ابنك كيف يكون جريئًا في الحق
عن أبي سعيد الخدري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا صلاة العصر بنهار ثم قام خطيبًا فلم يدع شيئًا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وكان فيما قال: «ألا لا يمنعن رجلًا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه» (1).
ذلك لأن الإنسان إذا امتلأ قلبه إيمانًا؛ أيقن بأن الأجل محتوم، وأن الرزق بتقدير الله مقسوم، وأن كل ما سواه سبحانه فإنه زائل، فيصغر في عينه أنصار الباطل، ولم يعد يحسب لهم حسابًا، فيجاهرهم بالحق، ويصمد أمامهم غير مبال بكثرتهم، ولا مستحي منهم، فيغضب معه إذا انتهكت حرماته، وينصف الضعيف المظلوم من القوي الغشوم، وينطق بالحق لا يهاب الباطل، ويصدع بالحق لا يخشى إلا الله، فكلمة الحق قذيفة ربَّانية في وجه الباطل، تُزلزل كيانه، وتحطم أركانَه، وتقهره وتُهلكه، حتَّى يصل الهلاك إلى دماغه، يقول تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]، وقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} [سبأ: 48- 49].
والجرأة في قول الحق من الخِصال المحمودة والأخلاق التي مصدرها حب الحق والتفاني في نصرته من حيث كونه حقًا، وكراهية الباطل من حيث كونه باطلًا، وهي كلمة حين تُسمع من أول وهلة تشي بطاقة داخل النّفس تحمل الإنسان على الفعل الإيجابي المثمر، لا سيما في هذا الزمان الذي أصبحت المبادئ والمفاهيم تحمل معنى آخر، لكن كلمة الحق ستظل عزيزة وغالية الثمن، لا يخشاها إلا الجبناء.
وقد تدفع كلمة الحق بصاحبها إلى مصير صعب، لكن عدم قولها يَضعه في مواجهة مع نفسه ومع التزامه الأخلاقي، واحترامه لذاته، ولا شك أنه حينما يكون الإيمان بالله تعالى قويًّا يقدم صاحبه على تجشم الصعاب واقتحام المخاطر لنصرة الدين الذي آمن به وخالطت محبته شغاف قلبه، ويتّبع خُطوات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام في الصدع بالحق مهما كانت العواقب.
ولقد رَبَّى الإسلام أبناءه على الجرأة في قول الحق ونصرة المظلوم، والشهادة من أجل رفع الظلم عنه، فأخرج منهم أُمَّة لا تهاب الخطوب، وترى الموت في سبيل إعلاء كلمة الحقِّ خيرًا من ألف حياة يقضيها صاحبها في مشاهدة الباطل يمشي في الأرض مرحًا.
والحق مُجلجل أبلج، والباطل مهلهل لجلج، والحق ناطق ساحق ماحق، والباطل مخبط مخلط زاهق، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق..
{إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا} حقيقة لدنية يقررها بصيغة التوكيد، وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة، فالباطل ينتفخ ويتنفج وينفش، لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة ومن ثم يحاول أن يموه على العين، وأن يبدو عظيمًا كبيرًا ضخمًا راسخًا، ولكنه هش سريع العطب، كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليًا ثم تخبو سريعًا وتستحيل إلى رماد بينما الجمرة الذاكية تدفئ وتنفع وتبقى، وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء.
{إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا} لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية، وأسناد غير طبيعية، فإذا تخلخلت تلك العوامل، ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار، فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده، وقد تقف ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان.. ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء، لأنه من عند الله الذي جعل {الْحَقُّ} من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول (2).
وامتدح الله سبحانه وتعالى الذين يبلغون رسالاته ويخشونه ولا يخشون أحدًا سواه، قال تعالى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39]، علمًا منهم بأنه لا يصيب أحدًا ضرر ولا محذور ولا مكروه إلا بتقديره فيفردونه بالخشية إذ علموا أنه لا شيء لأحد من دونه.
