التربية الإيمانية للأبناء
إن أطفالنا هم مستقبل أمتنا، وفلذات أكبادنا، وحاملو لواء الإسلام من بعدنا، وقرة أعيننا الغالين على قلوبنا، والعاقل من يحرص على تربية أبنائه تربيةً حسنة توافق ما جاء في تعاليم الإسلام، وفي ثنايا كلام الرحمن، وسنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم؛ عسى أن ينشأ الطفل في بيئة صالحة تنعكس على شخصيته؛ فيكون فردًا فعالًا في مجتمعه وبين أسرته؛ لأن مرحلة الطفولة هي المرحلة الأهم لضمان قاعدة قوية لغرس أركان الإيمان، وتنشئتهم على التقاليد الحسنة، وإشباع شغفهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولودٍ إلا يولَدُ على الفَطرَةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جَمعاءَ، هل تُحِسُّونَ فيها من جَدعاءَ؟» (1).
إن التربية الإيمانية للطفل مسألة جوهرية في بناء شخصية سليمة عقديًا، ونفسيًا، نافعةٍ مجتمعيًا، محققة غايات شرعية، ومقاصد فقهية، والإنسان لا يصبح إنسانًا إلا بالتربية.
والتربية الإيمانية ترمي إلى تحرير الفرد من قيود التبعية؛ لأن الإنسان كائن طموح يرغب في تحقيق ذاته وتحدي المشاكل التي قد تعترض طريقه، والإيمان يساعد الإنسان على ذلك؛ لأن الفرد يعيش وسط المجتمع، وتفرض عليه الضرورة الحتمية التواصل مع الآخر لقضاء حوائجه، والتعبير عن رغباته من أجل تلبيتها؛ فإن كان المنهل التربوي الإيماني سمة كبرى في شخصية الفرد كانت علاقته بباقي الأفراد علاقة مبنية على الحسن والإصلاح، والتأدب بآداب الشرع، والعكس صحيح.
فمن ثمار التربية الإيمانية الصحيحة؛ أن تجعل الشخص مبادرًا مسارعًا للخير، ناويًا التقرب إلى الله في أفعاله الطيبة؛ لأن التربية الإيمانية تقوي الوازع الأخلاقي للإنسان وتضبطه بضوابط شرعية نقية من الانحراف، وإن كان العبد هكذا سمته وذاك منهجه، حفته البركات الإلهية؛ فتيسرت أموره وتحققت مصالحه، وعاش سعادة ما بعدها سعادة.
إن التربية الإيمانية الصحيحة ستنتج لنا جيلًا يخاف الله فيمن حوله، ويعامل بالعدل، وتعطينا فردًا ملتزمًا؛ يجتنب جميع صور الظلم الواقع على الغير من فحشاء ومنكرٍ وبغيٍ؛ تحقيقًا للمعاملة الحسنة التي تتضمّن جميع ما قصد الشارع من تشريعها إلى حماية حقوق الآخرين دون ضررٍ ولا ضرار، وإقامة العلاقات بين المسلمين على أساس العدل، الذي لو طُبّق ما رأيتَ ظالمًا ولا مظلومًا.
وسيخرج لنا جيلًا متشبعًا بقيم الإحسان، وسيعزز لنا خلق التسامح الذي هو ممارسةٌ عمليّةٌ لسماحة الإسلام في علاقة المسلم بأخيه المسلم؛ فيقوم على التحلّي بأخلاق الصبر والصفح والتيسير في المعاملة وفق ما تمليه روح الشرع العامة ومقاصدها السمحة (2).
أشكال التربية الإيمانية:
1- الوقاية الإيمانية:
من آكد مسؤوليات الآباء والمربين تجاه أطفالهم وقايتهم إيمانيًّا من أية عوامل للانحراف الديني، وخاصة في مجال العقيدة، هذا الانحراف الذي قد يقوم به الآباء أنفسهم؛ كما جاء في الحديث: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (3)، وذلك بطريق مباشر ومتعمد، وقد يقوم به الآباء بطريق غير مباشر، فالأب الذي يدفع بطفله إلى المدارس الأجنبية، والمعاهد التنصيرية يرضع من لبنها، يأخذ التوجيه على يد منصريها، والأب الذي يعهد بولده لأساتذة ملحدين يلقنونه مبادئ الكفر، والأب الذي يجعل ولده يقرأ ما شاء من كتب الإلحاد والزندقة والفساد الديني؛ كل هؤلاء يسهمون بشكل غير مباشر في إفساد أولادهم وأطفالهم في عقيدتهم (4).
