logo

الاستبداد والشورى في الحياة الزوجية


بتاريخ : الأحد ، 20 شوّال ، 1440 الموافق 23 يونيو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الاستبداد والشورى في الحياة الزوجية

للشورى مكانتها السامية في القرآن العظيم، وكذلك في السُّنة النبوية المطهرة، فقد أوجبها الله تعالى كفريضة شرعية لازمة لاستقامة واستدامة العمل الجماعي المبارك في المجتمع المسلم الكبير، المتمثل في الأمة بصفة عامة، وفي المجتمع المسلم الصغير، المتمثل في الأسرة بصفة خاصة.

وحين أوجب اللّه تعالى الشورى على رسوله الكريم، وذلك في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]، وعلى أمته كذلك من بعده، لم يكن الله ورسوله في حاجة إليها، وإنما جعلها الله سبحانه رحمة لهذه الأمة.

وقد أنزل الله تعالى الكثير من آيات القرآن الكريم كنماذج إرشادية للأخذ بالشورى فيما يثور بشأنه خلاف حول أمور الدنيا ومشكلاتها الكثيرة المعقدة؛ وذلك من أجل أن يمارس المسلمون الشورى فيما بينهم، لتزداد بها روابط الألفة والمحبة بين المسلمين، ويتعزز بها توافقهم وانسجامهم، وتتيسر بها أمور معاشهم؛ ما يؤدي ذلك لصلاحهم وفلاحهم، ولعل الله أنزل لذلك سورة كاملة تحمل عنوان (الشورى)؛ مما يؤكد الأهمية البالغة للشورى، ولمكانتها الرفيعة المستوى في نظر الشارع الحكيم عز شأنه(1).

ومن الأخطاء التي تقع في الحياة الزوجية، مما يهدد استقرارها وطمأنينتها، الرأي المستبد والتعصب المستمر؛ حيث يستبد أحد الطرفين برأيه، ولا يقبل أي مناقشة فيه، ويطلب تنفيذه حتى ولو كان خطأً، ولا محل هنا لإقناعه بالعدول عن رأيه، ولو حاول الطرف الآخر أن يناقشه في ذلك لشب الخلاف الشديد بينهما، وينتهي الأمر إلى الإصرار على الرأي وليكن ما يكون.

وفى الواقع إن استبداد الزوج أو الزوجة بالرأي، والإصرار على أن يخضع الطرف الآخر لهذا الرأي دون مناقشة أو مجادلة، حتى ولو كان خطأً، فإن هذا يجعل الحياة جحيمًا، ويجعلها نارًا على الأرض، ويزيد من التباعد بين الطرفين، ويقتل عروق المحبة بينهما؛ لأن الحياة الزوجية ليست أوامر تنفذ، وفروضًا يجب أن تطاع، وليست استبدادًا أو تملكًا وإنما هي مشاركة في كل شيء؛ في الرأي، في اتخاذ القرارات، في محاولة تقريب كل منهما إلى الآخر، ودخول كل طرف إلى أعماق نفس الآخر، في محاولة فهم كل منهما حتى يستطيعا أن يصلا إلى بر الأمان، والحب يسودهما، والهدوء يملؤهما، والاستقرار والهناء والسعادة طريقهما(2).

لقد جعل الله تعالى الشورى سبيلًا لاستقامة حياة الأسرة المسلمة وإسعادها، وذلك من خلال التفاهم والتراضي، والوفاق المثمر بالخير، الذي يتأسس على التشاور، وليس على الاستبداد والاستسلام والإذعان في مجال العلاقات الإنسانية للأسرة المسلمة، وقد أرشد القرآن الكريم إلى ذلك، كما في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة:233].

وقد جاء في تفسير ابن كثير في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}؛ «أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيتبين من ذلك أن انفراد احدهما بذلك من دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد برأيه في ذلك من غير مشورة الآخر، وهذا فيه احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله تعالى بعباده».

