استئذان الزوج في الخروج من البيت
الاعتدال والتوازن والانضباط والالتزام، كل ذلك تعكسه وتدل عليه هيئة راسخة في النفس البشرية السوية، تجعل ما يصدر عنها من أفعال وتصرفات موافقة للحق، مجانبة لما يستقبح، مراعية للمشاعر، التزام في إعطاء الحقوق، وتوازن وموازنة بين الحقوق والمسؤوليات.
النظام، والانضباط، وحسن الترتيب، وسلامة التقدير، وجمال الذوق، كل ذلك يحفظ الفرد كما يحفظ الجماعة، ويعين على تحمل المسؤولية وعلى أعبائها، ويثبت العلاقات الاجتماعية وينظمها.
التعامل المنظم والتقدير الصحيح يهب الحياة مذاقًا حلوًا، ويقي من أعباء ثقال ترهق الفكر والصحة والمال، مسالك راقية، ومسارات متوازنة، يقودها وعي عميق، وعزم صادق، وإصرار لا يعرف الكسل، ليس بالقوة تتحقق الآمال، ولكن بالعزيمة والإصرار وحسن الأدب.
والمسلم المستقيم الجاد في حياته، المنظم لشؤونه، يجعل لكل جزء من وقته هدفًا، ولكل عمل من أعماله غاية، لا وقت له يضيع، ولا شيء من حياته في فراغ، الموازنة عنده ظاهرة بين الأهم والمهم وما دون ذلك، وإن للمسلم في فرائض الإسلام وأحكامه وآدابه ما ينبهه إلى ضرورة الانضباط ولزوم الآداب في حياته كلها.
تأملوا هذا الانضباط والترتيب وتهذيب الذوق في المسلم وهو يقوم إلى صلاته، متطهِّرًا في بدنه وثوبه وبقعته، يستاك، ويأخذ زينته، ويمشي إلى بيت الله، وعليه السكينة والوقار، يجتنب الروائح الكريهة من أجل نفسه وإخوانه والملائكة المقربين، ثم آداب الخروج والدخول من منزله ومسجده، وخفض الصوت، وغضّ البصر، والقراءة، والذكر، والدعاء، والمناجاة، والإنصات: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110].
قائمًا لله قانتًا، ساكنًا، غير عابث لا في حركة، ولا في شرود فكر، متابعًا لإمامه، منتظمًا في صفه، في ذوق رفيع، وأدب عال.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: «استووا، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون، وأقيموا الصف فإن إقامة الصف من حسن الصلاة» (2).
إن الإسلام دين النظام، في العبادات، وفي المعاملات، يأمر بالنظام في كل الحالات، في العادات والمعاملات، في السفر والحضر، فإذا خرج ثلاثة في سفر دعا إلى تأمير أحدهم فعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» (3)، لذلك وتنظيمًا للمجتمع فقد جعل قوامة الأسرة للرجل، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]، فهو أقدر على القيام بهذا الاختصاص من المرأة، إذ جعل مجالها الطبيعي يتناسب مع فطرتها النفسية وتكوينها الجسمي، وهو إمداد المجتمع المسلم بالأجيال المؤمنة المهيأة لحمل رسالة هذا الدين.
إن الأسرة هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية، الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق، والأولى من ناحية الأهمية؛ لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون في التصور الإسلامي.
وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأنًا، والأرخص سعرًا: كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية، وما إليها، لا يوكل أمرها- عادة- إلا لأكفأ المرشحين لها ممن تخصصوا في هذا الفرع علميًا، ودربوا عليه عمليًا، فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة؛ إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأنًا والأرخص سعرًا؛ فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة، التي تنشئ أثمن عناصر الكون؛ العنصر الإنساني (4).
ولا أحد ينكر فضل الاختصاص من حيث قلة الجهد، وجودة المردود، سواء في النواحي المادية أو الإنسانية، هذه الرئاسة والقوامة تقتضي وجوب طاعة المرأة لزوجها، وقد جاء في الفتاوى لابن تيمية: والمرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك بها من أبويها، وطاعة زوجها أوجب (5)، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» (6).
