الثقافة الأسرية
فطر الله عز وجل الناس على حب أولادهم قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، ويبذل الأبوان الغالي والنفيس من أجل تربية أبنائهم وتنشئتهم وتعليمهم، ومسؤولية الوالدين في ذلك كبيرة، فالأبناء أمانة في عنق والديهم، والتركيز على تربية المنزل أولاً، وتربية الأم بالذات في السنوات الأُوَل، فقلوبهم الطاهرة جواهر نفيسة خالية من كل نقش وصورة، وهم قابلون لكل ما ينقش عليها، فإن عُوِّدُوا الخير والمعروف نشأوا عليه، وسُعِدوا في الدنيا والآخرة، وشاركوا في ثواب والديهم، وإن عُوِّدُوا الشر والباطل، شقُوا وهلكُوا، وكان الوِزْرُ في رقبة والديهم، والوالي لهم .
ويمكن القول بأن للأسرة دورًا كبيرًا في رعاية الأولاد - منذ ولادتهم - وفي تشكيل أخلاقهم وسلوكهم، وما أجمل مقولة عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الصلاح من الله والأدب من الآباء، ومن يُحَلِّل شخصية صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فإنه سيجد أن سر نجاحه وتميزه سببه التربية التي تلقاها في البيت.
وللوالِدَيْنِ في إطارِ الأسرة أساليبُ خاصة من القيم والسلوكِ تجَاهَ أبنائهم في المناسباتِ المختلفةِ، ولهذا فإن انحرافاتِ الأسرةِ من أخطرِ الأمورِ التِي تُوَلِّدُ انحرافَ الأبناءِ.
فالتوجيهُ القيمي يبدأُ في نطاقِ الأسرةِ أولًا، ثم المسجد والمدرسة والمجتمع؛ فالأسرةُ هي التي تُكْسِبُ الطفلَ قِيَمَهُ فَيَعْرِفُ الَحقَ والبَاطلَ، والخيرَ والشرَ، وَهو يَتلَّقَى هذه القيمِ دونَ مناقشةٍ في سِنيهِ الأولى، حيث تتحددُ عناصرُ شخصيتِهِ، وتتميزُ ملامحُ هويتِهِ على سلوكه وأخلاقه؛ لذلك فإن مسؤولية عائلَ الأسرةِ في تعليمِ أهلِهِ وأولاده القيم الرفيعة، والأخلاق الحسنة، وليس التركيز فقط على السعيِ من أجل الرزق والطعام والشراب واللباس..، قال: «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم» (1)، وكان يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم: «ارجعوا إلى أهلِيكُم فأقيمُوا فيهم وَعَلِّمُوهم» (2).
يقول ابن القيم رحمه الله: فمن أهملَ تعليمَ ولدِهِ ما ينفعه، وَتَرَكَهَ سُدى، فقد أَساءَ إليه غايةَ الإساءة، وأكثرُ الأولادِ إِنما جاء فسادُهُم من قِبَلِ الآباءِ وإهمالِهِم لهم، وتركِ تعليمِهِم فرائضَ الدينِ وَسُنَنَه، فأضاعوها صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسِهِم ولم ينفعوا آباءَهُم كِبَارًا (3).
وقصة الرجل مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي جاء يشتكي عقوق ابنه إلى أمير المؤمنين، فطلب عمر: أن يلقى ابنه، فسأل الابن عن عقوقه لوالده، فقال: إن أبي سماني جُعُلًا، ولم يعلمني آية واحدة؛ فقال عمر للرجل: لقد عققت ابنك قبل أن يعقك.
ولذلك ينبغي تعويد الأولاد منذ صغرهم على بعض الأمور الأساسية، من ذلك:
أ- الأمر باعتناق العقيدة الصحيحة: تعريف الأبناء بأهمية التوحيد، وعرضه عليهم بأسلوب مبسط يناسب عقولهم.
ب- بعث روح المراقبة لله والخوف منه: بيان توحيد الأسماء والصفات، كالسميع والبصير والرحمن، وأثرها في سلوكهم.
