logo

التعدد


بتاريخ : الخميس ، 2 ذو الحجة ، 1441 الموافق 23 يوليو 2020
بقلم : تيار الاصلاح
التعدد

مسألة تعدد الزوجات ضرورة اقتضتها ظروف الحياة، وهي ليست تشريعًا جديدًا انفرد به الإِسلام؛ وإِنما جاء الإِسلام فوجده بلا قيود ولا حدود وبصورة غير إِنسانية فنظّمه وشذّبه، وجعله علاجًا ودواءً لبعض الحالات الاضطرارية التي يعاني منها المجتمع، وفي الحقيقة فإِن تشريع التعدد مفخرة من مفاخر الإِسلام؛ لأنه استطاع أن يحل «مشكلة اجتماعية» هي من أعقد المشاكل التي تعانيها الأمم والمجتمعات اليوم فلا تجد لها حلًا (1).

والإسلام لم يبح لأحد أن يرغم المرأة على الزواج من رجل له زوجة أو أكثر، فهي التي تختار، سواء كانت بكرًا أم ثيِّبًا.

وهناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة - تاريخية وحاضرة - تبدو فيها زيادة النساء الصالحات للزواج، على عدد الرجال الصالحين للزواج، والحد الأعلى لهذا الاختلال الذي يعتري بعض المجتمعات لم يعرف تاريخيًا أنه تجاوز نسبة أربع إلى واحد، وهو يدور دائمًا في حدودها، فكيف يعالج هذا الواقع، الذي يقع ويتكرر وقوعه، بنسب مختلفة، هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار؟ نعالجه بهز الكتفين؟ أو نتركه يعالج نفسه بنفسه؟ حسب الظروف والمصادفات؟!

إن هز الكتفين لا يحل مشكلة! كما أن ترك المجتمع يعالج هذا الواقع حسبما اتفق لا يقول به إنسان جاد، يحترم نفسه، ويحترم الجنس البشري.

ولا بد إذن من نظام، ولا بد إذن من إجراء.

وعندئذ نجد أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات:

1 - أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج ... ثم تبقى واحدة أو أكثر- حسب درجة الاختلال الواقعة - بدون زواج، تقضي حياتها - أو حياتهن - لا تعرف الرجال!

2 - أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجًا شرعيًا نظيفًا، ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر، من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال، فيعرفن الرجل خدينًا أو خليلًا في الحرام والظلام.

3 - أن يتزوج الرجال الصالحون - كلهم أو بعضهم - أكثر من واحدة، وأن تعرف المرأة الأخرى الرجل، زوجة شريفة، في وضح النور لا خدينة ولا خليلة في الحرام والظلام.

الاحتمال الأول ضد الفطرة، وضد الطاقة، بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف في حياتها الرجال، ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدق به المتشدقون من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب، فالمسألة أعمق بكثير مما يظنه هؤلاء السطحيون، المتحذلقون، المتظرفون الجهال عن فطرة الإنسان، وألف عمل، وألف كسب لا تغني المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية؛ سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة، ومطالب الروح والعقل، من السكن والأنس بالعشير، والرجل يجد العمل ويجد الكسب؛ ولكن هذا لا يكفيه؛ فيروح يسعى للحصول على العشيرة، والمرأة كالرجل- في هذا- فهما من نفس واحدة!

والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف؛ وضد قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف؛ وضد كرامة المرأة الإنسانية، والذين لا يحفلون أن تشيع الفاحشة في المجتمع، هم أنفسهم الذين يتعالمون على الله، ويتطاولون على شريعته، لأنهم لا يجدون من يردعهم عن هذا التطاول. بل يجدون من الكائدين لهذا الدين كل تشجيع وتقدير.

والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام، يختاره رخصة مقيدة، لمواجهة الواقع الذي لا ينفع فيه هز الكتفين، ولا تنفع فيه الحذلقة والادعاء، يختاره متمشيًا مع واقعيته الإيجابية، في مواجهة الإنسان كما هو -بفطرته وظروف حياته- ومع رعايته للخلق النظيف والمجتمع المتطهر، ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح، والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة، ولكن في يسر ولين وواقعية (2).

ومشروعية تعدد الزوجات للضرورة أو الحاجة في الإسلام يقصد به تحقيق أمرين:

أولهما: تحقيق رغبة بعض الناس من طريق الحلال، وإبعادهم عن سلوك طرق الحرام، فبدلًا من وجود ظاهرة الفاحشة أو الزنا، أوجد الإسلام البديل وهو تعدد الزوجات.

والأمر الثاني: هو أن نظام التعدد مرتبط ارتباطًا جذريًا بمراعاة العدل المطلق في معاملة الزوجات، فلا يقبل شرعًا وجود التعدد من غير عدل في المعاملة بين الزوجات (3).

وقد شرع الله تعدد النساء للقادر العادل لمصالح جمة: منها أن في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها، ومنها أن ذلك يعين على كفالة النساء اللائي هن أكثر من الرجال في كل أمة؛ لأن الأنوثة في المواليد أكثر من الذكورة، ولأن الرجال يعرض لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض للنساء، ولأن النساء أطول أعمارًا من الرجال غالبًا، بما فطرهن الله عليه، ومنها أن الشريعة قد حرمت الزنا وضيقت في تحريمه لما يجر إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات، فناسب أن توسع على الناس في تعدد النساء لمن كان من الرجال ميالًا للتعدد مجبولًا عليه، ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق إلا لضرورة (4).

وتعدد الزوجات شيء شرعه الله لعباده مع القدرة، وفيه مصالح كثيرة للزوجين للرجال والنساء جميعًا:

منها: أن الرجل قد لا تعفه المرأة الواحدة، قد يكون كثير الشهوة شديد الشهوة فلا تعفه الواحدة ولا تعفه الاثنتان ولا تعفه الثلاث، فجعل الله له طريقًا إلى إعفاف نفسه بالطريق الحلال، من طريق أربع من النساء.

ومن ذلك أيضًا: ما في التمتع بالأربع من قضاء الوطر وطيب النفس والبعد عن الفواحش، فإن هذا يعينه على غض بصره، وبعده عما حرم الله.

ومن ذلك أيضًا: إعفاف الناس؛ فإنه ليس كل امرأة تجد رجلًا وحده قد يكون الرجال أقل من النساء ولا سيما عند الحروب، ولا سيما في آخر الزمان كما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، فمن رحمة الله أن يكون للرجل أربع حتى يعف أربعًا وينفق على أربع، ففي هذا مصالح لجنس النساء أيضًا، فإن وجود ربع زوج خير لها من عدم زوج بالكلية، يكون لها الربع أو الثلث أو النصف يكون خيرًا لها من العدم، ففي ذلك إعفافها، وفي ذلك أيضا الإنفاق عليها وصيانتها والحياطة دونها.

ومن المصالح أيضًا الكثيرة: الأولاد، وجود الأولاد وكثرة النسل وتكثير الأمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم» (5)، فوجود النسل وكثرة الأولاد في هذه الأمة أمر مطلوب مقصود.

إن الحكمة الإلهية في ميل كل من الزوجين الذكر والأنثى إلى الآخر الميل الذي يدعو إلى الزواج هي التناسل الذي يحفظ به النوع، كما أن الحكمة في شهوة التغذي هي حفظ الشخص.

