logo

التعاون بين الزوجين


بتاريخ : الثلاثاء ، 21 صفر ، 1440 الموافق 30 أكتوبر 2018
بقلم : تيار الاصلاح
التعاون بين الزوجين

الحياة الزوجية هي علاقة ود ورحمة وتعاون بين الزوجين، استنادًا إلى قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].

فالزوج مأمور شرعًا بأن يحسن عشرة زوجته كما يحب أن تحسن هي عشرته، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، وينبغي أن تقوم الحياة الزوجية على التفاهم، وأن يعرف كل من الزوجين للآخر حقه عليه، فيقوم به على أكمل وجه، وأن يسود التعاون في تحمل أعباء الحياة، فتعين الزوجة زوجها فيما يليه من أمور تليق بها، ويعينها فيما يليها، فيتولد الحب الحقيقي بين الزوجين حينما تحسن العشرة بينهما، وتنبت المودة والرحمة والرفق وحسن السلوك.

كذلك فقد بيّن الإسلام أن شكل تلك العلاقة بين الزوجين قائم على العطاء بينهما, وجعل التعاون من الأسباب لتمتين الروابط الزوجية, ورغب فيه، وجاء بالنصوص الكثيرة في ذلك, ومن أشكال ذلك التعاون أداء العبادة؛ كالصدقة والصيام، وفي المستحبات كقيام الليل وغيره، يقول صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء»(1).

وكذا التعاون في شئون البيت, ومخطئ من ظن أن التعاون في بعض شأن البيت نقص في قوامته، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله، وكان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويعاون زوجه.

وكذا التعاون من جانب الزوجة؛ إذ توفر للزوج جو الراحة وتهيئ طعامه وثيابه وشأنه, فيشعر بنوع من الاستقرار، ويستطيع ممارسة أعماله دون إرهاق, وكذا يتم التعاون بينهما في تربية الأبناء؛ إذ هي مسئولية مشتركة بينهما، لقوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته»، قال: وحسبت أن قد قال: «والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته»(2).

وكلما أخلص الشريكان في تربية الأبناء وتعاونا على ذلك، وقام كل واحد منهما بدوره نضج نبت الأسرة، وخرج الأبناء مستقيمين صالحين ناجحين.

وكذلك مما يزيد المودة بينهما ما نسميه العطاء بين الطرفين, فعندما يكون أحدهما أنانيًا لا يهتم إلا بشأن نفسه، فيبين الخلل ويتوسع وينهار البيت, ومن ذلك ما يظهر عندما تمنح الزوجة زوجها كل الحب والعرفان والجهد فتقابل بالتجاهل والنكران, فيولد ذلك إحباطًا نفسيًا لديها؛ مما يوقف قدرتها على العطاء, وقد قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله»(3), وقد تستمر الحياة بعطاء من طرف واحد، لكن هذا يكون تنازلًا من أجل الأبناء أو من أجل ألا يهدم البيت, وهنا يظهر أثر الخلل الذي كان مختبئًا عبر السنين(4).

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نِعم المثال والقدوة الحسنة في هذا.

روى البخاري عن الأسود قال: «سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟»، قالت: «كان يكون في مهنة أهله»، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة(5)، وهذا من أسباب زيادة المحبة ودوام العشرة.

ويجب على الزوجة خدمة زوجها فيما جرى به العرف أن تخدم زوجها فيه، وهي الخدمة الباطنة، خدمة البيت، ويكون على الزوج الخدمة الظاهرة، وهي الخدمة خارج البيت؛ كجلب الطعام والاحتياجات التي تقتضي الخروج من البيت، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك بين علي وفاطمة رضي الله عنهما.