وبهذه الصفة السامية استطاع إبراهيم عليه السلام مجابهة قومه المعادين- وفيهم أبوه وذوو قرابته- بما فيه غاية التهكم بمعتقدهم بعد أن قال لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52]، فلم يجدوا ما يحتجّون به على صحة هذه العبادة سوى التقليد الممقوت، عند هذا قال لهم: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء: 54]، فصدع بالحق الذي لا ينبغي أن يخاف فيه لومة لائم، فأعلن الحرب بمفرده على الباطل المستند إلى قوة جبارة.
وقول الحق تسيل به الأودية، وتفيض به العيون، وتسقى به الأرض بعد موتها، وينتفع به الخلق منافِع شتَّى، وأمَّا الباطل فلو كان كثيرًا كثيفًا، فمآله إلى زوال واضمحلال، يقول سبحانه: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
ذلك مثل الحق والباطل في هذا الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيًا طافيًا ولكنه بعدُ زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحًا لا حقيقة له ولا تماسك فيه، والحق يظل هادئًا ساكنًا، وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات، ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح، ينفع الناس (3).
ولقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على قول الحق، فثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها تكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها»، قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم» (4)، قال الإمام النووي: معناه: نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان، الكبار والصغار، لا نداهن فيه أحدًا ولا نخافه (5).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألَا لا يَمنَعَنَّ أحَدَكم مَخافةُ النَّاسِ أنْ يَقولَ الحَقَّ إذا رَآه» (6)، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه سيخرج قوم يتكلمون بالحق لا يجاوز حلقهم، يخرجون من الحق كما يخرج السهم من الرمية» (7).
ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا» (8).
إنما جمع بين الحالتين لأن الغضب ربما حال بين الإنسان وبين الصدع بالحق، وكذلك الرضا بما قاد في بعض الحالات إلى المداهنة وكتم كلمة الحق (9).
وقال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: أوصاني خليلي -يقصد النبي صلى الله عليه وسلم- بسبعٍ، وذكر منها: «وأن أتكلم بمر الحق، وألا تأخذني بالله لومة لائم» (10).
وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أول مَن جَهَرَ بالقرآن الكريم في مكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في ذلك الوقت لا يجرؤ أحد على الجهر بالقرآن سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حذره أصحابه من ذلك قبل أن يجهر به، وقالوا له: لست ابن عشيرة فلا يقوم المشركون بأذيتك لأجل عشيرتك، ولكنه أصر على ذلك بقوله: سوف يحميني الله عز وجل.
فذهب إلى مقام إبراهيم، وبدأ يتلو سورة الرحمن، حتى سمعته قريش وكانوا حينئذٍ في أنديتهم، فجاؤوا إليه وقاموا بضربه على وجهه وهو مستمر في تلاوته لا يضره ما يفعلونه به، ثمّ رجع إلى أصحابه وآثار الضرب على وجهه الكريم، فقالوا له: هذا ما كنا نخاف عليك منه، فقال لهم: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدًا، قالوا: لا، حسبك أن قد أسمعتهم ما يكرهون (11).
ولم يفارق هذا الخُلُق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا التابعين من بعدهم، فها هو عمر بن عبد العزيز لما جاءه وفد، وكان ضمنه طفل عمره اثنتا عشرة سنة فقام يتكلم، فقال عمر بن عبد العزيز: استأخر ليتكلم من هو أكبر منك، قال: يا أمير المؤمنين! لو كانت المسألة بالسن لكان في الأمة من هو أسن منك، فقال: تكلم، فتكلم وقال: نحن لم نأت خوفًا، فقد أمننا عدلك من الخوف، ولم نأت رجاءً، فقد وصل إلينا خيرك من غير طلب، وإنما أتينا شكرًا وثناءً، فأعجب به عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
وذكر السبكي موقفًا بطوليّا في كلمة الحق لسلطان العلماء العز بن السلام، حيث قال: طلع العز مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العساكر مصطفين بين يديه ومجلس المملكة وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين الديار المصرية، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك ألم أبوء لك ملك مصر ثم تبيح الخمور، فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون، فقال: يا سيدي هذا أنا ما عملته هذا من زمان أبي، فقال: أنت من الذين يقولون {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: ٢٢]، فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة (12).