فمسؤولية الآباء في وقاية أطفالهم إيمانيًّا هامة وحتمية حتى يستطيعوا إقامة البناء الإيماني دون خوف من أية مؤثرات خارجية، بل تزيد في أنها على نفس الدرجة من أهمية البناء نفسه.
2- البناء الإيماني:
ويستهدف ترسيخ الإيمان بأركانه في قلوب الأطفال حتى يكبروا، وقد تأصل ذلك الأمر في نفوسهم، وركائز هذا البناء إنما تكون عن طريق أركان الإيمان الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء خيره وشره، وربما يظن البعض أن ذلك الأمر يصعب فهمه على الطفل، وقد أورد الغزالي نصًّا ينفي ذلك؛ يقول في إحيائه: واعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوئه؛ ليحفظه حفظًا، ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئًا فشيئًا، فابتداؤه الحفظ، ثم الفهم (5).
وبذلك يتضح السر وراء الأذان في أذن المولود اليمنى؛ ليكون أول ما يقرع أسماعه وتهز أوتار قلبه كلمات التوحيد والإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والبرنامج العملي لشكل البناء الإيماني يكون في عدة نقاط:
أ- تعويد الطفل منذ بلوغه عامين على كلمة التوحيد، وكثرة ترديدها في كل مناسبة؛ حتى تترسخ هذه الكلمة في لسانه وقلبه.
ب- تحفيظ الولد حديث جبريل عليه السلام المذكور فيه أركان الإيمان، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور فيه أركان الإسلام، ويمكن أن يكون في صورة منظومة؛ ليسهل حفظه.
جـ- إرشاد الطفل للإيمان بالله، وقدرته المعجزة، وإبداعه الرائع عن طريق التأمل والتفكر في خلق السموات والأرض، واستغلال الفرص المناسبة، وخلوات الطفل مع أبويه لإجراء حوار مناسب يلائم عقل الصغير، يعمل على تركيز معاني الفطرة في نفسه.
د- عدم إهمال أي سؤال من الطفل في جانب العقيدة، ورد كل ذلك لقدرة الله عز وجل، وعلمه ومشيئته جل وعلا، والعمل على تبسيط الإجابات دون التعمق فيها؛ كيلا يتشتت ذهنه، وكي يصل للإجابة المطلوبة.
هـ- تعريفه بنعم الله عز وجل في الكون والخلق والإنسان؛ كي يرتبط قلب الصبي بربه عز وجل فيعظمه، ويشكره على كل شيء، ومن المناسب استغلال أوقات الرحلات والنزهات في الحدائق والأماكن المفتوحة للتأمل في نعم الله، مع قراءة بعض سور القرآن المشتملة على نعم الله الكثيرة، والآيات الكونية: مثل سورة النحل، والروم، والنمل، وقراءة بعض الكتب: مثل كتاب (التبيان في علوم القرآن) لابن القيم رحمه الله.
