التعامل الأمثل مع الأخطاء الأسرية
إن الخطأ من طبيعة البشر، فقد يحدث بينهم وهم كذلك شيء من الأخطاء المقصودة أو غير المقصودة، فلا بد من الحفاظ على هذا التماسك بينهم بأن يتعاملوا مع الخطأ التعامل الأمثل؛ حتى لا يخسروا ما هم فيه من اجتماع وتفاهم، وسيكون لنا مع هذا التعامل الأمثل وقفات؛ وهي على النحو الآتي:
الوقفة الأولى: ليعلم الجميع أنهم بشر يخطئون ويصيبون وليسوا معصومين، فإذا علم الإنسان ذلك تمامًا أيقن أن هذا الخطأ له ما يناسبه من التعامل، فلا يعطي المشكلة أكبر مما تستحق؛ بل يعلم أن الأخوة والقرابة هي أعظم من هذا الخطأ، لكن هذا يحصل إذا تجرد الإنسان من الهوى، وتأزيز الشيطان.
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم» (1).
فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته، اقتضى حمده وحكمته أن يخلق خلقًا يظهر فيهم أحكامها وآثارها، فلمحبته للعفو، خلق من يحسن العفو عنه، ولمحبته للمغفرة، خلق من يغفر له ويحلم عنه، ويصبر عليه ولا يعاجله، ولمحبته لعدله وحكمته، خلق من يظهر فيهم عدله وحكمته، ولمحبته للجود والإحسان والبر، خلق من يعامله بالإساءة والعصيان، وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان، فلولا خلق من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات، لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها، فتبارك الله رب العالمين، وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة، والنعم السابغة، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته، وله في كل شيء حكمة باهرة، كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات، إنما ذكرنا منه قطرة من بحر، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه.
فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من الشرور والمعاصي ما حصل، فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله وأرضى له، من جهاد في سبيله، ومخالفة هوى النفس وشهوتها له، وتحمل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته، وأحب شيء للحبيب أن يرى محبه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدق محبته (2).
الوقفة الثانية: لا بد من الوقاية من حصول الأخطاء وذلك بالأسلوب التربوي مع الأولاد ونحوهم تعليمًا وتدريبًا، فكيف نطلب من أولادنا عدم الخطأ، ونحن لم نضع بين أيديهم تغذية راجعة في هذا الجانب ووقاية وثقافة؟ فالأمران مرتبطان؛ فعدم الخطأ أو تقليله هو نتيجة لهذه التربية والتغذية الراجعة والوقائية.
ومن هنا نعلم منهج الإسلام الفريد في الوقاية من الوقوع في الشرور والمحافظة على الدين والعرض، فلا بد إذًا من الأخذ بأسباب الحيطة والحذر والوقاية والحماية، وهذه الأسباب والتدابير تقلل من الوقوع في الشر.
فالتربية الصحيحة المبنية على المنهج النبوي تخرج جيلًا فريدًا قد حمي من وسائل الشر.
وإن الغفلة والتغافل والتشاغل عن واجب الرعاية والإهمال بالوقاية يولد جيلًا لا أساس له من الخلق والدين، وإننا لا ننظر إلى وقوع الشر ثم نعالجه، بل لا بد من وضع السدود المنيعة أمام الشرور، ونوجد المناعة لدينا ولأهلينا حتى لا نقع في تلك المستنقعات.
فإذا كان الإسلام نهى عن صحبة الأشرار والجلوس معهم؛ لأنهم من أسباب ضعف المناعة من الشر وعدم الوقاية منه، فكيف بمن يرضى أن يكون جلساؤه هو وأسرته ما يعرض من الشرور في تلك الفضائيات.
وإن من أساليب الوقاية والحماية تطهير المنازل والبيوت من كل ما يخالف تعاليم الإسلام، والسعي لإيجاد البديل الصالح النافع.
وإن من أساليب الوقاية؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وتعليم الآخرين، والأخذ على يد السفيه، وأطره على الحق أطرًا، وقصره عن الشر قصرًا.
ومن أساليب الوقاية إيجاد الجو الإسلامي الذي يدعو إلى الخير ولا يذكر بالشر في المنزل وفي المدرسة وفي المجتمع، فهي بحق محاضن للأجيال تستحق التقدير والدعم والإشادة بمجهود القائمين عليها.
الوقفة الثالثة: أهمية مناقشة الأقران حول آلية التعامل الحسنى مع الأخطاء العائلية والأسرية، وهذا من تلاقح الأفكار وتبادل الأدوار، وقد يكون عند غيرك ما ليس عندك، فالتجارب الناجحة ميدان للأفكار الطيبة، مع تدعيم هذا بالقراءة الثقافية عن هذا الجانب.