فما أحوج الأمة حكّامًا وشعوبًا على اختلاف طبقاتهم إلى هذا خلق الجرأة في قول الحق الذي يريدنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نكون عليه، لأنه مصدر العدل وأساس العمران وركن المجتمع، وبه تفرض العقوبات على المجرمين، وعنه توزع الأحكام على المبطلين، وتقوم الشهادات على المشهود عليهم، فإذا كنت ترى الفوضى منتشرة بيننا فذلك من خذلان الحق ونصر الباطل الناشئ عن ضعف الجرأة في نفوسنا التي هي وليدة الإيمان (13).
لقد أصبح كثير من الناس يتصورون أن الحكمة والموعظة الحسنة تعني التربيت على أخطاء الناس وانحرافاتهم، وعدم مواجهتهم بها خشية أن ينفروا من الدعوة ولا يستجيبوا لها، فمن أين جاءوا بهذا الفهم لهذا التوجيه الرباني الكريم.
هل هناك مَن هو أكثر فهمًا لهذا التوجيه الكريم من الرسل الذين وُجه القول إليهم؟
فكيف فهِم الرسول، صلى الله عليه وسلم، هذا الأمر المنزَّل إليه من ربه أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة؟ وكيف فهِم موسى وهارون عليهما السلام توجيه الله لهما أن يقولا لفرعون قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى؟
فأما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد صدع بما أُمِرَ فقالت عنه قريش: لقد عاب آلهتنا وسفه أحلامنا، وكفر آباءنا وأجدادنا.
وأما موسى وهارون عليهما السلام فقد بدآ بأن قالا: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47]، ولم يقولا لفرعون: السلام عليك! وفي ذلك إشارة ملحوظة إلى أن فرعون غير متبع للهدى، ثم ثنَّيا بأن قالا: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48]، وفي ذلك تهديد واضح لفرعون وقومه بالعذاب الذي ينتظرهم إن هم كذَّبوهما، وتولوا عن الحق الذي يعرضانه عليهم.
وكان هذا هو القول اللين الذي أُمِرَا بتوجيهه إلى فرعون، إن التلطف واجب ولكنه التلطف في إظهار الحق، وليس التلطف في إخفاء الحق.
فهذا الأخير هو الذي قال عنه تعالى لنبيه، صلى الله عليه وسلم: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (14).
إن الانفتاح على المخاوف (الجرأة) مدخل لكثير من المنجزات التي حققها الإنسان في تجاربه العلمية وكشوفه الجغرافية وانتصاراته العسكرية، وذات أهمية في التنشئة، ومتى كان غرسها في النفس بصورة جيدة، كانت النتائج المتوقعة في المستقبل أكثر عطاء، وهي من مسببات مقاومة الأمراض النفسية لدى الشباب، إذ تحرم الشخص من الانكماش في ذاته، وتمنعه من اعتصار نفسه ألمًا وحسرة، كما أنها تدفعه لاقتحام مكامن الخطر سعيًا لتغيير النتائج، ومع الجرأة يتراجع القلق والاكتئاب، ويشعر الفرد بالثقة والقدرة على الفعل والمقاومة وتجاوز المحن والصعاب، وهناك طريقان يساهمان في ترسيخ الجرأة في النفس:
ألا يستسلم الإنسان للخوف، فبعض حالات الفوبيا والرهاب تفرض على الإنسان أن يلمس مخاوفه؛ بل يعيش فيها، حتى تنتهي، مثل الشخص الذي يخشى الأماكن المرتفعة، أو الشخص المصاب برهاب القطط -مثلًا- من المفترض أن يقترب منها، وأن يتجرأ على اقتحام مخاوفه الموهومة، حتى تتحول تلك المخاوف إلى نقاش داخلي، ينتهي في الغالب بأن ذلك الخوف غير مبرر، ومن ثم فمعرفة الحقائق، تخلق في النفس جرأة وشجاعة، تجعلها تستهين بالخوف والقلق.