ج- الحث على إقامة الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها، وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع» (4).
د- التحلي بمكارم الأخلاق والآداب العامة (5).
لقد ابتعد العالم الإسلامي عن المناهج الإسلامية التي اتبعها علماء المسلمين خلال العصور الماضية، فقد نص المربون المسلمون الأوائل الذين ملأت شهرتهم العلمية الآفاق، وسار على نهجهم التربوي الأجيال العديدة، على أن بداية التعليم ينبغي أن تكون من سن الرابعة للطفل: بحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الحكم المأثورة والشعر الرقيق اللطيف البليغ، وبعد سن التمييز -السابعة فما فوق- تبدأ بدايات العلوم الأخرى.
ومنذ أن أخذ العالم الإسلامي المناهج الغربية والشرقية ابتعدوا عن المنهج الإسلامي، وربما وصل الطالب والطالبة إلى المرحلة الجامعية وهو لا يدري أساسيات الإسلام، التي لا يصح إسلامه إلا بمعرفتها نظريًا، وتطبيقها عمليًا.
إننا نعيش في عصر أزيلت فيه الحواجز الزمانية والمكانية، ووصلت الأفكار والمعلومات إلى كل مكان شئنا أم أبينا، والانفجار المعرفي يلف العالم بتياراته المختلفة، وكل صاحب دعوة أو مذهب أو فكرة يدعو إليها بأساليب جذابة لافتة للنظر، فإن لم يكن المسلم -وخاصة الشباب الإسلامي- على معرفة بالموازين التي تعرفه بالخطأ والصواب وتميز له بين الحق والباطل، وبين ما يقبله الإسلام وما يرفضه، إن لم يكن على معرفة بهذه الموازين والمقاييس قد ينزلق وراء دعوة أو مذهب يخرجه عن الإسلام وهو لا يدري.
فالثقافة الإسلامية تعطيه هذه المقاييس، وهذه الموازين التي يقبل بها الأفكار أو يرفضها، وتحصنه فكريًا تجاه تلك الدعوات البراقة، والتي تدس له السم في الدسم في كثير من الأحوال.
إن المستوى الثقافي للأسرة والانتشار الواسع لأجهزة الإعلام يُساهمان بشكل فعال في تنمية وعي الطفل، وتوسيع مداركه بشكل فعال ومُتدرج، فالمعروف أن الطفل دائمًا يتأثر بالبيئة المحيطة به وبأفراد أسرته التي يعيش معهم، فالمستوى التعليمي لأفراد الأسرة يلعب دورًا كبيرًا في خلق شخصية الطفل وبنائه النفسي والتربوي.
لذلك على الأسرة أن توجه أبناءها إلى الطريق السوي وارشادهم وتوجيههم إلى ما يحمل النفع لهم، كما على الوالدين أن يكونا خير صديق لأبنائهما، لتزداد العلاقة الأسرية قوة ومتانة، وحتى لا تكون هشة كبيت العنكبوت.
وكي يُنفس الأبناء عمّا بداخلهم لهما وليس لغيرهما مما يوقعهم مع رفقاء السوء، وعلى الأهل ألا ينشغلوا عن أبنائهم مهما كثرت مسؤولياتهم.
بل يجب التعرف على أصدقائهم والأماكن التي يرتادونها معهم، كذلك عليهم متابعتهم في دروسهم، حتى يشعر الأبناء بالاهتمام من قِبل الآباء والأمهات، ليكرسوا وقتًا لدراستهم ورفع مستواهم التعليمي، فالأهل مُطالبون بالاهتمام بأبنائهم في مختلف المجالات، وتوفير الأرضية الثقافية والراحة النفسية للخروج بنتائج ايجابية، وبناء جيل مُتعلم مثقف واعٍ لما يدور حوله.