والمرأة تكون مستعدة للنسل نصف العمر الطبيعي للإنسان وهو مائة سنة، وسبب ذلك أن قوة المرأة تضعف عن الحمل بعد الخمسين في الغالب، فينقطع دم حيضها وبويضات التناسل من رحمها، والحكمة ظاهرة في ذلك، والأطباء أعلم بتفصيلها، فإذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من امرأة واحدة كان نصف عمر الرجال الطبيعي في الأمة معطلًا من النسل الذي هو مقصود الزواج، إذا فرض أن الرجل يقترن بمن تساويه في السن، وقد يضيع على بعض الرجال أكثر من خمسين سنة إذا تزوج بمن هي أكبر منه، وعاش العمر الطبيعي كما يضيع على بعضهم أقل من ذلك إذا تزوج بمن هي أصغر منه (6).

وفي ذلك أيضًا من المصالح الأخرى أن في تزوج الإنسان من هنا، ومن هنا، ومن هنا، وجود الترابط بين الأسر والتعاون والتحاب والتآلف؛ فيكثر الترابط بين المجتمع، والتعاون بين الإنسان مع أنسابه وأصهاره في الغالب يتعاون معهم ويكون بينهم صلة مودة وترابط يعين على أمور الدين والدنيا جميعًا.

وقد بينا أن هذا من الحكمة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من عدة قبائل حتى يكون يقصد بذلك انتشار الإسلام بينهم وتعاونهم مع المسلمين وتأليف قلوبهم على الإسلام بسبب مصاهرته للنبي عليه الصلاة والسلام، والله جل وعلا قال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فهذا كله فيه مصالح للجميع، مصالح للجنسين للرجال والنساء وتكثير الأمة وعفة الفروج وغض الأبصار والإعانة على الإنفاق على النساء المحتاجات، إلى النفقة والتقارب بين الأسر، والترابط بين الأسر والتحاب بين الجميع، فالمصالح كثيرة كما سمعتم بعضها (7).

أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإسلام:

يجدر بذوي الحصافة في الرأي أن ينظروا إلى الأسباب التي دعت أن يبيح الإسلام تعدد الزوجات دون أن ينقموا عليه ذلك، ويرموه بالقسوة، فإن في بعضها ما هو موجب للتعدد لا مجيز له فحسب.

أهم أسباب تعدد الزوجات:

(1) قد تصاب المرأة أحيانًا بمرض مزمن أو مرض معد؛ يجعلها غير قادرة على القيام بالواجبات الزوجية، فيضطر الرجل إلى أن يقترف ما ينافي الشرف والمروءة ويغضب الله ورسوله إن لم يبح له أن يتزوج بأخرى.

وقد تصاب المرأة بالبرود الجنسي؛ ولا سيما عقب بلوغ سن اليأس، أو قبله عند استئصال الرحم بسبب مرض، وقد يكون الرجل ذا قدرة جنسية زائدة أو شبق دائم مستمر، وهو لا يكتفي بامرأة واحدة، لعدم استجابتها أحيانًا، فيكون اللجوء للتزوج بزوجة ثانية حاجزًا له عن الوقوع في الزنى الذي يضيّع الدّين والمال والصّحة، ويسيء إلى السّمعة.

(2) دل الاستقراء على أن عدد النساء يربو على عدد الرجال، لما يعانيه هؤلاء من الأعمال الشاقة التي تنهك القوى وتضوى الأجسام، ولا سيما الحروب الطاحنة، فإذا منع التعدد لا يجد بعض النساء أزواجًا يحصنونهن ويقومون بشئونهن، فيكثر الفساد، ويلحق الأسر العار وتعضهن الحياة بأنيابها.

(3) حضت الشريعة الإسلامية على كثرة النسل، لتقوى شوكة الإسلام، وتعلو سطوته، وتنفذ كلمته، حتى ترهبه الأعداء، وتتقيه الأمم المناوئة له، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بإباحة تعدد الزوجات، لأن المنع مفض إلى تناقص النسل، ولا أدل على ذلك من أن عقلاء الأمم في الغرب أشفقوا على أممهم لما اعتراها من نقص في النسل بسبب منع التعدد من ناحية، وإحجام كثير من شبانهم عن الزواج، والاجتزاء بالسفاح، فرارًا من الحقوق الزوجية، وأعباء الأولاد من ناحية أخرى، ومن ثم لجأ كثير من الدول الغربية إلى ارتباط بعضهم ببعض بالحلف والعهود والمواثيق، طلبًا لنيل فائدة التكاثر، وبذلك تبقى لهم السيادة الدولية.