في مسألة الجرأة والتنشئة، يجب أن نقول أن الجرأة نقيض الخجل، وفيها يكون الشخص على الاستعداد للمخاطرة، والمخاطرة تعنى الابتعاد عن مناطق الراحة، واقتحام الأخطار، ولا تعني النجاح كل مرة، فالجرأة شيء إيجابي، والعيش مع الخجل والقلق والخوف ليس شيئًا جيدًا، فالأشخاص الواثقين اجتماعيًا يتعلمون عمدًا المهارات، فالشخصيات الكاريزمية الزعامية تصنع في الغالب من خلال جهدها وجرأتها وقدرتها على التغلب على مخاوفها، ومواجهة المخاطر تزود الشخص بمهارات كبيرة، وتمنحه قدرات، وتقوي ذاته، وتدفعه للتعامل مع الإخفاق بانفتاح وليس باعتباره نهاية العالم، والجرأة تضبط الأفكار القلقة داخل الإنسان، وتلجمها بالحكمة، وتضعها في إطارها الصحيح، والجرأة لا تنشئ تصورات مخيفة للقلق تغري بالهلع والفزع، والجرأة تجعل الشخص أكثر وعيًا بمخاوفه، ومع الانفتاح على المخاوف تقل المخاوف، ووفقًا لعلم النفس فإن زيادة الخجل -مثلًا– يرجع إلى قلة التواصل الاجتماعي، فتهيب الانسان من الآخرين، يحتاج إلى جرأة في التواصل، وهو ما يبني الثقة الذاتية، ويعدل أخطاء الذات، فالجرأة تخمد الاستجابة للخوف، وتقلل من الطبيعة الوراثية تجاه بعض المخاوف.
مأزق الأبوة المفرطة أحد معيقات التنشئة على الجرأة، ما يسمى بـ”الأبوة والأمومة المفرطة” وذلك عندما يتولى الآباء والأمهات حماية أبنائهم من المخاطر، بصورة شاملة، دون أن يقوموا بتنمية قدرات الأبناء على المواجهة، فالحرص الزائد والخوف المبالغ فيه من الآباء والأمهات يُخرج أبناءً ضعفاء قليلي الحيلة لا يتمتعون بالمهارات اللازمة لمواجهة الحياة وتقلباتها وصراعاتها.
الأبوة المفرطة ذات تأثير سلبي في التنشئة، لأنه مع تقدم الأبناء في السن، يكتشفون أن خبراتهم قليلة وقدراتهم ضعيفة على المواجهة، مما يجعلهم أقل ثقة في أنفسهم، وأن الواجب على الآباء والأمهات أن يُخرجوا هؤلاء الأبناء من مناطق الراحة الخاصة بهم لمواجهة المواقف المختلفة، ويجب تعزيز الجرأة والشجاعة عند الأطفال، لأن ذلك سيساعد في تحقيق أقصى استفادة لهم من الحياة، وأن ذلك بمثابة إعداد لهم للعالم الحقيقي، فالآباء الذين يسمحون لأبنائهم بالجرأة وأخذ زمام المبادرة، يقدمون دعمًا نفسيًا كبيرًا للأبناء في المستقبل.
إن المشاركة المفرطة في حل مشكلات الطفل تقلل من كفاءة الطفل وفعاليته، وتضعف تنمية قدراته، وتؤثر سلبًا على علاقاته في محيطه العائلي والاجتماعي، وكما تقول الحكمة: من لا يجرؤ على الإمساك بالشوكة يجب ألا يشتهي الوردة، فالجرأة طاقة في الحياة، ووقاية نفسية، ومورد لبناء الشخصية القوية، والذي لا يتعلم الجرأة سيظل قليل المكاسب، قابعًا في مكانه لا يرنو إلى مكانة أعلى (15).
مفسدات الجرأة:
1- رهب الأقران: فهم يستطيعون ببساطة -وتبعًا للتربية الخاطئة- استئصال الشجاعة من نفوسنا والتأثير علينا بإيحاءاتهم المشؤومة.
2- الأسرة المفككة: لماذا لا يمتلك الطفل الشجاعة؟ لأنه غير مسموح له بأن يكون جريئًا، فلو صدق صفع على وجهه، وعوقب وأهين، وعلى العكس فلو كذب وتصرف بفزع، أمن العقوبة وصان كرامته.