وكما هو معلوم أن الأسرة في المجتمع الإسلامي تشهد اليوم، ومع التحولات الاجتماعية والتقلبات الثقافية والتحديات الاقتصادية؛ الكثير من المشكلات والظواهر السلبية التي تهدد نسيجها بالأسقام النفسية والأمراض المجتمعية، مثل التفكك المنزلي، والعنف الأسري، وارتفاع حالات الطلاق والمنازعات الأسرية، وانتشار الأمراض النفسية، وغيرها من المثالب الاجتماعية والنفسية التي تعاني من ارهاصاتها الكثير من البيوت.
لقد حثَّ الإسلام على التفقه في الدين؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يردِ اللهُ به خيرًا يفقهْهُ في الدين» (6)، وإذا كان هذا عامًّا لجميع الأمة، فإن الأسرة - وهي الدائرة الخاصة - يجب أن يكون لها الاهتمام الأكبر في هذا الجانب، وكما يهتم الأبوان الكريمان بالرعاية لأولادهم فيما يتعلق بمأكلهم ومشاربهم وملابسهم ونحو ذلك، فإنه يجب الاهتمام أكثر بالشطر الثاني وهو التربية فيما يخص أفكارهم وعقولهم وتثقيفهم؛ فبالتربية والرعاية تتكامل الأدوار وتكتمل النتائج وتتميز المخرجات، وحيث إن أهم ما يجب أن يتلقاه الأولاد في ذلك الميدان هو ما يتعلق بأحكام دينهم وعباداتهم؛ فسيكون الطرح في هذا الجانب المهم في حياتنا من خلال خمس عشرة وقفة على النحو الآتي:
الوقفة الأولى: إن رسم المنهج للأسرة في تثقيفها من الناحية الشرعية هو من الأهمية بمكان، لماذا؟ لأن الأحكام الشرعية يحتاجونها طوال يومهم وليلتهم بحمد الله تعالى؛ فهم بين صلاة وقراءة قرآن، وبِرٍّ وإحسان، وصيام وصدقة، وتعامل مع الآخرين، وسلام وذكر، وطلبِ علمٍ وصِلةٍ، وغير ذلك من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى، وانطلاقًا من هذا يجب أن يكون الأولاد لديهم وقود من الثقافة الشرعية حتى تصحَّ أعمالهم، ولا شك أنهم يستقون هذه الثقافة من عدة سُبُلٍ، لكن قد يكون من أهمها ما يتدارسونه مع ذويهم وفيما بينهم في مثل ذلك البرنامج.
الوقفة الثانية: الأبوان الكريمان وهما يُشرفان على هذا البرنامج لا بد أن يتصفا بمواصفات مهمة؛ ومنها: الصبر والهمة والحوار، وبُعْدُ النظر، وعدم استعجال النتائج، مع التشجيع والتعزيز، فإن تلك المواصفات هي مؤشرات بإذن الله تعالى على نجاح هذا البرنامج.
الوقفة الثالثة: من الضرورة بمكان استشارة الأولاد في رسم هذا البرنامج؛ ليعلموا أن لهم فيه بصمة فيتفاعلون معه نظريًّا وعمليًّا، وقد يكون لديهم من الجديد والمفيد ما يكون سُلَّمًا للنجاح والتميز.
الوقفة الرابعة: ترغيب الأولاد بمثل هذه المجالس الطيبة من نواحٍ عديدة؛ فمن الناحية الشرعية في: غشيان الرحمة، ونزول السكينة، وتنزل الملائكة، وذكر الله تعالى لهم فيمن عنده، وأيضًا من الناحية الفكرية بأن تلك المجالس هي وقود لأفكارهم وعقولهم بأن تكون مميِّزة بين الجيد وغيره مما يسمعونه ويقرؤونه، أيضًا كذلك من الناحية المادية فيمكن أن يكون شيئًا من المكافآت التشجيعية أو ما يصحب ذلك المجلس في آخره من مأكولات أو مشروبات، يكون ترغيبًا في الاستمرار فيه ونحو ذلك من النواحي المهمة في ذلك الجانب.