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها» (7)، وفي صحيح الجامع: «خير النساء من تسرك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت، وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك» (8).
فهذه أربعة أركان للسعادة التي يسعى إليها كل إنسان إلا أنها لا تكتمل إلا بالمرأة الصالحة، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: لما نزل في الفضة والذهب ما نزل، قالوا: فأي المال نتخذ؟ قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك، فأوضع على بعيره، فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا في أثره، فقال: يا رسول الله، أي المال نتخذ؟ فقال: «ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة مؤمنة، تعين أحدكم على أمر الآخرة» (9)، والنساء اللاتي عرفن هذه الحقيقة وعملن بها، خرج من تحت أيديهن رجال ملأوا التاريخ علمًا وذكرًا صالحًا.
ومما يؤسف له أن بعض النساء ممن يردن الخير لم يفهمن هذه الحقيقة، أو تجاهلن العمل بها وقضين الأوقات في أمور لا شك أنها من الخير؛ لكنهنَّ تركن ما هو أوجب وأعظم! فما أدري أيردن دخول الجنة من باب غير أبواب الجنة الثمانية؟ فالوصية للنساء المؤمنات أن يعتنين بأزواجهنَّ وأولادهن وبيوتهن، ويستيقنّ قوله صلى الله عليه وسلم في: «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت» (10).
وعن ابن أبى أوفى قال: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما هذا يا معاذ»؛ قال: أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفعلوا ذلك، فإني لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسي محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه» (11).
وكذلك فعلى الزوج أن يُؤدي حقَّها، ويستوصي بها خيرًا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيرًا» (12)، والله يقول جل وعلا: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، ويقول سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]، فالواجب عليه أن يؤدي حقَّها، ولها رزقها، وكسوتها، وإحسان العشرة، وطيب الكلام، وعدم الإيذاء بغير حقٍّ، وعليها هي: السمع والطاعة لزوجها، وعدم عصيانه في المعروف.
والزوج له مكانة عظيمة عند زوجته، وكثير من نسائنا الآن لا يحترمن هذا المقام ولا يوقرن هذه المكانة؛ بل يتنطعن ويترفعن على الزوج.
ولذلك ورد في الأحاديث الصريحة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن منعه صلى الله عليه وسلم المرأة من الصيام وزوجها حاضر وشاهد إلا بإذنه، فلا يجوز لها أن تصوم، مع أن الصيام من أجل العبادات، ومع ذلك منعها النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في حال حضور زوجها بغير إذنه؛ لعظم مكانته منها، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه» (13).
هذا، وطاعة الزوج ليست تسلطًا منه، ولا امتهانًا للمرأة، وانتقاصًا لشخصيتها، إنما هي من طاعة الله والقربات إليه التي تثاب عليها ويجب أن تعتز بها، وهذا ما يميز المسلمة الواقفة عند حدود الله عن العابثة المتسيبة، التي لا أب يردها ولا زوج يمنعها، تخرج من البيت متى تشاء وحيث تشاء، فتزرع الشر لتحصد الندامة فيما بعد بمشاكل لا تنتهي، واتهامات كثيرة، وواقع مرير، ونتائج وخيمة، ولا ينجي من ذلك إلا العودة إلى تحكيم شرع الله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بالْمَعْرُفِ ولِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]، وهذه الدرجة هي قوامة الأسرة.
ولا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، سواء كان ذلك لكونها مرضعًا أو لكونها قابلة أو غير ذلك من الصناعات، وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزة عاصية لله ورسوله ومستحقة للعقوبة (14).
وهكذا فخروجها للعمل بغير إذن زوجها نشوز عن طاعة زوجها وعصيان لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا خرجت للتزاور أيًا كان السبب؟ ولو كان ذلك لزيارة والديها المريضين.