الوقفة الرابعة: لا تبالغ في تكبير الخطأ؛ فإنك تتعامل مع شيء من طبيعة البشر وهو الخطأ، فأنت تهدف إلى تصحيح الخطأ، وليس إلى أخذ الثأر والعتاب الشديد، فقد يكون التصحيح فيما هو أقل من ذلك بكثير.
الوقفة الخامسة: التغافل الذكي والإيجابي فيما يمكن التغافل عنه مطلب كبير؛ فإن بعض الأخطاء اليسيرة حقها التغافل، وقد تكفيها الإشارة غير المباشرة في التصحيح لها، فإن وقفت عند كل دقيق وجليل من الأخطاء، فقد تتعب أنت ويتعب غيرك، لكن اجعل تركيزك فيما لا يمكن تجاهله أو التغافل عنه.
والتجاهل في حقيقته هو غض الطرف عن نقيصة معينة بغية عدم إحراج فاعلها، وبغية توجيه رسالة له بأن هذا الخطأ غير مرغوب فيه، وهي نوع من السمو الأخلاقي الذي يعيشه الأبوان أمام أولادهما بغية عدم إحراجهم على خطأ ارتكبوه، وبغية إعطائهم فرصة أخرى لمعالجة هذا الخطأ، وهذا ما فعله عليه السلام مع ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد، فقد روى البخاري عن أبي هريرة، أن أعرابيًا بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء أو سجلًا من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، وفي رواية: فتناوله الناس قال في الفتح: أي بألسنتهم لا بأيديهم (3).
الوقفة السادسة: من الأساليب المثالية في التوجيه لتعديل الأخطاء رسالة الجوال الصوتية أو المقروءة؛ فسيكون فيها تأمل كبير لدى المخطئ، وقد لا يمكن ذلك في كل شيء، لكنها ناجحة فيما تمكن فيه تلك الرسالة، فتفكيره فيها بعد الاطلاع عليها حل للخطأ.
الوقفة السابعة: من الضروري جدًّا أن يكون لدى المربي بُعدٌ في النظر في تصحيح الأخطاء، فهو في تصحيحه لا يقصد ذلك الخطأ بعينه، بل يقصده وما يماثله من الأخطاء؛ مما يجعله يتقن تصحيح الخطأ والتعامل معه.
الوقفة الثامنة: شدة الغضب وثورانه قد لا يساهم في التصحيح، بل هو وقتيٌّ وآنيٌّ فقط، بل عندما يتأمل المربي أن هذا التصحيح تقعيد تربوي للمتربي، فإنه يوجه بهدوء نسبي وشدة نسبية، كلٌّ في مكانه الصحيح، وهو ما يطلق عليه عند أهل التربية بالحكمة، فهو أجدى وأنفع من الغضب المؤقت الذي يزول بزوال الموقف، وقد يؤثر سلبًا على المتربي.
الوقفة التاسعة: تجنب كثيرًا الألفاظ النابية في تصحيح الأخطاء؛ فإنها لا تغني ولا تسمن؛ كوصفه بالغباء، أو بأنه طفل، أو تشبيهه بإحدى الحيوانات ونحو ذلك، فإن هذا قد يزيل نسبة ضئيلة مما في النفس، لكنه يورث الأحقاد وسوء الخلق، ولا يساهم في التصحيح، فإن الشيطان قد يجري بهذه الكلمة في نفس المخطئ، فيحصل بعد ذلك ما لا تحمد عقباه.
الوقفة العاشرة: إذا اعترف المخطئ بالخطأ، فإن هذه إيجابية، فاستثمر هذا الاعتراف في التصحيح، واجعل ذلك ضمن توجيهك له ولا تهمله؛ فإنه ينتظر منك وجهة نظرك حول اعترافه بخطئه.
الوقفة الحادية عشرة: رفع الصوت واللجاج في توجيه المخطئ وتصحيح فعله يقلل من النتيجة الإيجابية أو قد يعدمها، فالاحترام المتبادل هو بالكلام اللين والهين، فإن الاحترام من خلال التوجيه علاج ووقاية، وقد تكون كلمات الاحترام كافية أحيانًا في علاج كثير من الأخطاء عند بعض الناس، وهذا التعامل فيه صعوبة، لكن نتيجته طيبة ومثمرة.