(4) تبين من خلال الإحصائيات أن عدد النساء أكثر من الرجال، فلو أن كل رجل تزوج امرأةً واحدة فهذا يعني أن من النساء من ستبقى بلا زوج، مما يعود بالضرر عليها وعلى المجتمع؛ أما الضرر الذي سيلحقها فهو أنها لن تجد لها زوجًا يقوم على مصالحها، ويوفر لها المسكن والمعاش، ويحصنها من الشهوات المحرمة، وترزق منه بأولاد تقرُّ بهم عينها، مما قد يؤدي بها إلى الانحراف والضياع إلا من رحم ربك.

وأما الضرر العائد على المجتمع فمعلوم أن هذه المرأة التي ستجلس بلا زوج، قد تنحرف عن الجادة وتسلك طرق الغواية والرذيلة، فتقع في مستنقع الزنا والدعارة، مما يؤدي إلى انتشار الفاحشة فتظهر الأمراض الفتاكة من الإيدز وغيره من الأمراض المستعصية المعدية التي لا يوجد لها علاج، وتتفكك الأسر، ويولد أولاد مجهولي الهوية، لا يَعرفون من أبوهم؟

فلا يجدون يدًا حانية تعطف عليهم، ولا عقلًا سديدًا يُحسن تربيتهم، فإذا خرجوا إلى الحياة وعرفوا حقيقتهم وأنهم أولاد زنا فينعكس ذلك على سلوكهم، ويكونون عرضة للانحراف والضياع، بل وسينقمون على مجتمعاتهم، ومن يدري فربما يكونون معاول الهدم لبلادهم، وقادة للعصابات المنحرفة، كما هو الحال في كثير من دول العالم.

(5) كان من نتائج منع التعدد انتشار كثير من الأمراض الفتاكة التي أصابت الرجال والنساء والأطفال حتى عجز الطب عن مكافحتها وتغلغل الداء وعز الدواء، مما جعل بعض البلاد تسن القوانين التي تمنع عقد الزواج إلا بعد إحضار صكّ رسمي بخلو الزوجين من الأمراض المعدية والأمراض التي تجعل النسل ضعيفًا ضاويًا لا يستطيع الكفاح في الحياة (8).

(6) ثم إن من مصالح تعدد الزوجات أن فيه مصالح عظمى شرعه الله لها، منها: أن فيه مندوحة عن الطلاق؛ لأن الرجل إذا تزوج المرأة حتى كبرت معه ومضى جمالها وصارت لا رغبة فيها للرجال، إذا قصر عليها ولم تكن عنده مندوحة لزوجة أخرى يتسلى بها ويأت بها؛ فإنه يضطر لفراقها ولو بالمحاكمة حتى يتخلص منها، أما تعدد الزوجات ففيه مندوحة وفرج من هذا الأمر المحرج؛ لأنه يتزوج أخرى ويبقى مع الأولى ملاطفًا لها، محسنًا إليها، منفقًا إليها، ويجد غيرها ممن يسليه ويوسع صدره.

وهذا أمر لا يخفى، فالله جل وعلا أباح تعدد الزوجات لمصلحة النساء لئلا يتعطلن عن الزواج؛ لأنهن أكثر من الرجال؛ ولئلا يضطر أزواجهن إلى طلاقهن، ولمصلحة الرجال لئلا تعطل منافعهم عند حيض المرأة الواحدة ونفاسها ومرضها، ولمصلحة الأمة ليتكاثروا، وليكونوا جمعًا ضخمًا يقف في وجه العدو، ويرد الحقوق المسلوبة، ويوقف الكافر عند حده، ويعلي كلمة الله جل وعلا، فهذه مصالح معروفة موجودة عامة لا ينكرها إلا مطموس البصيرة (9).