للزوج منعها من الخروج من منزلها إلى ما لها منه بد، سواء أرادت زيارة والديها، أو عيادتهما، أو حضور جنازة أحدهما، قال أحمد في امرأة لها زوج وأم مريضة: طاعة زوجها أوجب عليها من أمها، إلا أن يأذن لها (15).
وحتى الخروج للعبادة تحتاج معه إلى إذنه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن» (16).
ومقتضى الحديث: أن جواز خروج المرأة يحتاج إلى إذن الزوج (17).
أما قول القائل: إنهن لا يخرجن من بيوتهن مطلقًا لقوله تعالى: {وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ} فليس بحجة له بدليل قوله تعالى بعدها: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} والمقصود به عند خروجهن.
ومعنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى؛ هذا لو لم يرد دليل يخصص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة (18).
وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقًا، وإنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن وهو المقر وما عداه استثناء طارئًا لا يثقلن فيه ولا يستقررن؛ وإنما هي الحاجة وتقضى وبقدره (19).
وقد عرف عن أمهات المؤمنين والصحابيات أنهن كن يخرجن في حوائجهن وللمشاركة في الغزو، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى (20).
وفيه خروج للنساء في الغزو والانتفاع بهن في السقي والمداواة لمحارمهن وأزواجهن وغيرهم مما لا يكون فيه مس بشرة إلا موضع الحاجة.
وهذه أم عمارة تحدثنا حديثها يوم أحد: خرجت أول النهار ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والريح والدولة للمسلمين، فلما انهزم المسلمون، انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أباشر القتال وأذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وأرمى بالقوس حتى خلصت إليّ الجراحة (21).
وعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما التفت يوم أحد يمينًا ولا شمالًا إلا ورأيتها تقاتل دوني» (22).
وتستأذنه صلى الله عليه وسلم أم سنان الأسلمية في الخروج إلى خيبر للسقيا ومداواة الجرحى فقال لها عليه الصلاة والسلام: «فإن لك صواحب قد أذنت لهن من قومك ومن غيرهم فكوني مع أم سلمة» (23).
وفي خيبر أيضًا عن امرأة من بني غفار قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار فقلنا: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا -وهو يسير إلى خيبر- فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا، فقال: «على بركة الله»، فخرجنا معه (24).
حتى المقعدة فلها الخروج في حوائجها نهارًا، سواء كانت مطلقة، أو متوفى عنها، لما روى جابر قال: طُلقتْ خالتي ثلاثًا فخرجت تجذ نخلها فلقيها رجل فنهاها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اخرجي فجذي نخلك لعلك أن تتصدقي منه أو تفعلي خيرًا» (25).
ويدخل الرسول صلى الله عليه وسلم على عائشة رضى الله عنها وعندها امرأة قال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: «مه، عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا»، فكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه (26).
فهذه كلها حالات تخرج فيها المرأة بمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وإقراره بخروجها أو أمره وإذنه الصريح به، فلو كان المقصود بالقرار في البيت عدم الخروج المطلق لنهى عن الخروج ولما أذن به.
ثم إن الحبس الدائم للمرأة في البيت ما هو إلا عقوبة شرعية -كان قبل أن يشرع حد الزنا فنسخت هذه العقوبة بالحد الشرعي- أقول كان الحبس في البيوت للمرأة التي تأتي الفاحشة وذلك لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15].
أما المرأة العفيفة الملتزمة بأحكام دينها، والتي تراقب الله تعالى في حركاتها وسكناتها فهي تقدر شرف مهمتها وعظم مسئوليتها: إنها إن قرت في بيتها فهي في عمل واعٍ يقظ، لا فراغ اللاهيات ولا تفاهة العابثات من ربات الفيديو والأزياء والسينما ...
إنها تعد لأمتها الإسلامية أبطالها الذين يستعيدون مجدها فتربيهم على الاعتزاز بقيم الإسلام ليفدوه بأنفسهم إن واجههم الخصوم، ويعملون وسعهم لإعلاء كلمة الله.