و- العمل على غرس روح الخشوع والتقوى، والمراقبة لله عز وجل في كل تصرفاته، وذلك عن طريق قراءة بعض آيات القرآن التي تتحدث عن معية الله، وجزاء المتقين، وأثر الخشوع، متأسيًا في ذلك بالرسول صلى الله عليه وسلم عندما علَّم ابن عباس رضي الله عنهما وهو غلام يركب خلفه هذه المعاني الإيمانية، ويمكن استخدام أسلوب الترغيب والترهيب لمن يفعل شيئًا يحبه الله، أو شيئًا يبغضه، وهو أسلوب اتبعه آباؤنا قديمًا، وذلك عندما كانوا يقولون لنا: من يكذب مثلًا سوف يدخل النار، مع مراعاة عدم الإفراط في هذا الأسلوب كيلا تختل شخصية الطفل، وهذا الأمر يصاحبه تعليم الطفل أنه سيكون هناك حساب في اليوم الآخر، ومن يعمل صالحًا يدخله الله الجنة، ويقرب له المعنى بأن يقول له إذا فعلت كذا وكذا: كأن يقرأ سورة من القرآن، أو يطيع أمه طوال الأسبوع، فسوف يعطيه جائزة وهكذا، ثم يقول له: الله عز وجل -ولله المثل الأعلى- يجزي من أطاعه من عباده خيرًا؛ فيقوى قلبه بذلك على الاستعداد لليوم الآخر.
ز- تربية الطفل على وجود خلق آخرين هم الملائكة، وهم حقيقة رغم أننا لا نراهم، هكذا يقرب المعنى في ذهن الولد، ويعلمه أن لهم وظيفة مثل وظيفة الناس؛ فيقول له هذا مثلًا طبيب، وهذا مهندس، أما الملائكة: فملك يكتب الحسنات، وآخر للسيئات، وآخر للموت، وآخر للمطر، وهكذا ويقرأ المربي لولده الأحاديث والآيات التي تصف الملائكة، ويرسخ وجودهم في ذهن الطفل، كي يستشعر معيتهم له؛ فإذا شعر الطفل بخوف في الظلام، أو أحس بالوحدة ذكره أبوه بوجود الملائكة المحبين للمؤمنين، وأنهم يحفظونه ويحمونه مما يؤذيه؛ فيكبر الولد وهذه العقيدة ثابتة في قلبه، راسخة رسوخ الجبال (6).
ح- تربية الطفل على الرضا بقضاء الله وقدره، ويقرأ له الآيات والأحاديث التي تتكلم عن ذلك، على أن يتم ذلك بصورة مبسطة؛ لأنها من الأمور الشائكة، وذلك عن طريق خطوط عريضة مثل القول له:
1- الله خلق العباد كلهم على الفطرة، وهو عالم بما سوف يكونون عليه من الهدى والضلالة.
2- كل ما يحدث، وما سوف يحدث بإذن الله ومشيئته.
3- الموت هو نهاية كل مخلوق مهما طال عمره.
4- الله إذا أخذ من العبد شيئًا، أو أعطاه شيئًا؛ فهو خير له.
ويقرأ له حديث: «عجبًا لأمر المؤمن...» (7)، الحديث، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «يا غلام ألا أعلمك كلمات...» (8) الحديث.
ط- ترسيخ حب النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب الأطفال، وبذلك يتحقق الشطر الثاني من شهادة التوحيد، وذلك عن طريق سرد قصة حياته صلى الله عليه وسلم بصورة سهلة جميلة، محببة للنفوس، وهو من أكثر الأمور المؤثرة في نفس الأطفال؛ فالإنسان مفطور على حب المثل الأعلى، أو القدوة (9).
ومن رحمة الله أن جعل الأطفال على الفطرة، مما يسهل على الآباء غرس عقيدة التوحيد في نفوس الأبناء بشكل مبكر، ولأن العقيدة الإسلامية تتميز بالسهولة في الطرح والاستيعاب، فإن عرف الطفل بأن الله عز وجل خالق الكون، هو من أنعم عليه بنعمة الحياة والرزق، وأضرابها من النعم، وتم ترسيخ بعض صفات الله عز وجل الحسنى؛ ازداد الطفل حبًا لخالقه، وتعلّق به أيما تعلق، وأحب الإنصات إلى القرآن وحفظ ما تيسر منه، وذاق حلاوته مبكرًا، وحلت بركاته مبكرًا في صدره، وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس وهو صغير؛ كما جاء في الأثر: «يا غلام، إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلامُ وجفّت الصحف» (10).