3- فساد المجتمع وانحرافه: إن احتياجات الإنسان في المجتمع لا تنال دومًا بالصدق والصراحة، فيجبر الطفل على التشبث ببعض الأساليب ويفرط بجرأته.
بناء على ذلك، فالعيب هو في المجتمع الذي يخلق الإنسان المرائي ذا العقلية المحدودة، فعندما يكون المجتمع فاسدًا وضيق النظرة، وحينما تكون البيئة ملوثة ومضطربة يغسل المرء يده من كل ما هو ايجابي وبناء ويتهرب من الحقائق.
وبالطبع فإن هذا الوضع يصدق على ضعفاء النفوس وذوي الإرادة الواهية.
4- الأحداث والوقائع المرة: لا تموت ذكريات الماضي المؤثرة ولا تدع عقولنا وأذهاننا تخلو منها، فهي شاخصة أمام أعيننا على الدوام، ولا تضعف قوتها.
فنحن واهمون حين نظن أن الطفل قد نسي الحادثة التي تعرض لها وزالت ذكراها من مخيلته، في حين نغفل أن هذه المسائل تحيا وتخلد في عقل الطفل على الدوام، فهي مترسخة في أعماق روحه وعقله، ولا تزول الاخفاقات والانكسارات من ذاكرته أبدًا، وهذا كاف لجعله يتصرف بحذر وبعد طول أناة.
5- الأسباب الأخرى: ويمكن في هذا المجال تحديدها بفقدان المحبة الصادقة، وبالغلظة والتشدد، والتدخل في أمور الطفل والإهانات والإجحاف والظلم والتجاوز.
إلى أي حد نربي الجرأة؟
ليس من الضروري أن يكون الهدف من تربية الرجال الشجعان هو الانتصار في ساحة الحرب، أو عرض العضلات على البلد المجاورة، قد تكون الغاية من تربيتهم على الجرأة هي صيانة أنفسهم في المجتمع وتجنبهم ما قد يلحق بهم من أضرار.
ومن جانب آخر فإننا نربيهم كي يقدموا برجولة على اختيار السبيل المخالف لأهوائهم النفسية؛ وحينما يكونون على مفترق طرق في الحياة، يختارون الطريق الأقرب إلى العزة والإنسانية، أجل... فنحن نربيهم شجعانًا للحياة الدنيا، ونحن نعلم أن أداء الواجب المستند إلى رضا الله تعالى يتطلب وجود الشجاعة والمعرفة.
أي نوع من الجرأة نربي؟
قد تكون الجرأة والتعقل من أجل نيل المكانة، والفخر، أي أن الأفراد يبرزون شجاعتهم سعيًا وراء الجاه والمنصب، ونيل الدرجات، ليحوزوا على المواقف الحساسة ويحصلوا على القاب البطولة.
فمثل هؤلاء الأفراد عبيد الذات، وهم أنانيون وحد شجاعتهم هو أن يحافظوا على أنفسهم وأهوائهم، بينما نربي الجرأة لدى الأفراد كي تستثمر في سبيل الأهداف الإلهية وتكون غايتهم نيل رضا الله تعالى.
وما تهتم به التربية هو النوع الثاني من الجرأة، بمصادقة يرتضيها العقل ويؤيدها الضمير كما أن مبادئ ديننا تؤيد هذا الجانب.
حدود الجرأة:
لا بد من التفريق بين الجرأة والتهور، فقد يطلق المرء لنفسه العنان من أجل تنفيذ خطة أو فكرة غير آبه بما يترتب عليها من نتائج، فمثل هذه الجرأة لا يقرها العقل والشرع؛ بل المطلوب هو تلك الجرأة التي تستند إلى العقل والتفكير وتقوم على أسس حكيمة.
وأؤكد على أن ما يعتبر ضروريًا في الجرأة هو المعرفة الصحيحة والتنفيذ المناسب، فلو قدر الموقف والتزم بالتعقل فلا يبالي وإن اجتمع أهل الأرض ضده.
