التربية بالحب
إن حب الأبناء وحده لا يكفي حتى يشعر الأبناء بهذا الحب؛ بل لابد من أن نعبر لهم عن هذا الحب بالكلمة والسلوك؛ حتى يصل إليهم هذا الحب.
وبالتالي فإننا إذا أردنا أن نربي أبناءنا على سلوك معين، أو نوجههم توجيهًا معينًا، فإن هذا التوجيه وهذا السلوك سيكون سهل القبول عند الأبناء؛ وذلك لأن هذا الحب الذي في قلوبهم سيجعلهم يتقبلون كل ما نريده منهم، وهذه هي التربية بالحب.
إن هذا الأسلوب التربوي قد ثبت نجوعه بالتجربة؛ فكل أسرة تشيع بين أفرادها أشعة الحب، ويتعاملون بهذا الحب فيما بينهم، لابد وأن تجد هذه الطاعة لرب الأسرة حين يأمر بشيء؛ بل وينفذون هذا الأمر بحب واقتناع؛ وذلك لأنه تأسس في داخل نفوس أفراد هذه الأسرة الحب، والذي من خلاله تتم التربية ويسهل تقويم السلوك وزرع القيم.
كيف نزرع الحب في نفوس أبنائنا:
إن المحبة هي ثمرة الاقتداء، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]، وهذا الاقتداء هو نتيجة الإعجاب، والإعجاب يأتي نتيجة الإكثار من الشكر، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ:13]، فالشكر سلوك يومي في حياة الأسرة، يمارسه أفرادها فيما بينهم، في إقرار ضمني بإعجاب المتلقي بالمحسن، فالإكثار من الشكر يولد الإعجاب، والذي بدوره يزرع المحبة في نفوس الأسرة؛ لذلك فإن الحب هو ثمرة إعجاب مع شكر، وحينها يأتي الاقتداء، والذي هو ثمرة المحبة.
وبناءً عليه؛ فلن تستطيع أن تغرس في نفوس أبنائك معاني التربية الإسلامية الصحيحة، والقيم الأخلاقية العالية، إلا بعد أن تتملك قلوبهم بالمحبة، وهذا ما بينه لنا النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار»(1).
في هذا الحديث يؤسس النبي صلى الله عليه وسلم لمسألة التربية بالحب، وأنه لن يجني الإيمان وثمرته وحلاوته إلا من أحب الله ورسوله حبًا يفوق كل حب، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحب شرطًا لكمال الإيمان، فالحب أولًا.
وحتى نصل إلى هذا الحب فلابد من الشكر لكل أفراد الأسرة، وخصوصًا الأبناء، على كل عمل طيب يقومون به، وكل فعل حسن يؤدونه، ثم مع الإكثار من هذا الشكر وإشاعته، في جو من الألفة والمودة لا في جو من التكلف والاصطناع، يأتي الإعجاب عن اقتناع، وهذا الإعجاب فورًا يولد الحب، والذي بدوره يجعل هناك أرضية ومساحة لقبول نصائح الوالدين، وكذلك يجعل الأبناء يقلدون آباءهم في أخلاقهم، ولذلك يجب على كل مربي أن يراعي تصرفاته وأخلاقه جيدًا، وليعلم أنه مراقب من قبل أبنائه، وأنهم مقلدوه فيما يصنع.
هل يكفي ما سبق لزرع الحب في نفوس أبنائنا؟
لا؛ لأن هناك أمرًا مهمًا أرشدنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه»(2)، فلابد من إخبار الأبناء بتلك المحبة؛ فإن في ذلك زيادة للمودة والألفة، وفيه تقارب للقلوب، وشعور بالدفء والأمان تجاه الوالدين؛ مما يجعلهما الملاذ الآمن والأول والأخير للأبناء، وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، حين ذكر السبب من التعبير عن الحب، وإخبار الطرف الآخر بهذا: «فإنه خير في الألفة، وأبقى في المودة»(3).
إن التعبير عن الحب يزرع في نفس الطرف المتلقي شعورًا جميلًا، ومعنًى راقيًا، وهذا الشعور هو حاجة نفسية في النفس البشرية بصفة عامة، فما بالك بالأبناء والأطفال.
إن حاجتهم إلى سماع تلك الكلمة (أحبك) أشد وأعظم، فالطفل بحاجة إلى من يملأ له مشاعره بأسمى المشاعر والأخلاق والمعاني، بحاجة إلى أن يشعر بدفء كلمة (أحبك)، بحاجة إلى أن يستمتع بسعادة وبهجة كلمة (أحبك)، إنها كلمة بسيطة سهلة، تؤثر في النفوس، وتترك فيها أثرًا حسنًا ورائعًا، فَلِمَ نبخل بها على أبنائنا؟!
إن كثيرًا من الأباء والأمهات يعتبرون التعبير عن الحب بكلمة (أحبك)، أو حتى بالقبلة الحانية، هو عبارة عن خدش لوقار الوالدين، وإنزال لهم من مكانتهما، وأن هذا يهدد عرش الوقار الذي بنياه في قلوب أبنائهما، وهذا فهم خاطئ صِرف؛ لأن التعبير عن الحب، بأي وسيلة مما سبق، يرفع من مكانة الوالدين في نفوس الأبناء، ويجعل الأبناء أكثر طاعة لوالديهم، وأكثر انصياعًا لأوامرهم، وأكثر حرصًا على إرضائهم.
وقد قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «من لا يَرحم لا يُرحم»(4).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة»(5).
وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبله ذات يوم صبيان الأنصار، والإماء، فقال: «والله إني لأحبكم»(6).
_______________________________________________
(1) رواه البخاري (16).
(2) رواه البخاري في الأدب المفرد (542)، وأحمد في مسنده (17171)، واللفظ له، عن المقدام بن معدي كرب، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (279).
(3) رواه وكيع في الزهد (337)، عن علي بن الحسين بن علي، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1199).
(4) رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) رواه البخاري (5998).
(6) رواه الإمام أحمد (14043)، وصحح إسناده محققو المسند (شعيب الأرنئوط وعادل مرشد، وآخرون).