيجنبكما الكثير من المشاكل لاحقًا.

2- الاتفاق على ميزانية واضحة للوضع المادي: خلال جلسة النقاش قوما بوضع ميزانية محددة سويًا تتضمن احتياجاتكما واحتياجات المنزل، ولا بأس من بعض التنازلات إذا كان من الصعب أن تلبي تلك الميزانية جميع احتياجاتكما، فأنتما تعيشان حياة مبنية على المشاركة في كل شيء، وهنا يجب الشعور بالمسؤولية وعدم زيادة الحمل على أي منكما، ويجب أن تنتبهي لنقطة هامة تتضمنها ميزانيتك، وهي وضع قواعد وقوانين تتفقين عليها أنت وزوجك كأن لا يتجاوز معدل مشتريات الفرد مبلغًا معينًا من المال.

3- عدم المقارنة: تقبلي وضعك كما هو وحاولي تحسينه إذا كان باستطاعتك ذلك، وتوقفي عن مقارنة معدل إنفاقك بأي أسرة أخرى؛ لأن ميزانية أسرتك ودخلها مختلفان نوعًا ما، كذلك طريقة الإنفاق، والمقارنة لا تسبب سوى المشاكل مع الشريك والشعور بالحرمان، فتوقفي عنها واحمدي الله على نعمته.

4- طلب المساعدة إن لزم الأمر: في حال وجدتِ صعوبة في الأمر، وقائمة مشترياتك تجاوزت الحد، ولم تستطيعي تعديل أسلوب الإنفاق الخاص بك، لا بأس من استشارة أخصائي يساعدك على حل هذه المشكلة.

5- عدم إلقاء اللوم أو الاتهام: توقفي عن التذمر وإلقاء اللوم على شريكك واتهامه بالتقصير بسبب الميزانية التي لا تلبي كافة احتياجاتكما، وقوما بإيجاد حل لهذه المشكلة بعد معرفة أسبابها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن التحكم في المصروف يجب ألا يكون بيد أحد الطرفين، فالنجاح في هذه المهمة مبني على المشاركة، وبما أننا في طور الحديث عن الميزانية، نقدم لك من خلال السطور التالية الطريقة المثلى لإعداد ميزانية ناجحة:

1- عند البدء بإعداد الميزانية خذا الوقت الكافي ولا تتسرعا لإنشاء ميزانية ناجحة ومناسبة.

2- يجب وضع ورقة في مكان يسهل الوصول إليه، وتدوين كل المصروفات عليها.

3- بعد ثلاثة أشهر من التدوين عودا إلى تلك الأوراق، وصنفا المصاريف كالتالي: مصروفات طعام، مصروفات أقساط وفواتير، مصروفات مواصلات، مصروفات تعليم، مصروفات تسلية وترفيه، مصروفات طبية ثابتة، مصروفات طارئة.

4- قوما بإعادة ترتيب الأولويات في الميزانية، فمصروفات الطعام والفواتير والتعليم هي أكثر أهمية من التسلية والترفيه، ثم اجمعا المصروفات الهامة.

5- اعملا على تخفيض النفقات، مثلًاً: المشي ساعتين يوميًا يغنيكما عن ممارسة الرياضة في أحد النوادي، وبالتالي توفير قيمة الاشتراك.

6- الآن جاء وقت وضع خطة جديدة تتضمن مجموع التكاليف الخاصة بالأولويات، ثم يتم طرحها من الدخل الشهري، وما يتبقى من الممكن أن يكون للرفاهية أو الادخار.

7- وأخيرًا يجب إعادة الحسابات في نهاية كل شهر وإعادة ترتيب الأولويات وتصنيفات المصروف وفقًا لما هو مناسب لكما.

ثالثًا: الاكتفاء بالضروريات والبعد عن الكماليات ما أمكن:

الاهتمام بالمظاهر والأمور الكمالية يعكس المستوى المادي الذي تعيشه بعض الأسر، ولكنه أصبح الثقافة الرائجة في حياة كثير من مسلمي اليوم، لا بل صار مرضًا اجتماعيًا لا يُبتلى به أصحاب المال والثروات فحسب، بل نلحظه بشكل أكثر استفحالًا لدى الكثير من متوسطي الحال ومحدودي الدخل.

اجتمع يومًا ابن حزم الأندلسي الفقيه الظاهري مع أبي الوليد الباجي الفقيه المالكي، وجرت بينهما مناظرة، فلما انقضت المناظرة قال أبو الوليد الباجي لابن حزم: تعذرني فإن أكثر مطالعاتي كانت على سرج الحراس (7).

فأبو الوليد الباجي كان فقيرًا لا يجد مالًا، لا يجد مصباحًا في بيته، فاعتذر لابن حزم لأن قراءته ومذاكرته وطلبه للعلم كان على مصابيح الحراس، فالحراس كانوا يمشون في الليل بمشاعل لحماية البلاد من اللصوص، فكان هو يسير وراءهم يقرأ في الكتاب، ويذاكر على ضوء مصابيح الحراس.