(7) الرجال عرضة للحوادث التي قد تودي بحياتهم، لأنهم يعملون في المهن الشاقة، وهم جنود المعارك، فاحتمال الوفاة في صفوفهم أكثر منه في صفوف النساء، وهذا من أسباب ارتفاع معدل العنوسة في صفوف النساء، والحل الوحيد للقضاء على هذه المشكلة هو التعدد.

ثم إن المواليد من الإناث أكثر من الذكور في أكثر بقاع الأرض ترى الرجال على كونهم أقل من النساء يعرض لهم من الموت، والاشتغال عن التزوج أكثر مما يعرض للنساء، ومعظم ذلك في الجندية والحروب، وفي العجز عن القيام بأعباء الزواج، ونفقاته ; لأن ذلك يطلب منهم في أصل نظام الفطرة، وفيما جرت عليه سنة الشعوب، والأمم إلا ما شذ، فإذا لم يبح للرجل المستعد للزواج أن يتزوج بأكثر من واحدة اضطرت الحال إلى تعطيل عدد كثير من النساء، ومنعهن من النسل الذي تطلبه الطبيعة والأمة منهن وإلى إلزامهن مجاهدة داعية النسل في طبيعتهن، وذلك يحدث أمراضا بدنية، وعقلية كثيرة يمسي بها أولئك المسكينات عالة على الأمة، وبلاء فيها بعد أن كن نعمة لها، أو إلى إباحة أعراضهن والرضا بالسفاح (10).

(8) من الرجال من يكون قوي الشهوة، ولا تكفيه امرأة واحدة، ولو سُدَّ الباب عليه وقيل له لا يُسمح لك إلا بامرأة واحدة لوقع في المشقة الشديدة، وربما صرف شهوته بطريقة محرمة.

أضف إلى ذلك أن المرأة تحيض كل شهر، وإذا ولدت قعدت أربعين يومًا في دم النفاس؛ فلا يستطيع الرجل جماع زوجته، لأن الجماع في الحيض أو النفاس محرم، وقد ثبت ضرره طبيًا، فأُبيح التعدد عند القدرة على العدل.

المرأة لا تكون في كل وقت مستعدة لغشيان الرجل إياها، كما أنها لا تكون في كل وقت مستعدة لثمرة هذا الغشيان وفائدته، وهو النسل فداعية الغشيان في الرجل لا تنحصر في وقت دون وقت، ولكن قبوله من المرأة محصور في أوقات، وممنوع في غيرها، فالداعية الطبيعية في المرأة لقبول الرجل إنما تكون مع اعتدال الفطرة عقب الطهر من الحيض، وأما في حال الحيض وحال الحمل والإثقال فتأبى طبيعتها ذلك (11).

(9) التعدد ليس في دين الإسلام فقط؛ بل كان معروفًا عند الأمم السابقة، وكان بعض الأنبياء متزوجًا بأكثر من امرأة، فهذا نبي الله سليمان كان له تسعون امرأة، وقد أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجال بعضهم كان متزوجًا بثمان نساء، وبعضهم بخمس فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإبقاء أربع نساء وطلاق البقية.

(10) وقد تكون المرأة من أقارب الرجل ولا معيل لها، وهي غير متزوجة، أو أرملة مات زوجها، ويرى هذا الرجل أن من أحسن الإحسان لها أن يضمها إلى بيته زوجة مع زوجته الأولى، فيجمع لها بين الإعفاف والإنفاق عليها، وهذا خير لها من تركها وحيدة ويكتفي بالإنفاق عليها.