وإن أرادت الخروج من بيتها فلن يكون ذلك إلا إن كانت المصلحة الشرعية في الخروج راجحة عنها في البقاء.
وإن خرجت: فبالحدود المشروعة وبالطريقة المشروعة، تستأذن الزوج المسلم ولا تخرج بغير إذنه، وإلا اعتبرت عاصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبالمقابل فزوجها المسلم يراعى الله فيما ائتمنه، فيحرص على أن يبعدها عن الشبهات ومواطن الزلل، ويأخذ بيدها إلى كل خير، ليشاركها أجرها سواء كان زيارة أقاربها وصلتهم أو بر والديها، أو صلة أخواتها في الله، أو العلم المشروع.
ثم إن الأصل أن ينبني البيت المسلم على المودة والرحمة، لا الغلظة والتسلط، فالزوج والزوجة كلاهما يحكم الشرع ويزن الأمور بمقياسه، فلا يتعسف الرجل في استعمال حقه الذي منحه الله إياه ويحفظ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالمرأة: «استوصوا بالنساء خيرًا» (27)، وبالمقابل لا يجمح الهوى بالمرأة ولا تستكبر عن طاعة زوجها فتكون في عداد الناشزات.
أما عند عدم الزوج لوفاته، أو لعدم زواج المرأة فتستأذن أبويها؛ وهذا من برهما وحسن صحبتهما، فهما أحرص الناس على حسن سمعتها وجلب الخير لها.
هل تأثم المرأة إن خرجت بدون إذن الزوج؟
تقرير الجواب عن هذه المسألة يقوم على جانبين:
الأول: كون الإذن من حقوق الزوج، وقد تقدم إثباته وتقديم الأدلة عليه.
الثاني: كون المرأة ملزمة بطاعة الزوج.
جعلت الشريعة للزوجة حقوقًا على زوجها مثل النفقة والسُّكنى، كما جعلت للزوج حقوقًا على زوجته، ومن ذلك حق الطاعة المأخوذ من قوامته عليها؛ والتي جاءت في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]، ووجه الدلالة من الآية أن القوَّام: هو المبالغ في القيام، يقال: هذا قيِّم المرأة وقوامها للذي يقوم بأمرها ويحفظها (28).
واستدل العلماء لوجوب طاعة الزوج أيضًا بقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} [النساء: 34]، قال أهل التفسير: فالصالحات منهن قانتات مطيعات لأزواجهن، حافظات لما غاب واستتر من أمور الزوجية التي لا يصح أن يطلع عليها أحد مهما كان، كالأعراض وما يحصل في الخلوات، وذلك بما وعدهن الله من الثواب العظيم على حفظ الغيب، وبما أوعدهن من العقاب الشديد على إفشائه (29).
قال الواحدي: وظاهر هذا إخبار، وتأويله الأمر لها بأن تكون طائعة، ولا تكون المرأة صالحة إلا إذا كانت مطيعةً لزوجها؛ لأن الله تعالى قال: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} [النساء: 34]؛ أي: الصالحات من اللواتي يطعن أزواجهن (30).
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما؛ عبدٌ آبِق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع» (31).
ففي الحديث دليل على المرأة التي تعصي زوجها تكون صلاتها غير مقبولة، ولا تُثاب عليها وإن أجزأتها.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت» (32).
والحديث دليل على عظم منزلة طاعة الزوجة لزوجها، ولهذا ينبغي للمرأة المؤمنة التي ترجو لقاء الله أن تجتهد في طاعة زوجها كل الاجتهاد، وتلتمس مرضاته في غير معصية؛ فهو باب لدخولها الجنة.
وإذا تقرر أن إذن الزوج لا بد منه في خروج المرأة من منزله، وأنه من حقوقه عليها، وأن طاعة المرأة لزوجها واجبة في غير المعصية - فلا جرم أن يدل على أن خروج الزوجة من غير إذن زوجها معصية، وأنها تكون آثمة بذلك، وقد ورد التصريح بإثم المرأة إن خرجت دون إذن زوجها، بل وجعل ذلك من الكبائر:
وقال ابن تيمية الحنبلي: لا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذنه ... وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه، كانت ناشزة عاصية لله ورسوله، مستحقة العقوبة (33).