إن التقييم الصحيح للموقف في استثمار الشجاعة مهم جدًا، وإلا فلا قيمة لعمل من تتلاعب به العواطف، فيجب أن يعلم ماذا يفعل، وما هي الغاية المرجوة من وراء ذلك العمل.
سبل ايجاد الجرأة في الحق:
من أجل ايجاد الشجاعة لدى الأفراد لا بد من الإشارة إلى طرق عديدة منها:
1- تقديم الأسوة:
لا تقولوا للطفل كن شجاعًا وجريئًا أبدًا، فلو أردتم أن يكون ابنكم جريئًا فعلموه عمليًا واجعلوا من أنفسكم قدوات له، فالطفل يمتاز بروح التقليد، فحين يرى عملكم يقلده.
فللقدوة تأثير مهم في الطفل قوية كانت أم ضعيفة، وبناء على ذلك يجب أن تعمل الأسوة بتأمل وترسم الحدود التي ينبغي التحرك ضمنها، سيما وأن الأطفال طماعون وطلاب جاه، ومن الممكن أن يؤدي بهم ذلك على الانزلاق في بعض المخاطر.
والوالدين هما أفضل أسوة وأسلم عامل لإيجاد اكمال المطلوب بالرغم من أن للمعلم والأقران والآخرين تأثيرًا فيه، إلا أن دور الوالدين أهم، خصوصًا إذا كانت لهما أواصر طيبة معه، ويمكثان إلى جانبه أكثر من الآخرين، وكذلك إذا كان الوالدان على درجة عالية من التفاهم مع أبنائهم فإن نفوذهم وتأثيرهم يتضاعف في روح الطفل.
2- التعليم:
يعتبر التعليم المباشر من السبل والأساليب المهمة في ايجاد الشجاعة أيضًا، إلا أن تأثيره ليس بمقدار دور الأسوة أبدًا، فقد تغير نصيحة واحدة او وصية مسيرة بأكملها، وكذلك يؤمن الطفل من اللجوء إلى الكذب.
3- انتقاد الجبن:
قد يكون من الضروري أن تنتقد الطفل إذا ما وقع في الخطأ، وابتلي بالجبن، غاية ما في الأمر أن يكون النقد مناسبًا، وهدفه الإصلاح.
4- الإيحاء:
فهو ينفذ كثيرًا إلى النفس المرء سواء عن طريقه أم عن طريق الآخرين أيضًا، وبالطبع يكون مؤثرًا للغاية إذا كان بواسطة الكبار والذين يكن لهم الاحترام، سيما بالنسبة للذين هم في سن العاشرة فصاعدًا.
5- سرد القصص:
تكمن في الأطفال روح المثالية وحب البطولة، ومن خلال سماعهم لقصص البطولة والحكايات المثالية للأسوة يطابقون أنفسهم مع الأسوة بصورة غير مباشرة، ويعملون جاهدين على التحلي بنفس تلك السمات والسجايا المرغوبة.
طرق ترسيخ الجرأة:
لا بد أن تذكر في هذا الصدد طرقًا عديدة لبلوغ هذا الهدف أهمها:
1- بناء المعتقدات الإيمانية:
وأول خطوة في هذا المجال هي ايجاد الإيمان والعقيدة، الإيمان بقدرته وضرورة امتلاكه للجرأة المؤثرة، فالإيمان عمود ثابت يعصمنا من السقوط في هذا العالم المضطرب، وفقدان الإيمان يسبب المتاعب ويخطف منا كل شيء حتى الجرأة والإقدام.
فمن خلال الإيمان بالله تعالى والمعاد تتعاظم هذه القدرة لدى الإنسان وتهيئ الأرضية للتكامل، أو إلى خلق الضمانة التنفيذية المتينة.
وحب الله تعالى وابتغاء رضاه يمكن أن يكون معينًا على تحقيق الغايات بالنحو الذي يجعل الإنسان يستهين ببذل نفسه من أجل الوصول إليها، ولكن بشرط أن يقترن الإيمان بالإخلاص، وهذا ما يتحقق عندما يكون المدح والذم سواء لديه، والإنسان يتحلى بالجرأة والشجاعة بشكل غريزي وعفوي في فترة الطفولة، إلا أنه لا يمتلك الإيمان، والمربي هو الذي ينمي فيه هذه الخصلة بشكل متزامن مع نضوجه ونموه.