(11) مراعاة كثرة أسفار الزَّوج: إنّ طبيعة عمل بعض الرجال بحاجة إلى كثرة السفر والتنقّل، وقد يبقى في سفره مدةً طويلةً قد تمتد لعدة شهور، أو عدة سنوات، ويَصعُب عليه أن يعيش في سفره وحيدًا دون زوجة، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يأخذ زوجته وأبناءه معه كلما سافر، ومع كثرة الفتن في هذا الزمان كان الزواج بأخرى هو الحل لكي يُحصِّن نفسه ويعفّها.

(12) إعفاف النّاس: يجب على الرجل إذا أراد أن يعدّد إخلاص نيّته في هذا الزواج؛ كإعفاف نفسه، وإعفاف المرأة التي يريد الزواج منها، لأنّ زيادة عدد النساء من علامات آخر الزمان كما أخبر بذلك النّبي صلى الله عليه وسلم، فكان من رحمة الله تعالى أن يتزوج الرجل أربع زوجات فيعفّهن، وينفق عليهن، ويصونهن، فقد لا تجد كل امرأة رجل يكون لها وحدها، وتعود زيادة عدد النساء إلى الحروب، وإلى طبيعة الأعمال التي يقوم بها الرجال عادةً، حيث تجعلهم معرّضون للموت والخطر أكثر من النساء؛ كالعمل بالمناجم، والبحور، والزراعة التي تجعلهم عُرضةً للموت من لسع الأفاعي، وافتراس الحيوانات الوحشية، فإذا زاد عدد النساء على الرجال، مع منع التعدد، فلا تجد كثير من النساء أزواجاً يتكفّلن بهن، ويقومون بإصلاح شؤنهن، فإن لم يتم الزواج والإحصان لهؤلاء النساء يُخشى عليهن من كثرة الفساد (12).

شروط التعدد:

أولًا: العدل:

والعدل إنما يكون فيما يدخل تحت طاقة الإنسان، كالتسوية في المسكن، والملبس، ونحو ذلك، أما ما لا يدخل في وسعه من ميل القلب إلى واحدة دون أخرى، فلا يكلف الإنسان بالعدل فيه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عهده يميل إلى عائشة أكثر من سائر نسائه، لكنه لا يخصها بشيءٍ دونهن إلا برضاهن، وإذنهن عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: «اللهم هذا قسمي، فيما أملك فلا تلمني، فيما تملك، ولا أملك»، قال أبو داود: يعني القلب (13).

قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، أفادت هذه الآية الكريمة أن العدل شرط لإباحة التعدد، فإذا خاف الرجل من عدم العدل بين زوجاته إذا تزوج أكثر من واحدة، كان محظورًا عليه الزواج بأكثر من واحدة، والمقصود بالعدل المطلوب من الرجل لإباحة التعدد له، هو التسوية بين زوجاته في النفقة والكسوة والمبيت ونحو ذلك من الأمور المادية مما يكون في مقدوره واستطاعته.

وأما العدل في المحبة فغير مكلف بها، ولا مطالب بها لأنه لا يستطيعها، وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129].

ثانيًا: القدرة على الإنفاق على الزوجات:

والدليل على هذا الشرط قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، فقد أمر الله في هذه الآية الكريمة من يقدر على النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف، ومن وجوه تعذر النكاح؛ من لا يجد ما ينكح به من مهر، ولا قدرة له على الإنفاق على زوجته (14).

_________________

(1) صفوة التفاسير (1/ 239).

(2) في ظلال القرآن (1/ 580).

(3) التفسير الوسيط للزحيلي (1/ 281).

(4) التحرير والتنوير (4/ 226).

(5) أخرجه أبو داود (2050).

(6) تفسير المنار (4/ 289).

(7) الحكمة من تعدد الزوجات/ موقع الشيخ ابن باز.

(8) تفسير المراغي (22/ 52- 53).

(9) العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/ 10- 411).

(10) تفسير المنار (4/ 289).

(11) تفسير المنار (4/ 291).

(12) ما هي الحكمة من تعدد الزوجات/ موضوع.

(13) أخرجه أبو داود (2134).

(14) المفصل في أحكام المرأة (6/ 286).