الوقفة الثانية عشرة: التهاجر من خلال حصول الأخطاء ليس حلًّا أوليًّا، بل هو خطوة متأخرة ومقيدة بقيود وضوابط، فمن الخطأ أن يجعله البعض في غير محله، ونقول هذا لأن التهاجر انقطاع، وقد يستمر ذلك الانقطاع من خلال تسويل الشيطان، ثم يندم ذلك الموجه والمربي.
الوقفة الثالثة عشرة: لا تجعل توجيهك للمخطئ أمام الآخرين من الأولاد أو غيرهم؛ فإن هذا يكسر نفسية ذلك المخطئ، بل عليك باختيار الزمان والمكان المناسبين للتصحيح والتوجيه، فهو أدعى للقبول، وأرجى للنتائج، وأقرب للنفوس.
الوقفة الرابعة عشرة: التوجيه غير المباشر يفيد كثيرًا، وذلك عن طريق القريبين أو الجار أو القريب ونحوهم، فاجعل الآخرين يشاركونك فيما يمكن مشاركتهم فيه في الرأي والمشورة، ومزاولة التصحيح والتوجيه؛ مما يجعل المخطئ يسمع توجيهًا منك ومن غيرك، وعندها يعرف الصواب.
الوقفة الخامسة عشرة: إن التماس الأعذار الممكنة لبعض الأخطاء الواقعة مطلب كبير فيما يمكن الالتماس فيه؛ فإن الإنسان جُبل على النسيان، واختلاف وجهات النظر، أو عدم العلم بهذا الفعل أنه خطأ أو غير ذلك من الأعذار؛ فإن هذا المسلك من أخلاق ذوي المروءة والعقول السليمة، فهم يدفعون بالتي هي أحسن، وبهذا تتقارب القلوب والأنفس، ويزول كثير من الإشكالات المتوقع حدوثها ونماؤها.
الوقفة السادسة عشرة: الرفق في التعامل مع الأخطاء غاية في الأهمية، وهو مسلك وخلق نبوي كريم؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: «إن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه» (4)، وقال صلى الله عليه وسلم: «من يُحرم الرفق يُحرم الخير كله» (5)، فاستراتيجية الرفق في تعديل الأخطاء غاية في الأهمية؛ لأن المقصود التعديل والتصحيح والتصويب، وليس المقصود العيب والتعيير بهذا الخطأ، فالشدة والغلظة في التوجيه والإرشاد تقلل كثيرًا من نتائجه ومخرجاته الطيبة.
الوقفة السابعة عشرة: جميل قبل تعديل الأخطاء أن تذكر محاسن في هذا المخطئ؛ فإن ذلك أدعى للقبول والإذعان والامتثال، وهذا منهج نبوي كريم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل» (6)، فكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه لا ينام من الليل إلا قليلًا، فالتمهيد بذكر المحاسن مدخل للقبول.
الوقفة الثامنة عشرة: لا بد أن يعلم المخطئ أننا نكره الخطأ لا المخطئ، ولنشعره بذلك بشكل واضح؛ حتى لا يظن أننا نتحامل عليه أو نسوؤه بنفسه، وإنما نكره الخطأ الحاصل، فلا بد أن تستقر هذه في نفس المرتكب للخطأ.
الوقفة التاسعة عشرة: عرِّفه على القدوة الحسنة في التعامل والتصرفات؛ ليقتديَ وليعلم الصواب من الخطأ، وأول ذلك الشمائل النبوية، فوجود جلسة تربوية متكررة في البيت تهتم بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم كفيلة بإذن الله تعالى أن تكون وقاية عن الوقوع في الأخطاء، أو على أقل تقدير في التقليل من الأخطاء، وإذا حصل الخطأ يتم التذكير بتلك الجلسة وما فيها من الشمائل.
الوقفة العشرون: إذا كنا نهدف إلى تعديل الأخطاء وتصويبها، فيلزم أن نشجع المخطئ عندما يعدل ذلك الخطأ ويستجيب للنصح؛ فإن هذا التشجيع يقوي عنده عدم الرجوع إليه مرة أخرى، فالتشجيع والتحفيز مطلب كبير عند كل إيجابية.
معشر الآباء والأمهات والمربين، إن وجهات النظر قد تختلف وتتباين، فعندما تشاهد الخطأ فتأكد أولًا أنه خطأ، ثم تأمل في طريقة التعديل والإنكار، فإن هذا أدعى لاقتناع الطرف الآخر بذلك، والسبب في عدم الاقتناع أحيانًا يرجع إلى سوء الطريقة في التغيير، أو الإنكار، أو الاستعجال وعدم التأني، أو الألفاظ السيئة، ونحو ذلك من الأسباب، وكل هذا ليس من مسالك المحتسبين والمعدلين والناصحين، فإذا اجتمع التأكد من الخطأ مع الرفق مع اللفظ الحسن، فإن هذا لا يكاد يفشل أبدًا بإذن الله تبارك وتعالى (7).