2- بناء الثقة بالنفس:
وهو في الحقيقة، ناتج عن الإيمان، فالثقة تمنح الإنسان القدرة والاعتماد على النفس وتهب الروح جرأة واقتدارًا.
3- الإعداد لتفسير وتحليل الأمور:
فالتجارب الصحيحة المكتسبة من الحياة تستطيع أن تدخل الجرأة في قلب المرء بحيث يقوم ببحث الأمور والمشاكل التي تواجهه، ويدرك ويفسر ويحلل عواقب الأمور، ويرى العواقب التي قد يبتلي بها فيما إذا انتهج المنهج الفلاني، أو النتائج التي ستحصل لو سلك نهجًا آخر.
فعلى سبيل المثال قد يخشى الإنسان أحيانًا، من البحث في مسألة أو أمر من الأمور التي يخشاها أو أسباب تلك الخشية؛ وهذا ما يفتح له الطريق أمام الجرأة والاقدام.
4- اختيار الصاحب والرفيق:
فالمرء يشعر بالقلق والاضطراب، ويصاب بالخوف حينما يرى نفسه وحيدًا في مواجهة مشاكله، وهذه الحالة تترسخ لدى الأطفال، والدليل على ذلك عندما تناط به مسؤولية القيام بعمل، فهو يبحث في كل مكان، فوجود المساعدين والأصحاب ينقذه من هذه الوحدة.
ومما لا شك فيه أنه كلما كان المساعد والرفيق قويًا تضاعفت محفزاته، واحتمالات نجاحه، ولهذا يجب ان يوصف الباري تعالى كمعين ورفيق بالنسبة له.
وهذا ما يفرض على الأخوة والأخوات أن يكونوا بمثابة زملاء ورفاق للطفل، وإلا فعلى الوالدين القيام بهذا الدور، وهذا يعني تعاظم مسؤولية الولدين حينما يكون في البيت طفل واحد.
5- اعداد الأرضية للتدريب:
ومن الأمور المهمة أيضًا في هذا المجال هو تحفيز الطفل على تجربة قدرته على المسؤولية وأن نعرضه لبعض الاختبارات التي تعزز لديه روح الجرأة والشجاعة، فيجب اعطاؤه تمارين بسيطة في البداية لينجزها بنفسه.
وقد أثبتت التجارب أن التدريب والممارسة لهما تأثير أكبر من تأثير النصح والوعظ والتعليم.
وبعبارة أخرى فإن الظرف يقتضي أن يكف الوالدان عن الكلام ويكثرا من العمل، فاعتراف الوالدين بأي خطأ قد يصدر عنهما يعتبر بذاته درسًا عمليًا في تنمية روح الشجاعة ومحفزًا للطفل للاعتراف بخطئه، ذلك لأن الخطأ محتمل من الجميع وليس هناك إنسان كامل وبعيد عن الخطأ.
6- استغلال العواطف والمشاعر:
فقد يكون خطاب حماسي واحد كافيًا لإثارة روح الجرأة وتعزيز المعنويات (16).
--------------
(1) أخرجه الترمذي (2191).
(2) في ظلال القرآن (4/ 2247).
(3) في ظلال القرآن (4/ 2054).
(4) أخرجه البخاري (3603)، ومسلم (1843).
(5) شرح النووي على مسلم (12/ 230).
(6) أخرجه أحمد (11831).
(7) أخرجه أحمد (848).
(8) أخرجه أحمد (18325).
(9) نيل الأوطار (2/ 343).
(10) صحيح الترغيب والترهيب (811).
(11) سيرة ابن هشام (1/ 314).
(12) طبقات الشافعية (8/ 211).
(13) الجرأة في قول الحق.. نماذج تربوية/ المنتدى الإسلامي العالمي للتربية.
(14) مقومات التصور الإسلامي (ص: 13).
(15) الجرأة ضرورة في التنشئة/ إسلام أون لاين.
(16) تربية الطفل دينيًا وأخلاقيًا/ شبكة البصرة الثقافية.