فالأطفال يولدون على الفطرة وعلى دين التوحيد، بأساسيات معينة ثم يُترك للآباء مهمة إنشاء أبنائهم، فإن هم حرصوا على تعزيز الفطرة بالدين وبالمنهج القويم فازوا ونالوا أجر أبنائهم، أما إن أهملوهم؛ فقد باءوا بذنوبهم وابتلوا بالشقاوة.
أسس التربية الإيمانية:
ونستطيع أن نميز أهم الأسس التي ربى عليها النبي صلى الله عليه وسلم أبناءه وأمر بتربية أبناء أمته عليها في عدة أسس عامة:
أولها الأساس العقائدي: يمثل الأساس العقدي العمود الفقري الأساسي لأي فكرة، والخلفية اللازمة لأي سلوك، بل ويمثل السند الرئيس في تقلبات الحياة وتغيرات الظروف المختلفة، لذلك فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم الأساس الأول في منهجه في تربية الأبناء، لأن الوهن والضعف حينما يصيب القلب والاعتقاد تهتز تبعًا له أجزاء الفكر والسلوك والتصور، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجب أن تستقر العقيدة في قلوب الأبناء منذ صغرهم حتى إذا ما تربوا نشأوا على ثبات منهجي وفكري متميز راسخ.
ونقصد هنا بالأساس العقدي ما يمكن أن يستقر في قلب الأبناء من الإيمان بربهم وصفاته وأسمائه، ومعنى العبودية والإيمان بالنبوات والكتب السماوية واليوم الآخر والقدر والغيب، فهو معنى إذن يحيط بالحياة من أطرافها، وهو الذي سبق وجاءت به الرسل أجمعون عليهم السلام في دعوتهم إلى توحيد ربهم والإيمان به.
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يغرس العقيدة الإيمانية السليمة بالله والإيمان به في قلوب أبنائه وأمته، ولا يتركهم نهبًا لأهواء خاصة قد تتلقفهم أو أفكار قد تتصيدهم فتبعد بهم عن الهدي المستقيم، فقد نراه يسير في الطريق راكبًا دابته مردفًا عليها من خلفه صبيًا صغيرًا هو ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنه ثم يلقنه دروسًا في الاعتقاد الإيماني الصافي فيقول له: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك» (11)، فهو يزرع في قلب الغلام العلاقة الوطيدة بربه والتوكل عليه والإيمان بمعيته وضرورة حفظه وعدم الخوف من البشر أيًا كانوا إذا قام بحق الله .
الأساس الثاني: العلم: وتأتي أهمية هذا الأساس تربويًا في كون العلم يمثل المفتاح الأكبر للفهم وبناء الدوافع السلوكية، ونوعية العلم المتلقي للمرء تشكل ميوله وقناعاته تجاه ما حوله من الكون والأحياء.
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم العلم النافع لهم ويؤكد عليهم أن حاجتهم إليه لا تقل عن حاجتهم للطعام والشراب، فيقول لهم مرغبًا: «العلماء ورثة الأنبياء» (11)، وعلمهم أن يتعوذوا بالله من العلم الذي لا ينفع حيث يرتجي المرء من علمه علوا في الأرض أو تكبرا على الناس فيقول في دعائه الذي يعلمه لهم: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع» (12).
الأساس الثالث: هو العبودية المخلصة لله والتبرؤ من الآثام والذنوب:
فالتربية المنتجة لا بد لها من تكوين داخلي صادق، وصفات ذاتية متميزة تستطيع بناء الداخل الشخصي لدى الأبناء، فيواجه حياته مخلصًا غير مزور، ونظيفًا طاهرًا غير ملوث ولا مدنس، ويرتبط دائمًا بإلهه ويشعر بمراقبته له فيستقيم سلوكه وفكره؛ بل وتستقيم آماله وطموحاته.