الطفل الذي يتلقى اللوم والعقاب على كل خطأ، قد تنشأ في ذهنه الصورة المحبطة والعقابية للأم أو الأب، الأمر الذي يوقف عملية انطلاق الإبداع في حياته، ويكره القيام بأية مبادرة أو عمل خوفا من الوقوع في الخطأ، فبدل العقاب واللوم لا بد من إنشاء علاقة ود وصداقة بين الصغير والكبير يتعلم منها الأول كيف يستفيد من الخطأ حتى لا يقع فيه مرة أخرى.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج الأسمى في كيفية التعامل مع أخطاء الصبيان، ففي حديث رواه الإمام البخاري، عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي تحت رعايته- وكانت يدي تطيش في الصفعة-أي تتحرك هنا وهناك في إناء- فقال لي رسول الله عليه وسلم: «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» (8).
لم يؤنبه صلى الله عليه وسلم ولم يلمه على فعله، وإنما علمه آداب الأكل التي كان يحهلها.
ما هي النتيجة التي تحصل عليها إن عاقبت ابنك على خطئه؟ تذكّر كم مرة فعلت ذلك، هل حصلت على نتيجة؟ إن الأطفال الذين يخطئون لا يعلمون حجم الخطأ الذي ارتكبوه ولربما لم يعلموا بأنهم قد أخطئوا، لذلك يصعب على البعض منهم أن تلومه على الخطأ الذي ارتكبه، فالحل الأمثل في مثل هذه الحالة هو تسليط الضوء على الصواب وإزالة الغشاوة عن عينه، وتوضيح معالم الحق الغائب عن ذهنه، وبيان لما يجب أن يفعله في المرات القادمة دون نهر أو لوم أو شتم.
العقاب واللوم لا يعالج ولا يصلح، فعوض تأنيب الطفل على خطأ ارتكبه عمدًا أو بغير قصد، حاول أن تبين له العواقب والأخطار الناتجة عن ذلك السلوك.
إن الخطأ طبيعة بشرية، والتجارب الإنسانية تعلمنا أنه من الخطأ يتعلم الإنسان، فلا ينبغي أن نجعل الخطأ فرصة للإحباط وتحطيم المعنويات، بل يجب أن نجعله وسيلة لتنمية ذاتية الطفل (9).
إن كثيرًا من الذين يخطئون لا يعلمون حجم الخطأ الذي ارتكبوه، ولربما لم يعلموا بأنهم قد أخطئوا، لذلك يصعب على البعض منهم أن تلومه على الخطأ الذي ارتكبه، فالحل الأمثل في مثل هذه الحالة هو تسليط الضوء على الصواب وإزالة الغشاوة عن عينه، وتوضيح معالم الحق الغائب عن ذهنه، وهذا ما فعله النبي عليه السلام لمعاوية ابن الحكم، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، لكنه قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس؛ إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (10).
فمعاوية هذا لم يكن يعلم أن الصلاة لا يصح فيها الكلام، والنبي عليه السلام لم يقف عند حدود الخطأ الذي فعله معاوية رضي الله عنه؛ لكن التصرف النبوي السليم هو تسليط الضوء على الصواب، وبيان لما يجب أن يفعله في المرات القادمة دون نهر أو لوم أو شتم.
وفي البيت إذا وقع الخطأ من قبل أحد الأطراف؛ فإن من الحلول المتنوعة تسليط الضوء على الصواب، وإرشاد المخطئ إليه، فلربما كان غائبًا عن ذهنه ولم يقصد فعله أو التلبس به.
كثير من الأخطاء التي تحصل في البيت تقابل بحجم أكبر من حجم الخطأ الذي حصل، وذلك نتيجة تهويل الأبوين لهذا الخطأ دون حاجة لذلك، فتكون ردة فعل الأبوين شديدة وقوية وربما تكون عنيفة بعض الشيء، وهذا ما يشكل إشكالية ذهنية في عقول الأولاد، وربما بعض الاضطرابات النفسية، وفي قصة جريج الذي أخطأ في إجابته لوالدته، فواجهت والدته الخطأ الذي ارتكبه بخطأ آخر تمثل بالدعاء عليه مثال واضح لتهويل الخطأ، بحيث يصبح أكبر من حجمه، فقد روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج؛ كان يصلي، جاءته أمه فدعته، فقال: أجيبها أو أصلي، فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى، فأتت راعيًا فأمكنته من نفسها، فولدت غلامًا، فقالت من جريج، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا إلا من طين» (11).