الوقفة الخامسة: جميل أن يكون لدى أفراد الأسرة جدولةٌ للقراءة الفردية الثقافية، وكل بحسب قوته ونشاطه، ومن المهم في هذا التدرج من الأدنى إلى الأعلى في القراءة، فلو قرأ في كل يوم صفحتين من كتاب، فسيكون قرأ في السنة أربعة عشر كتابًا، كل كتاب خمسون صفحة، وهذا لا شك أنه زادٌ علميٌّ لا بأس به، ثم ينطلق إلى الأكثر في الصفحات المقروءة، فهذه القراءة فيها من توسيع المدارك، والتأصيل الفكري، وحسن التصور، والعمق في التفكير؛ ما يجعل الإنسان يحرص عليها له ولغيره، ويتم التفريق في المقروء بين الصغار والكبار من حيث الكمية والتخصص، ومن الممكن أن تكون هذه القراءة تحت إشراف شخص متمكن إذا لم يتوفر هذا داخل البيت.
الوقفة السادسة: مما يساعد على تثقيفهم وجودُ مكتبة مصغرة داخل المنزل؛ حتى يزاولوا القراءة عن قرب، ويشاهدوا تلك الكتب في دخولهم وخروجهم؛ فتكون الكتب جزءًا من حياتهم.
الوقفة السابعة: متابعتهم في دراستهم الصباحية النظامية، فهم يتلقَّون فيها علومًا كثيرة جمة ومهمة؛ ففَهْمُهم لها مما يساعد على تعليمهم وتثقيفهم.
الوقفة الثامنة: على الأبوين الكريمين الاهتمام بأن يجمع هؤلاء الأولاد بين العلم والعمل في مناهجهم العلمية؛ فالعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلَّا ارتحل.
الوقفة التاسعة: لا نقلل من المناقشات الجانبية في الذهاب والإياب، والمشاوير الخاصة والعامة والسفريات؛ فإنها تكشف كثيرًا من الأشياء وتعطيك شيئًا كثيرًا من النتائج؛ فيجب أن تكون موضع اهتمامنا.
الوقفة العاشرة: يجب مراعاة الفروق الفردية بين الأولاد؛ فالبارزون يكون لهم ما يناسبهم تشجيعًا وتعزيزًا، ولعل غيرهم يلحق بهم، وأما غير البارزين فيكون لهم على مستواهم ما يناسبهم أيًّا كانوا، فمراعاة الفروق الفردية في التربية واجبةٌ مع مراعاة عدم جرح المشاعر لغير البارزين بالطريقة المناسبة.
الوقفة الحادية عشر: تشجيعهم على الحِلَقِ القرآنية المسائية للأبناء والبنات؛ ففيها من الخير العظيم ما يكون رافدًا مهمًّا في التربية والتأصيل العلمي.
الوقفة الثانية عشر: من الوسائل في تعليمهم طرح سؤال يومي أو شبه يومي، فيُعلق السؤال لهم في أول اليوم وتُجمع الإجابات في وقت آخر، ثم تُفرز تلك الإجابات، ويُشرح الجواب الصحيح، ويكون على هذا المنشط تكريمٌ فوري أو في نهاية الشهر بالطريقة التي يرونها من جمع النقاط أو غيرها، ويمكن أن يكون هذا المنشط تحت عنوان: من الفارس؟
الوقفة الثالثة عشر: يجب أن تكون البدايات قوية ومشجعة؛ لأن البدايات لها دورها الفعال في نجاح البرامج، ومن لم يكن له بداية محرقة، قد لا يكون له نهاية مشرقة.
الوقفة الرابعة عشر: يمكن لأهل البيت أن يضعوا صندوقًا معينًا تُوضع فيه الأسئلة والإشكاليات الشرعية، ثم يُفتح بشكل دوري، فيُسأل أهل العلم عن تلك الأسئلة، ويتم طرحها في إحدى جلسات الأسرة مع المناقشة فيها؛ فإن هذا لا شك أنه يُثري كثيرًا وهو ناجح ومثمر.