فالزوج والزوجة خليلان متلازمان، فكل منهما يتأثَّر بالآخر ويؤثِّر فيه، ولهذا كان الواجب عليهما التعاون على البر والخير، والتناهي عن الإثم والشر، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وجعل التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر من أخص أوصاف المؤمنين، فقال عز وجل: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} [التوبة:71]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ} [التحريم:6]، فأوجب على المسلم الاجتهاد في وقاية نفسه وأهله من النار، وذلك بطاعة الله تعالى واجتناب معصيته.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على نكاح المرأة الصالحة، وتزويج الرجل الصالح الذي يُرضَى دينه وخلقه، من أجل تحقيق هذه الغاية الجليلة، وهي التعاون بين الزوجين وأولادهما وأهليهما على مرضاة الله تعالى والاستقامة على دينه.

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلًا قام من الليل فصلَّى وأيقظ امرأته، فإن أبتْ نضح في وجهها الماءَ، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء»(6).

وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين، كُتبا من الذاكرين اللهَ كثيرًا والذاكرات»(7).

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فزعًا، يقول: «سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ مَنْ يوقظ صواحبَ الحجرات [يريد أزواجه] لكي يصلِّين، ربَّ كاسيةٍ في الدنيا عارية في الآخرة»(8).

التعاون على القيام بالمصالح الدنيوية:

إذا كان حقًّا على الزوجين أن يتعاونا على البر والتقوى، والفوز في الحياة الأخرى، فإن حقًّا عليهما كذلك أن يتعاونا على ما يهمهما من أمور الحياة الدنيا، وأن يكون كل منهما عضدًا للآخر، ومساندًا له، ومعايشًا لآلامه وآماله، ومعاونًا له على القيام بمصالحه وأعماله، فيشارك الرجل زوجه فيما يقدر عليه من أعمال البيت، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل مع أهله، سُئلت عائشة رضي الله عنها: «ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في البيت؟»، قالت: «كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج»(9)؛ أي في خدمة أهله.

وعن عروة بن الزبير قال: «قلت لعائشة: (يا أم المؤمنين، أي شيء كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندكِ؟)، قالت: (ما يصنع أحدكم في بيته، في مهنة أهله؛ يخصف نعله، ويخيط ثوبه)»(10).

وتجد الإنسان من أحسن ما يكون وأصلح ما يكون، وهكذا كلما كنت أحسن لأهلك فثق بأنك تدخل مسرورًا وتخرج مسرورًا، أما الإنسان إن أساء إلى أهله فسيدخل محزونًا ويخرج محزونًا، ويمشي في السوق محزونًا؛ لأنه إذا صادفه أحد وسلَّم عليه وهو مغموم من أهله يكاد لا يرى طريقه، فلا يعطيه وجهًا طلقًا أبدًا، ولا يزال منكتًا مما جرى منه مع أهله، فكلما كنت أحسن في أهلك فثق أنك أحسن في مجتمعك كله.

والمرأة أيضًا تشارك زوجها في إنجاز ما تستطيعه من أعماله، وتحرص على تحقيق راحته النفسية والبدنية بعد عناء الكد والعمل، وتعينه برأيها ومشورتها، وتعمل على تشجيعه وتقوية عزيمته، وتحفيزه وشحذ همَّته، وتشعره بأنها معه بمشاعرها وتفكيرها، وأنه يسعدها ما يسعده، ويؤلمها ما يؤلمه.

قال القرطبي: «ولهذا قال علماؤنا: عليها أن تفرش الفراش، وتطبخ القدر، وتقم الدار، بحسب حالها وعادة مثلها، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، فكأنه جمع لنا فيها السكن والاستمتاع وضربًا من الخدمة بحسب جري العادة.

ويخدم الرجل زوجته فيما خف من الخدمة ويعينها، لما روته عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج، وهذا قول مالك، وفي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخصف النعل، ويقم البيت، ويخيط الثوب.