حدود إذن الزوج:
الأصل أن الزوجة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذن زوجها، وقد استثنى الفقهاء من ذلك حالات الضرورة والحاجة؛ حيث للزوجة أن تخرج بإذن الزوج وبغير إذنه.
وأرادوا بالضرورة ما يترتب عليه ضرر على المرأة لعدم خروجها، ومن أمثلة ذلك: خوفها من انهدام المنزل وهي فيه، أو نشوب حريق في المنزل.
وأما الحاجة، فمهنا ما يكون شرعيًّا، ومنها ما يكون غير شرعي، فمن الحاجات الشرعية خروجها للحج الواجب مع وجود مَحْرَمٍ، ومن الحاجات الشرعية خروجها للإتيان بمأكل ونحوه إذا لم يكن عندها من يأتيها به، أو لاكتساب النفقة إذا أعسر الزوج، أو كان لها حق على آخر تريد أخذه، أو لرفع شكوى للقاضي، أو نزلت بها نازلة ولم تجد من يستفتي لها، وغير ذلك من حوائجها التي لا بد لها منها، ولم يقم الزوج بتلك الحوائج (34).
وقد اختلف الفقهاء في مسألة زيارة الزوجة لوالديها، هل هي من الحاجات الشرعية، فتخرج لزيارتهما وإن لم يأذن لها الزوج، أم لا بد من إذنه لها؟
هل للزوج منع زوجته من زيارة والديها؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: للزوج أن يمنعها من ذلك ويلزمها طاعته، فلا تخرج لزيارتهما إلا بإذنه، لكن لا يمنعها من كلامهما أو زيارتهما إلا أن يخشى من زيارتهما ضررًا؛ وهو قول الشافعية والحنابلة.
قال الشافعية: للزوج أن يمنع زوجته من عيادة أبيها وأمها إذا مرضا، ومن حضور موتهما وتشييعهما إذا ماتا (35).
وقال الحنابلة: وللزوج منعها من الخروج من منزله إلى ما لها منه بد، سواء أرادت زيارة والديها، أو عيادتهما، أو حضور جنازة أحدهما، قال أحمدُ في امرأة لها زوج وأم مريضة: طاعة زوجها أوجب عليها من أمها، إلا أن يأذن لها (36).
واستدلوا بحديث أم المؤمنين عائشة في قصة الإفك، وقولها للنبي صلى الله عليه وسلم: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ (37).
قال الحافظ العراقي: فيه أن الزوجة لا تذهب إلى بيت أبويها إلا بإذن زوجها، بخلاف ذهابها لحاجة الإنسان، فلا تحتاج فيه إلى إذنه كما وقع في هذا الحديث (38).
ودلالة الحديث ظاهرة في وجوب تقديم طاعة الزوج على بر الوالدين.
لكنهم –أي الشافعية والحنابلة- يقولون مع ذلك أنه ينبغي للزوج ألا يمنع زوجته من زيارة والديها وأن يزوراها؛ لما في المنع من قطيعة للرحم بين الزوجة ووالديها، وإذكاء للعداوة والشحناء بين الزوج والزوجة (39).
القول الثاني: ليس للزوج منع زوجته من الذهاب لزيارة والديها، وهو قول الحنفية والمالكية.
أما الحنفية، فيرون أن للمرأة أن تذهب لزيارة والديها مرة كل جمعة، وكذلك لزيارة محارمها مرة كل سنة، سواء أذن الزوج لها أم لم يأذن (40)
والمرجح عندهم أن محل ذلك إذا كان الأبوان لا يقدران على إتيانها في منزلها، فإن كانا يقدران على إتيانها لا تذهب كل جمعة، بل يأذن لها زوجها في زيارتهما في المرة بعد الأخرى بحسب العرف؛ فإن كثرة الخروج غير محمودة (41).