وقد جعل الله تعالى من هذه الآية المباركة نموذجًا إرشاديًا، يقاس عليه أمر الشورى في محيط الأسرة حول ما يعترض حياتها من مشكلات، بما يحقق الرضا والاطمئنان والهناء للأسرة المسلمة على الدوام(3).

القدوة الأعظم يستشير زوجاته:

حث النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج بحسن معاشرة الزوجات؛ بل وجعل حسن تعامل الزوج مع زوجته وإكرامه لها ومعاشرتها بالمعروف علامة على خيرية هذا الزوج، فقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»(4).

وإذا تصفحنا حياة خير البشر وقدوة العالمين محمد صلى الله عليه وسلم نجد فيه خير منهج وأرقى نموذج لتعامل الزوج مع زوجاته، وفي إطار حديثنا عن إشراك الزوجة الرأي، والأخذ بشوراها الصالحة في الأمور نجد النبي الحكيم المؤيد بالوحي صلى الله عليه وسلم يطبق ذلك خير تطبيق، وإليك الدليل:

- لما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم لأول مرة وهو في غار حراء، ورجع يرجف فؤاده، ودخل على أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها فقال: «زملوني زملوني»، فزملوه، حتى ذهب عنه الروع، وتحدث مع زوجته خديجة واستشارها فيما حدث له فقال: «أي خديجة، ما لي؟ لقد خشيتُ على نفسي»، فأخبرها الخبر، فقالت الزوجة العاقلة الحكيمة خديجة: «كلا، أبشر، فوالله، لا يخزيك الله أبدًا، فوالله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان امرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما حدث له في غار حراء أجابه ورقة بن نوفل بأن الذي جاءه هو الوحي الذي نزل على موسى عليه السلام، وأن قومه مخرجوه... الحديث(5).

- كذلك لما وقع المنافقون في عرض الطاهرة العفيفة الصديقة أم المؤمنين حبيبة النبي الكريم، عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، في حادثة الإفك، وانزلق في هذا الأمر بعض المسلمين، وفي وسط هذه الأجواء الملبدة بالغيوم، ومع شدة اغتمام قلب النبي صلى الله عليه وسلم المكلوم، استشار النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، وكذلك كان ممن استشارهم زوجه زينب بنت جحش رضي الله عنها، فقال لها: «يا زينب، ما علمتِ؟ ما رأيتِ؟»، وبكلمات يزينها الورع، وقلب أنارت فيه الحكمة والتقوى أجابت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله، ما علمت عليها إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع(6).

- وفي قصة الحديبية المشهورة لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا على الرجوع وعدم دخول مكة عامهم هذا، ثم قال لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا»، فوالله، ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بُدْنَك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا، فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقًا على الحديث: «فيه فضل المشورة...، وجواز مشاورة المرأة الفاضلة»(7).

إن مشاورة الزوجة والاستماع لنصيحتها وقبولها منها هو من تمام المعروف في العشرة، واستصلاح قلبها، وإشعارها بدورها في بيتها، ومسئوليتها عن أسرتها، لا سيما إذا جرب الرجل من امرأته الحكمة والعقل، والروية في النظر إلى الأمور، وعدم التسرع والانسياق وراء العاطفة.

ثم إن تفاضل المصلحة في استشارة المرأة وقبول رأيها، أو عدم ذلك تختلف باختلاف الموضوع الذي تبذل المرأة فيها مشورتها، وتدلي بنصيحتها، وهل لطبيعتها العاطفية أثر في رأيها في هذه القضية أو لا.

ويختلف أيضًا باختلاف حال كل من الزوجين ومدى تقديرهما وحسن ضبطهما.

وإذا ما بدا للزوج وجه المصلحة في رد قولها، أو بدا له خطأ في مشورتها، فعليه أن يتلطف في عدم القبول، وألا يسفِّه رأيها، أو يزدري نصحها، ويبين لها وجه الصواب ما استطاع إلى ذلك سبيلًا(8).