وهذا أمر دائر على العرف، الذي هو أصل من أصول الشريعة، فإن نساء الأعراب وسكان البوادي يخدمن أزواجهن، حتى في استعذاب الماء وسياسة الدواب، ونساء الحواضر يخدم المُقِلُّ منهم زوجته فيما خف ويعينها، وأما أهل الثروة فيخدمون أزواجهم وَيَتَرَفَّهْنَ معهم إذا كان لهم منصب في ذلك، فإن كان أمرًا مشكلًا شرطت عليه الزوجة ذلك، فتشهد أنه قد عرف أنها ممن لا تخدُمُ نفسها فالتزم إخدامها، فينفذ ذلك وتنقطع الدعوى فيه(11).

ومِن أهم ما يلزمها التعاون عليه إصلاح الأولاد، والقيام عليهم بحسن التربية والإعداد؛ فإن الأولاد هم غرس الآباء، وثمرة أفئدتهم، وقرة أعينهم، وأكبادهم التي تمشي على الأرض، وهم زينة الحياة الدنيا، ولكنهم أمانة عظيمة، وتبعة جد ثقيلة، سيُسأل الوالدان عنها، أحفظا أم ضيَّعا؟ يقول الله تعالى محذرًا عبادَه من خيانة هذه الأمانة، وغش هذه الرعية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال:27-28].

فالأولاد من جملة الأمانات التي نهانا الله تعالى عن خيانتها، والقعود عن القيام بمسئوليتها، وأخبر أنهم، وإن كانوا زينة الحياة الدنيا، فهم فتنة وابتلاء، يمتحن الله بهم الأمهات والآباء، هل يتَّقون الله فيهم، ويسعون لإصلاحهم وحسن إعدادهم، ووقايتهم من النار، أو يهملونهم ويقصِّرون في القيام بحقوقهم؟

ثم ختم الآية بقوله: {وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}؛ أي: لمن قام بهذا الواجب، وأدَّى هذه الأمانة، وفي هذا الوعد الكريم عزاء وتصبير، وتقوية للهمم والعزائم، للقيام بهذا الواجب اللازم؛ لأن الله تعالى يعلم مقدار الأمانة التي يتحمَّلها الآباء، ومقدار العبء الذي يعانونه في تربية الأولاد، وبخاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وتنوعت فيه المغريات والمحن، وتشعَّبت العوائق والصوارف عن الخير والاستقامة.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، وكلكم راعٍ ومسئول عن رعيته»(12).

وبهذا ندرك أن تربية الأولاد مسئولية مشترَكة بين الزوج وزوجه، يجب عليهما التعاون والتعاضد للنهوض بها، وأن تتكامل جهودهما لتحقيق هذه الغاية، وتحمُّل هذه التبعة؛ بل إن تحصيل الأولاد، والقيام عليهم بحسن التربية والإعداد هو الغاية العظمى، والهدف الأسمى من النكاح.

عن الأسود قال: «سألت عائشة: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟)، قالت: (كان يكون في مهنة أهله)»، تعني في خدمة أهله، وإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.

وعن عروة عن عائشة قالت: «كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته»(13).

عن عمرة قالت: «قلت لعائشة: (ما كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟)، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرًا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه)»(14).

وعن ابن أبي ليلى: حدثنا علي أن فاطمة عليهما السلام أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى، وبلغها أنه جاءه رقيق، فلم تصادفه، فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته عائشة، قال: «فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال: (على مكانكما)، فجاء فقعد بيني وبينها، حتى وجدتُ برد قدميه على بطني، فقال: (ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما [أو أويتما إلى فراشكما] فسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)»(15).

وفي رواية أحمد عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوجه فاطمة بعث معه بخميلة، ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحيين، وسقاء، وجرتين، فقال علي لفاطمة ذات يوم: «والله، لقد سنوت حتى لقد اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه»، فقالت: «وأنا، والله، قد طحنت حتى مجلت يداي»، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما جاء بك أي بنية؟»، قالت: «جئت لأسلم عليك»، واستحيت أن تسأله ورجعت.