ويؤكد الحنفية في تعظيم حق الوالدين وتقديمه على طاعة الزوج في حال ما إذا مرض أحد الوالدين، فيقولون: ولو كان أبوها زمِنًا مثلًا، وهو يحتاج إلى خدمتها، والزوج يمنعها من تعاهده، فعليها أن تعصيه مسلمًا كان الأب أو كافرًا (42).
وأما المالكية، فيرون أنه ليس للرجل أن يمنع زوجته من الخروج لزيارة والديها، وأن القاضي يلزمه بالإذن لها بالخروج مرة كل أسبوع (43).
وعندهم في ذلك تفصيل وتفريق بين المرأة الشابة وغير الشابة، والمرأة المأمونة وغير المأمونة:
قال خليل المالكي: إن كانت متجالة، فلا خلاف أنه يُقضَى لها بالخروج على زيارتهما، وإن كانت شابة وهي غير مأمونة، فلا خلاف أنها لا يُقضَى لها بذلك ولا إلى الحج ... وإن كانت مأمونة، فقولان: أحدهما: أنه يُقضى عليه بذلك، والآخر أنه لا يُقضى حتى يمنعها من الخروج إليهم ويمنعهم من الدخول إليها، فحينئذٍ يُقضى عليه بأحدهما (44).
القول المختار:
الراجح أنه ليس للزوج منع زوجته من زيارة والديها إلا إذا كان يترتب على زيارتها لهما مفسدة شرعية أو دنيوية، وذلك لما للمنع من قطيعة الأرحام والإضرار بالمرأة ووالديها (45).
وإن مجتمعات الفوضى لا يمكن أن تنهض أو تؤسس حضارة أو تبني أمة أو تورث علمًا أو تصنع منجزًا، لأن الفوضى شريعة الغاب، والنظام هو قانون الحياة.
------------
(1) أخرجه مسلم (432).
(2) أخرجه البخاري (722)، ومسلم (435).
(3) أخرجه أبو داود (2608).
(4) في ظلال القرآن (2/ 650).
(5) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 146).
(6) أخرجه مسلم (1467).
(7) أخرجه أبو داود الطيالسي (2444).
(8) صحيح الجامع (3299).
(9) أخرجه ابن ماجه (1856).
(10) أخرجه ابن حبان (4163).
(11) أخرجه ابن ماجه (1853).
(12) أخرجه مسلم (1468).
(13) أخرجه البخاري (5192).
(14) الإجماع لابن المنذر (ص: 51).
(15) المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي (2/ 480).
(16) أخرجه البخاري (865).
(17) أحكام القرآن لابن العربي (7/ 384).
(18) المجموع شرح المهذب (4/ 199).
(19) فتح الباري لابن رجب (8/ 53).
(20) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 331).
(21) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 116).
(22) السيرة الحلبية (2/ 314).
(23) الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 412).
(24) إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 353).
(25) صحيح الجامع (235).
(26) أخرجه البخاري (43).
(27) أخرجه مسلم (1468).
(28) التفسير الوسيط لطنطاوي (3/ 136).
(29) التفسير الواضح (1/ 370).
(30) تفسير الرازي (10/ 71).
(31) صحيح الجامع (136).
(32) سبق تخريجه.
(33) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 153).
(34) الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 374).
(35) البيان في مذهب الإمام الشافعي (9/ 500).
(36) المغني لابن قدامة (7/ 295).
(37) أخرجه البخاري (4141)، ومسلم (7196).
(38) طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 58).
(39) البيان في مذهب الإمام الشافعي (9/ 501).
(40) شرح فتح القدير (4/ 398).
(41) النهر الفائق شرح كنز الدقائق (2/ 515).
(42) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 58).
(43) البيان والتحصيل (9/ 332).
(44) التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (5/ 135).
(45) حكم استئذان الزوج في الخروج من البيت/ منتديات الألوكة.