الوقفة الخامسة عشر: على الجميع الاهتمام بهذا المنشط العلمي والتربوي كثيرًا؛ لأن هذا قد يمتد إلى الأحفاد وأحفادهم، فيكون صدقة جارية للمؤسسين لهذا البرنامج، ومن المهم جدًّا الاستفسار من أهل العلم والتربية عن إجراءات ومجريات هذا المنشط؛ ليتم التصويب والتعديل والتسديد (7).
خطوات لدرء ثقافة التفاهة:
إن منهج الوسطية والاعتدال هو المنهج الذي ينبغي تبنِّيه في كلِّ نشاطٍ يقوم به الإنسان؛ لأن هذا المنهج ثبت بالاستقراء والتجرِبة أن له فوائدَ جمَّةً، وحِكَمًا عظيمةً، تجعل الإنسان يعيش في طُمأْنينةٍ استمدَّت ثباتها من الاعتماد على العقل البشريِّ، الذي يستمدُّ بدوره قوَّتَه ورُقيَّه من الثقافات المتعاقبة، فيرتقي الإنسان من خلال هذا كلِّه؛ ليكون عنصرًا فاعلًا في المجتمع، يتحلَّى بالعطاء، ويَتغيَّا تحقيق الجودة، وتحصيل المردودية الإيجابية.
ذلك المنهج المذكور سلفًا هو الذي يضبط شخصية الإنسان في كلِّ أحواله، فلا تجده يميل إلى التهوُّر وتسلُّق مراكب التفاهة والهزل كليةً، ولا ينزلق في غياهب الجدِّ المتصلِّب الذي قد يُوقعه في العنت وعدم التحمُّل.
ولعلَّ ما يُلاحظ في الساحة الاجتماعية التي لا تشهد بحصول نتائج جيدة، هو تحلِّي كثيرٍ من الناس وتشبُّثهم بثقافة التفاهة، التي تُغلِّب جانب الهزل والتهوُّر على جانب الجد والتعقُّل؛ حيث نجد أن الغالب الأعمَّ لا يهتمُّ بتنظيم وتخطيط نشاطاته داخل المجتمع، ومنه تكون أول خطوة يُمكن أن تُسهم في محاربة ثقافة التفاهة، هي:
تسطير الأهداف:
إن المتدبِّر في القرآن الكريم لا بد له أن يتوقَّف عند قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فالغاية من وجود الخلق هو العبادة، وعبادة الله دون غيره تُحيلنا إلى التمتُّع بحرية الأشخاص على وجه البسيطة، فلا الفقير يكون عبدًا للغني، ولا الجاهل يكون عبدًا للعالم، ولا المرأة تكون أَمَةً للرجل؛ وبهذا يكون هدف العبادة هو أسمى هدف ينبغي تحقيقه، والعمل على تكريسه.
ثم إنه من خلال فهمنا للآية نعلم يقينًا أنه على الإنسان أن يُسطِّر أهدافه من خلال دراسته، وعمله، ومسؤوليته، ولقد نُقل عن أحدهم أنه قال: إذا أردتَ أن تعيش حياةً سعيدةً، فاربطها بأهدافٍ، وليس بأشخاصٍ أو أشياءَ، والهدف هو الذي يُعطي معنًى للحياة.
عدم التشبُّث بالرأي والتعصُّب له:
إن هذه النقطة من أخطر النقاط التي تُدخِل المرءَ في دوَّامة التفاهة وفساد الطويَّة؛ لأنه قد يكون الرأي ناتجًا من جهل، أو أنه لا يُراعي خصوصيات الأطراف الأخرى، ولا يُخالف عاقلٌ في أن كثرةَ الآراء وتمحيصَها واختيارَ الصواب منها هو سببٌ من أسباب النجاح، ولقد سُئل حكيمٌ يومًا، فقيل له: أين العلم الرأي؟ فقال: هو عند كل الناس، والطامَّة الكُبرى هي عندما يتمسَّك المرء برأيه الخاطئ بعد معرفة الصواب.