فيصلي بجانبه يوما معاذ بن جبل فإذا به ينظر إليه ويقول له: «يا معاذ والله إني لأحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (13)، فهو يعلمه أن العبادة فضل منه سبحانه، ونعمة منه عز وجل وتكرم وجود، وهي ليست باجتهاد إنساني أو نشاط جسدي فحسب؛ بل هي بتوفيق رباني أيضًا، فالجميع فقير إلى توفيق ربه كي ييسر له العبودية المقبولة، كما يعلمه أن العبادة تحتاج دومًا إلى الاستعانة بالله دومًا؛ لأنها بغير استعانة قد تفضي بالإنسان أن يفرح بعمله ويعجب به فيهلك، فهو يرسخ في قلبه أنه يجب على المؤمن إذا عبد ربه أن يستعينه ويتوكل عليه في عبادته له إذ إنه سبحانه هو الموفق لطاعته .
الأساس الرابع: هو العملية أو التطبيقية: يعني تطبيق العلم، فالتربية المحمدية تربية عملية لا تكتفي بالكلمات، بل تدعو دومًا للعمل والتطبيق فلا علم بلا عمل، ولا نصيحة بغير قدوة، ولا تصور بغير تنفيذ، إنه حرص على أن تكون تعاليمه لأبنائه تربية تتحول بها الكلمة إلى عمل بناء أو إلى خلق فاضل أو إلى تعديل في السلوك نحو الأصلح.
والعمل في نظرية محمد التربوية شرف وحق وواجب وحياة، وهو سبب الجزاء، ووسيلة التفاضل بين بني البشر، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7- 8]، وإتقان الإنسان لعمله قيمة إيمانية عليا كما في الحديث: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه» (14)، والمنزلة التي احتلها العلماء في الإسلام لم يحتلوها لمجرد علمهم؛ بل لما يترتب على هذا العلم من آثار، حيث يكون العالم أقدر على القيام بمهام الإصلاح في الأرض.
كما علمهم أن العمل المطلوب هو ما يعمر الآخرة ويصلح الدنيا، لا العمل الذي يفسد في الدنيا أو يخربها، فلكل فرد دوره كي تنتفي البطالة والركون والتواكل والقعود عن المعالي، فإذا به يقول لهم: «لأن يأخذ أحدكم أحبله، فيأتي الجبل، فيجيء بحزمة حطب على ظهره فيبيعها، فيستغني بثمنها، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه» (15)، ويقول لهم: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها» (16).
الأساس الخامس: هو الأخلاقية: فعلمهم أن الخلق الحسن هو القيد الذي يقيد السلوك عن الانحراف والجنوح والشطط، ومن لا خلق له لا صحبة له ولا أخوة، وينفض الناس من حوله، ويبغضه أقرب الناس إليه.
وعديم الأخلاق الحسنة تسيطر عليه نفسه فتدفعه إلى هواها فيقع في الأخطاء وقليل الخلق لا يبدو عليه العلم مهما تعلم، وإذا كانت المناهج الأخرى تبني المواطن الصالح الذي لا يهمه ما يفعله الآخرون، فإن منهج الإسلام قد حاول أن يبني الإنسان الصالح صاحب الأخلاق الذي يحب للآخرين ما يحب لنفسه، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ذاته يرى أن رسالته بأجمعها قد تتبلور في معنى واحد هو حسن الخلق والتربية عليه فيقول: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (17)، ويدفعهم للخلق الحسن بقوله: «إن أحبكم إلي وأقربكم مني منزلًا يوم القيامة محاسنكم أخلاقًا» (18) (19).
_____________
(1) أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658).
(2) التربية الإيمانية للطفل/ ملتقى الخطباء.
(3) سبق تخريجه.
(4) تربية الأولاد (1/ 164).
(5) إحياء علوم الدين (1/ 94).
(6) مسؤولية الأب (ص: 159) بتصرف.
(7) أخرجه مسلم (2999).
(8) أخرجه أحمد (2802).
(9) التربية الإيمانية للطفل/ موقع الألوكة.
(10) أخرجه الترمذي (2516).
(11) أخرجه أبو داود (3641).
(12) أخرجه مسلم (2722).
(13) أخرجه أبو داود (1522).
(14) صحيح الجامع (1880).
(15) أخرجه ابن ماجه (1836).
(16) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (479).
(17) أخرجه أحمد (8952).
(18) أخرجه أحمد (17732).
(19) خمسة أسس إيمانية في تربية الأبناء/ موقع المسلم.