فقال: «ما فعلتِ؟» قالت: «استحييت أن أسأله»، فأتياه جميعًا، فقال علي: «يا رسول الله، والله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري»، وقالت فاطمة: «قد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله، لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم» فرجعا، فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما، إذا غطت رءوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رءوسهما، فثارا، فقال: «مكانكما»، ثم قال: «ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟»، قالا: «بلى»، فقال: «كلمات علمنيهن جبريل»، فقال: «تسبحان في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدان عشرًا، وتكبران عشرًا، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين»، قال علي رضي الله عنه: «فوالله، ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فقال له ابن الكواء: «ولا ليلة صفين؟»، فقال: «قاتلكم الله يا أهل العراق، نعم، ولا ليلة صفين»(16).

وصح عن أسماء أنها قالت: «كنت أخدُم الزبير خدمة البيت كله، وكان له فرس، وكنت أسوسه، وكنت أحتشّ له، وأقوم عليه»، وصح عنها أنها كانت تعلف فرسه، وتسقي الماء، وتخرز الدلو، وتعجِن، وتنقُل النوى على رأسها من أرض له على ثُلثي فرسخ.

فاختلف الفقهاء في ذلك، فأوجب طائفة من السلف والخلف خدمتها له في مصالح البيت، وقال أبو ثور: عليها أن تخدُم زوجها في كل شيء، ومنعت طائفة وجوب خدمته عليها في شيء، وممن ذهب إلى ذلك مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأهل الظاهر، قالوا: لأن عقد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع، لا الاستخدام وبذل المنافع، قالوا: والأحاديث المذكورة إنما تدل على التطوع، ومكارم الأخلاق، فأين الوجوب منها؟

واحتج من أوجب الخدمة بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه وتعالى بكلامه، وأما ترفيهُ المرأة، وخدمة الزوج، وكنسه، وطحنه، وعَجنه، وغسيله، وفرشه، وقيامه بخدمة البيت، فمن المنكر، والله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، وقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، وإذا لم تخدمه المرأة؛ بل يكون هو الخادم لها، فهي القوّامة عليه.

وقولهم: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرّعًا وإحسانًا يردّه أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة، فلم يقل لعلي: لا خدمة عليها، وإنما هي عليك، وهو صلى الله عليه وسلم لا يُحابي في الحكم أحدًا؛ ولما رأى أسماء، والعلَف على رأسها، والزبير معه، لم يقل له: لا خدمة عليها، وأن هذا ظلم لها؛ بل أقرّه على استخدامها، وأقر سائر أصحابه على استخدام أزواجهم، مع علمه بأن منهن الكارهةَ والراضيةَ، هذا أمر لا ريب فيه.

ولا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة، وفقيرة وغنية، فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها، وجاءته صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة فلم يُشْكِها، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المرأة عانيةً، فقال: «اتقوا الله في النساء فإنهنّ عَوَان عندكم»(17).

والعاني الأسير، ومرتبة الأسير خدمة من هو تحت يده، ولا ريب أن النكاح نوع من الرق، كما قال بعض السلف: «النكاح رقّ، فلينظر أحدكم عند من يُرقّ كريمته»، ولا يخفى على المنصف الراجحُ من المذهبين، والأقوى من الدليلين. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى(18).

***

_________________

(1) أخرجه أبو داود (1308).

(2) أخرجه البخاري (893).

(3) أخرجه الترمذي (3895).

(4) همزة الوصل بين الزوجين، موقع: المسلم.

(5) أخرجه البخاري (676).

(6) أخرجه أبو داود (1308).

(7) أخرجه أبو داود (1309).

(8) أخرجه البخاري (6658).

(9) أخرجه البخاري (5363).

(10) أخرجه أحمد (25341).

(11) تفسير القرطبي (10/ 145).

(12) أخرجه البخاري (893).

(13) الآداب، للبيهقي، ص274.

(14) الأدب المفرد (541).

(15) أخرجه البخاري (5361).

(16) أخرجه أحمد (838).

(17) أخرجه ابن أبي شيبة (562).

(18) زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 186-189).