الابتعاد عن النقاشات العقيمة:
مما هو معلوم أن النقاش يتطلَّب مجهودًا عقليًّا وجسديًّا، خصوصًا إذا كانت النقاشات تحوم حول تحقيق الانتصار على الطرف المخالف، والرزية العُظمى هي حينما يكون الانتصار للأشخاص لا للأفكار؛ ولذلك كان الجدال منهيًّا عنه قديمًا، وإذا دعت الضرورة لذلك نجد أن الشارع طلب منَّا أن نُجادل بالحكمة والموعظة الحسنة مع الاتِّصاف بالتلطُّف واللين.
وتأمَّل رحمك الله المنهج الذي دعا إليه الحقُّ سبحانه وتعالى، حينما أرسل موسى وأخاه هارون إلى فرعون ليتعاملا معه ويدعواه إلى دين الله، رغم كونه رأس الكفر آنذاك.
درء الانجرار وراء الجماعة دون تفكير:
ولهذا العنصر عواقبُ وخيمةٌ، خصوصًا إذا كانت الجماعة تبني مبادئها على جهل مُركَّب، وحميَّة عمياء، وتقليد ناتج من استلاب لم يجد فكرًا محصَّنًا بالعلم والمعرفة.
وما الأحداث التي تهزُّ أركان العالم كلَّ يوم عنَّا ببعيد، وما سبب ذلك إلا الانجرار وراء فكر الجماعات التي لا تُفرِّق بين إبادة الحياة وإقامتها.
الدعوة إلى تحصيل الثقافة العامة:
حينما يغيب الاهتمام بأفراد المجتمع -وخصوصًا الشباب منهم- يلجؤون إلى البحث عن متنفَّسٍ حركيٍّ ووجدانيٍّ، يجدون فيه ذواتهم، فالشباب لا بد لهم من اهتمام على مستوى تهيئ وخلق أمكنة ومجالات للترفيه والتثقيف؛ حتى لا يُسيطر الملل والعبث على حياتهم، فينجذبون إلى صيحات التضليل وثقافة التقليد الأعمى، مع تفجير الطاقة الفائضة فيما لا يُحمد عقباه.
الانخراط في أداء الواجبات:
إن الإنسان داخل أيِّ مجتمع ينبغي له أن يقوم بأداء واجبه على أحسن وجه، وفي مجتمعنا الإسلاميِّ ينبغي أن يبدأ المسلم بأداء وإتقان واجباته تجاه خالقه؛ وبذلك يحارب العبث والغشَّ وهلم جرًّا، والإخلاص والتفاني في العمل ــ كلٌّ في موقعه ــ فالممثِّل ينبغي ألَّا يقبل أدوارًا لا تُقدِّم للمُتلقِّي ما يستفيد منه، وسواء كان ذلك عن طريق تقمُّص الأدوار التراجيدية أو الكوميدية، والمدرِّس لا ينبغي أن ينساق وراء رغبات متعلميه دائمًا؛ وبذلك يُسهم كل فرد في رقي المجتمع، والدفع بعجلته إلى الأمام من أجل تحقيق ازدهاره وتقدُّمه.
التقليل من المزاح والهزل:
إن النفس البشرية دائمًا تميل إلى البحث عن التسلية عبر الهزل كمتنفس جرَّاء ما يُعانيه الإنسان من ضغوط ومتطلَّبات تجعله يشعر بالكآبة والقلق، إلا أن هذا المزاح لا ينبغي أن يُسيطر على كلِّ مواقفنا، وإلَّا استولى العبث على حياتنا (8).
ما أحوجنا في هذا الزمن العصيب أن نربي أبنائنا، وننشئ جيلًا قوي الإيمان يثبت على الحق، ويحمل لواء الإسلام، ويدافع عنه بكل طاقته.
_________________
(1) أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829).
(2) أخرجه البخاري (631).
(3) تحفة المودود بأحكام المولود (ص: 139).
(4) أخرجه أبو داود (495).
(5) دور الأسرة في رعاية الأولاد/ صيد الفوائد.
(6) أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037).
(7) تثقيف الأسرة بالأحكام الشرعية/ شبكة الألوكة.
(8) خطوات لدرء ثقافة التفاهة/ شبكة الألوكة.