logo

سكن ثم مودة ورحمة


بتاريخ : الأربعاء ، 1 رمضان ، 1439 الموافق 16 مايو 2018
بقلم : تيار الاصلاح
سكن ثم مودة ورحمة

يبدو أن عصر السرعة الذي نعيشه في أيامنا هذه قد أثر على أكثر نواحي حياتنا، ليس في الأمور المادية المتعلقة بالمواصلات والاتصالات وقضاء الحاجيات وشرائها فقط، وإنما امتد الأمر إلى العلاقات أيضًا، فأصبحت تُنشأ سريعًا وتنفض سريعًا، ومن هذه العلاقات العلاقة الزوجية.

فنجد الفتى والفتاة يرغبون بالاقتران بحجة الحب، ثم بعد الزواج، وربما لم يدم هذا الزواج أيامًا أو شهرًا أو عامًا على أكثر تقدير، يرغبون في الطلاق بحجة عدم وجود الحب بينهما، وانتفاء المودة والرحمة، وذلك يكون دائمًا في أول الزواج، فقد أشارت إحدى الدراسات الاجتماعية أن أعلى نسبة طلاق تكون في السنة الأولى للزواج، والسبب، صاحب النصيب الأكبر من حجة الطلاق، أن الطرفين لا يشعران بالحب المتبادل بينهما.

إن هذه المعضلة سببها عدم فهم كلًا من الزوج والزوجة لمعنى الحب ومفهوم الزواج، فهناك الحب الإلهي، وهو حب الله تعالى، هذا الحب الذي قلما استطاعت العبارات أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين، كما قال القائل:

فليتك تحلــــــو والحيــــــــــاة مـــــــريـــرة            وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الــــذي بـيني وبينك عامـــر             وبيني وبيـــن العالمـــــين خـــراب

إذا صح منك الود فالكل هين           وكل الذي فوق التــــراب تراب

وهناك حب الكون، وهو حب يجعل الإنسان يشعر أن الجمال مقصود في هذا الكون، فـ"مشهد النجوم في السماء جميل، ما في هذا شك، جميل جمالًا يأخذ بالقلوب، وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته، ويختلف من صباح إلى مساء، ومن شروق إلى غروب، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء، ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب، بل إنه ليختلف من ساعة لساعة، ومن مرصد لمرصد، ومن زاوية لزاوية، وكله جمال وكله يأخذ بالألباب.

هذه النجمة الفريدة التي توصوص هناك، وكأنها عين جميلة، تلتمع بالمحبة والنداء، وهاتان النجمتان المنفردتان هناك، وقد خلصتا من الزحام تتناجيان، وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك، وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء، وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان، وهذا القمر الحالم الساهي ليلة، والزاهي المزهو ليلة، والمنكسر الخفيض ليلة، والوليد المتفتح للحياة ليلة، والفاني الذي يدلف للفناء ليلة.

إنه الجمال، الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه، ولكن لا يجد له وصفًا فيما يملك من الألفاظ والعبارات" [في ظلال القرآن، سيد قطب (6/ 3633-3634)، باختصار].

وهناك حب الكائنات الحية، وهو حب يجعل النفس تفرح عندما تنظر إلى النبتة الصغيرة وهي تشق طريقها من قلب الصخرة، وإلى وليد الحيوان الصغير وهو يتبع أمه فور ولادته، ثم لا يلبث قليلًا حتى يلهو هنا وهناك، وأمه تحنو عليه وتدلـله، وإلى الطير وهي تهاجر أسرابًا وجماعات في فضاء الله الواسع.

وهناك حب البشرية، كل البشرية، إنه الحب الذي لا يتجه نحو شخص معين لمنفعة أو مصلحة، وإنما هو حب الخير للإنسان، كل الإنسان، وهو ما تمثله النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت الآية الكريمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} [الأنبياء:107].

وهناك حب الأرواح المتآلفة، وهو حب النفس لمن تميل إليه، حب النفس لمن تشتاق له؛ كحب الوالدين والأبناء والأزواج والأصدقاء والأقرباء والأحباب.

إن من نعم الله علينا أن أعطانا أنواعًا من الحب الذي ترتوي به قلوبنا، وبالتالي فإن هذا الحب الذي نراه هنا وهناك من رحمة الله عز وجل؛ ولذا فإنه يجب على المتحابين أن يكون حبهم كما أراد المولى تبارك وتعالى، لا كما تريد أهواؤهم، وكما أراده النبي صلى الله عليه وسلم لا ما تريده نفوسهم، فالمولى عز وجل جعل حبه مصدر كل حب، فالقلب إذا تعلق بأي شيء غير الله عز وجل أصبح هناك خلل في النفس لا بد من علاجه، وإنما ينبغي أن يكون هذا الحب نابعًا من رضى المولى عز وجل عن هذا الحب، وكما أراد المولى عز وجل، وكما بين نبيه صلى الله عليه وسلم، لا كما تريد شهواتنا.

إذا انطلق الزوجان من هذا الحب فإن الزواج سينجح، وسيكتب له القبول فيما بينهما، وكما بين المولى عز وجل معنى الحب فقد بين أيضًا مفهوم الزواج، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، في هذه الآية الكريمة يبين المولى عز وجل كيف أنه خلق لكم أيها الرجال من أنفسكم، {لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} تشعرك أن الاثنين واحد، لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، فلا بد من التقاء واجتماع، لا بد من اقتران وائتلاف، ثم يقول تعالى: {أَزْوَاجًا} ولم يقل نساءً؛ أي أن هذا الالتقاء والاجتماع والاقتران والائتلاف لا ينجح ولا يؤتي ثماره إلا من خلال علاقة الزواج، فلا يكفي أن تكون مرأة، إنما ينبغي أن تكون زوجة، وهذا هو الذي يحقق معنى "السكن"، والذي ذُكر أولًا، وهذا ما يغفل عنه كثير من الأزواج والزوجات حدثاء السن خصوصًا، يبحثون عن المودة والرحمة قبل أن يحققوا معنى السكن.

ففي بداية الزواج، وبعد انقضاء ما يسمى بشهر العسل، غالبًا ما تشتاق الزوجة إلى أهلها، وتطلب من زوجها أن تزورهم، وتستمر على هذه الحال بين بيت زوجها وبين بيت أهلها، فلا استقرار في بيتها، ولا راحة في بيت أهلها، وحينها يشعر الزوجان بعدم ارتياحهما مع بعضهما في حياتهما الزوجية، فهي لا تشعر بأي حب بينها وبين زوجها كما كان في السابق، وذلك بالطبع لأنها لم تحقق معنى "السكن"، وهو الأنس بالزوج والقرب منه، والوقوف بجانبه في أداء عمله، ومساعدته في ذلك بتوفير سبل الراحة في بيته، ولكن الزوجة قد تخلت عن ذلك في أولى أيام الزواج، وبالتالي انتفى السكن، فأين المودة والرحمة؟

إن المولى عز وجل جعل بين الأزواج مودة ورحمة فقال: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ}، إذن فهو أمر لازم ومحتم أن يكون هناك مودة ورحمة إذا توفر السكن والطمأنينة وإرادة الخير بين الأزواج.