فهذه الحادثة جعلت الأم تضخم عصيان ولدها، حتى ألجأت نفسها للدعاء عليه، ويا لحظها التعس كانت ساعة الإجابة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم» (12).
يحاول بعض المخطئين تقديم مبررات مختلقة وغير مقبولة، وخصوصًا إذا انكشف أمرهم بغتة على حين غرة منهم بل قد يبدو على بعضهم التلعثم وهم ينطقون بالعذر الزائف، وخصوصًا الذين لا يُحسنون الكذب لنقاء في سرائرهم؛ وهنا يؤخذون بالصراحة من غير جرح لكرامتهم، وكسبهم حتى لا نخسرهم، ثم نكلهم إلى صلاح نفوسهم، فإنها كفيلة بإذن الله أن تعيدهم إلى الصواب.
مراعاة ما هو مركوز في الطبيعة والجبلّة البشرية، ومن ذلك غيرة النساء وخصوصًا بين الضرائر، فإن بعضهن قد تخطئ خطأ لو أخطأه إنسان في الأحوال العادية لكان التعامل معه بطريقة مختلفة تمامًا.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي مسألة الغيرة بين نسائه وما ينتج عنها من أخطاء مراعاة خاصة؛ يظهر منها الصبر والحلم مع العدل والإنصاف.
وغيرة المرأة أمر مركوز فيها يحملها على أمور غير سوية أحيانًا، ويحول بينها وبين التبصّر بعواقب الأمور، حتى قيل: إن المرأة إذا غارت لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه.
ومن ذلك ما ورد عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة، فانفلقت فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: «غارت أمكم»، ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت (13).
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاقب المخطئة، بل عذرها بطبيعتها، ثم عدل في القضاء، فدفع للمرأة الأخرى صحفة بدلاً من الصحفة المكسورة. ولم يعنّف ولم يشتم فضلاً عن أن يضرب حاشاه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ويحسن قبل مغادرة الموضوع التذكير بالنقاط التالية:
- تصحيح الأخطاء واجب ومهم، وهو من النصيحة في الدين، ومن النهي عن المنكر، ولكنه ليس كل الواجب؛ فإن الدين ليس نهيًا عن المنكر فحسب، وإنما هو أمر بالمعروف أيضًا.
- ليست التربية هي تصحيح الأخطاء فقط، وإنما هي تلقين وتعليم وتدريب واقتداء، وعرض لمبادئ الدين وأحكام الشريعة أيضًا، وتثبيتها في النفوس من التربية بالقدوة والموعظة والقصة والحدث وغيرها، ومن هنا يتبين قصور بعض الآباء والأمهات والمدرسين والمربين بتوجيه جلّ اهتمامهم إلى معالجة الأخطاء ومتابعة الانحرافات دون ترجيح الاهتمام بتعليم المبادئ والأسس والمبادرة بالتحصين الذي يمنع وقوع الانحرافات والأخطاء ويبادرها فبل حدوثها أو يقلّل منها.
يتضح مما سبق ذكره تنوع الأساليب النبوية في التعامل مع الأخطاء، وأن ذلك قد اختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، ومن كان لديه فقه، وأراد الاقتداء قاس النظير على النظير والشبيه على الشبيه ليتوصّل إلى الأسلوب المناسب للحالة المعيّنة (14).
- إن عدم اعتماد الطرق الشرعية في معالجة الأخطاء يولد لنا عددًا كبيرًا من المشاكل؛ منها:
1 -تفاقم لخطأ وتراكبه وتحوله إلى قوة هدامة.
2- التستر أمام الوالدين بزوال الخطأ.
3- لجوء بعض الأولاد إلى الوقاحة؛ لأنهم عرفوا أنهم قد كشفوا أمام والدهم أو أمهم فيستهترون بأفعالهم.
_____________
(1) أخرجه مسلم (2749).
(2) شفاء العليل (ص: 236).
(3) أخرجه البخاري (220).
(4) أخرجه ابن حبان (550).
(5) أخرجه أبو داود (4809).
(6) أخرجه البيهقي (4312).
(7) التعامل الأمثل مع الأخطاء الأسرية/ صيد الفوائد.
(8) أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022).
(9) أخطاء أبنائنا كيف نتعامل معها/ منتديات مؤمنات.
(10) أخرجه مسلم (537).
(11) أخرجه البخاري (3436).
(12) أخرجه أبو داود (1532).
(13) أخرجه البخاري (4927).
(14) فقه التعامل مع المخطئ/ موقع الحليبي.