وهذا بقي بن مخلد المحدث المشهور صاحب المسند، وهو أكبر من مسند الإمام أحمد بن حنبل، الشاهد قال لتلاميذه يومًا: أنتم تطلبون العلم؛ إنني كنت أطلب العلم فلا أجد ما أتقوت به، فأجمع من على المزابل أوراق الكرنب الخضراء لآكلها، وأتعشى بها، حتى أتي اليوم الذي بعت فيه سراويلي من أجل أن أشتري أوراقًا أكتب بها، وجلست بلا سراويل (8).

ومن ثمَّ كان السلف رضوان الله عليهم يؤثرون الفقر، ويرونه أفضل لحال المرء، ويبتعدون عن طرائق الترف والمترفين، وكانوا يرون الغنى مضيعة للعلم، وضياع العلم ضياع للدين.

قال ياقوت الحموى: فالغني أضيع لطلب العلم من الفقر.

قال بعض المحققين: كثرة المال وطيب العيش تسد مسالك العلم إلى النفوس، فلا تتجه النفوس إلى العلم مع الترف غالبًا، فإن الغني قد يسهل اللهو ويفتح بابه، وإذا انفتح باب اللهو سد باب النور والمعرفة، فلذائذ الحياة وكثرتها تطمس نور القلب، وتعمي البصيرة، وتذهب بنعمة الإدراك، أما الفقير وإن شغله طلب القوت، فقد سدت عنه أبواب اللهو، فأشرقت النفس، وانبثق نور الهداية والله الموفق والمستعان (9).

رابعًا: مراعاة حق الله في المال: بأداء الزكاة في وقتها وأداء فريضة الحج إذا توفرت الاستطاعة والتعود على الإنفاق في سبيل الله وإعانة الفقراء والمساكين.

بعض النصائح والتوجيهات من أجل توعية المستهلك وتربيته على السلوك الاستهلاكي السليم:

أولًا: التوحيد وصحة الاعتقاد ليصح اليقين والإيمان.

ثانيًا: إشغال القلب بالآخرة، بكثرة سماع المحاضرات العلمية التي تحض على ذلك، وقراءة الكتب، والاتعاظ بحال من كنت تعرف وداهمهم الموت، وعيادة المرضى والمحتضرين، وزيارة القبور والنظر لمآلك بعد هذه الحياة.

ثالثًا: تخليص القلب من حب الدنيا، الذي هو سبب للعجز والوهن الذي أصاب المسلمون هذه الأيام، وهذا يحصل عندما تعاين حقارتها، وقد ضرب الله الأمثلة الكثيرة للدنيا ومدى خستها، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وارجع إن شئت لكتاب «عدة الصابرين» في الباب الثالث والعشرين فقد كتب في آخره فصلًا تحت اسم: في ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا وتحته اثنان وعشرون مثلًا فبها اعتبر.

رابعًا: عدم الاختلاط بأهل الدنيا فإنَّ خلطتهم كالداء العضال.

قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].

فالناس ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه، وهؤلاء هم أهل العلم والفضل، أهل الإيمان والصلاح، فاستكثر منهم، ولا تفارق مجالسهم، فإنها رياض الجنة، وطبقة كالدواء يحتاج إليه أحيانًا، وهؤلاء من تحتاجهم عند الضرورة ولا بد لك من مخالطتهم كمن تخالطهم في طلب الرزق أو شراء طعام ونحوه، فتخالطهم بقدر ولا تجمح في مصاحبتهم، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه أبدًا وهؤلاء هم سفلة الناس من خلان الدنيا، هؤلاء هم المترفون الذين لا يصدقون بيوم الدين، فإياك وهم، وإنْ ازدانوا وتزخرفوا وأظهروا سعادة لم يبطنوها ـ

فخلطة هؤلاء تثير حسد الفقير المعوز، وتشقي الغني الذي يسعى لمشاكلتهم، وربَّما يزدري نعمة الله عليه مقارنة بمن يعلوه في الدنيا.

خامسًا: الأخوة الإيمانية:

فإنَّها نعم المعين، فعليك برفقة الصالحين ومخالطتهم وحبهم ومنافستهم في الطاعة {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

سادسًا: التقيد بمنهج تربوي:

فلا بد لك من مربٍ يتابعك ويكشف لك عيوبك، ويبصرك بالطريق، كما قالوا: لولا المربي بعد ربي ما عرفت ربي، وإن كانت الساحة تفتقد لهؤلاء ولكن اجتهد وأخلص النية، {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] (10).

***

______________

(1) أخرجه مسلم (995).

(2) ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/ 11).

(3) في ظلال القرآن (5/ 2579).

(4) وقفات مع اقتصاد الأسرة/ موقع الألوكة.

(5) أخرجه الترمذي (2417).

(6) أخرجه مسلم (1015).

(7) معجم الأدباء (12/ 239).

(8) موسوعة الإدارة والتطوير والتربية (35/ 9).

(9) موسوعة الإدارة والتطوير والتربية (35/ 10).

(10) الترف .. مظاهره وأسبابه وعلاجه/ صيد الفوائد.