إن الاستبداد بالرأي لا يسود في بيت إلا أظلمت جنباته، وضاقت جدرانه بأهلها، وعاشوا في كبد من النزاع والشقاق، أو كمد من القهر والتسلط.

ومهما بلغ حزم الرجل فإن من تمام عقله ومروءته أن يستمع لأهل بيته ويشاورهم، وخصوصًا الزوجة، فهذا من هَدْي المرسلين وأولي النهى، ولا يستنكف عن مشاورة زوجه إلا من جهل السنة وتنكّب الحكمة.

وكم من امرأة عاقلة حكيمة ساق الله بمشورتها لأهلها وبيتها؛ بل ولمجتمعها وأمتها، خيرًا عظيمًا!(9).

وتأمل قصة موسى، وكيف رباه الله في بيت فرعون، وكم كانت لمشورة آسيا امرأة فرعون رضي الله عنها من بركة: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:9].

استشارة الزوجة تكريم لها، وتقوية لروابط الأسرة، وتخفيف للآثار المترتبة على سوء التقدير في اتخاذ القرار.

فيجب على الزوج ألا يستبد برأيه، وأن يثق بشريكة عمره وبمن اختارها قلبه وعقله، وأن يشركها دائمًا في آرائه ومشكلاته، ومحاولة الوصول معًا إلى رأى موحد في مواجهة أي مشكلات أو صعاب؛ لأن انعدام الثقة بينهما واستبداد الزوج برأيه تجعل الحياة جحيمًا لا يطاق؛ مما يزيد من صعوبة التفاهم الحر البناء، وتبدأ علامات الفشل والضياع تلوح بالظهور كإنذار يهدد استمرار الحياة بينهما، واستحالة العشرة الزوجية؛ مما يقتل الحب، ويقضي على الارتباط الذي جمعهما، وتضيع المعاني الجميلة، والقيم السامية، واللمسات الرقيقة، والذكريات الغالية؛ بسبب استبداد الزوج، وتعصبه بالرأي؛ فيفقد مثل هذا الزوج أجمل لمسات الحياة، من الود والألفة والحب والحنان والرحمة(10).

أيها الزوج، احذر:

أيها الزوج، احذر من الأحاديث الضعيفة والباطلة التي تسفه رأي المرأة، وتدعو الزوج إلى الاستقلال برأيه عنها أو مخالفتها؛ كحديث: (شاوروهن وخالفوهن)، و(خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة)، وحديث: (لا يفعلن أحدكم أمرًا حتى يستشير، فإن لم يجد من يستشير فليستشر امرأة ثم ليخالفها، فإن في خلافها البركة)، فكلها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد شاور زوجاته وأخذ برأيهن كما ذكرنا.

كذلك يحذر الزوج مما يدور على ألسنة العوام من أمثلة شعبية خاطئة، تزعم أن مشورة الزوجة يترتب عليها خراب البيت سنة كاملة إن كان رأيها صائبًا، وخراب البيت طوال العمر إن كان رأيها خاطئًا.

_________________

(1) الشورى العائلية... مصدر سعادة للبيت المسلم، محمد علي وهبة، مجلة الوعي.

(2) أيها الزوج، احذر من هجر زوجتك، أ. ناهد الخراشي، بتصرف، موقع المستشار.

(3) الشورى العائلية... مصدر سعادة للبيت المسلم، بتصرف.

(4) رواه ابن ماجه (1977)، والترمذي (3895).

(5) انظر: صحيح البخاري (4953).

(6) صحيح البخاري (2661).

(7) فتح الباري، لابن حجر (347).

(8) هل يستمع الرجل لاقتراحات زوجته ويشاورها في أموره، موقع: الإسلام سؤال وجواب.

(9) المشورة المباركة، خالد عبد اللطيف، موقع: صيد الفوائد.

(10) أيها الزوج، احذر من هجر زوجتك، أ. ناهد الخراشي، موقع المستشار.