logo

التحكيم بين الزوجين


بتاريخ : الأحد ، 20 جمادى الآخر ، 1438 الموافق 19 مارس 2017
بقلم : تيار الاصلاح
التحكيم بين الزوجين

إن الزواج غايته هو السكن والراحة في اجتماع كل منهما بالآخر؛ فضلًا عن الرحمة والمودة، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، ولكن الحياة الزوجية لا تخلو قطعًا من المشاكل وسوء التفاهم بين الزوج وزوجته لسبب من الأسباب، ونفهم من ذلك أن الحياة الزوجية أخذ وعطاء، عسر ويسر، سعادة وشقاء.

وهي ليست سعادة دائمة ولا شقاءً دائمًا، وإنما بين هذا وذاك، وكل ما ينبغي على كل من الزوجين أن يفعله هو الوصول لأعلى درجات السمو الروحي بينهما في العطاء والمحبة؛ كي تستقر دعائم عش الزوجية علي أسس متينة من الثقة والاحترام المتبادل بينهما، ولا شك أن للأهل دورًا هامًا في العلاقة بين الزوجين، إيجابًا أو سلبًا، ومن ذلك:

أولًا: تدخل الأهل في اختيار الزوجين:

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»(1)، وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: «إذا أتاكم مَن ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تَكُن فتنة في الأرض وفساد كبير»(2).

فالمرأة في ديننا تُنكح لهذه الأربع، والرجل لهاتين الاثنتين، وأعتقد أنَّ هذه هي المساحة التي يستطيع الأهل التدخُّل في تحديدها، ولكن بِحُدود أيضًا، فالأهم هنا هو راحة الابن أو الابنة لشريك الحياة، والرضى عن مُواصفاته التي قد تختلف من شخص لآخر، فما قد يراه أو تراه جميلًا يراه غيرهم عاديًّا، أو حتى قبيحًا.

والابن والابنة هما اللذان سيعيشان مع الشريك؛ لذلك هما الأساس في تحديد المواصفات التي يريدانِها، على أن تَتَضَمَّنَ التي ذكرها عليه الصلاة والسلام، وذلك حماية للدين والخلق والنفس، ولو لم يكن رضا الابن والابنة مهمًّا لَمَا قال عليه الصلاة والسلام ذلك وأكده حين قال: «لا تُنكح البكر حتى تُستأذَن»، قالوا: «يا رسول الله، وكيف إذنها؟»، قال: «أن تسكت»(3)، وفي رواية أخرى للبخاري: «لا تنكح الأَيّم حتى تُستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن»، قالوا: «يا رسول الله، كيف إذنها؟»، قال: «أن تسكت»(4).

فالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام حثَّ وأمَرَ على التأكُّد من موافقة الابنة، ثيبًا كانت أم بكرًا، على الزواج من هذا الشخص، ويدل على ذلك أيضًا أن جماعة جاءوا للنبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: لدينا ابنة تقدَّم لها اثنان: رجل معسر، ولكنه شاب، ورجل موسر، ولكنه شيخ، وابنتنا تحب الشاب، وإن كان معسرًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «لم يُرَ للمتحابين مثل النكاح»(5)؛ أي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقَرَّ رغبة ابنتهم مع أنها خالفتْ رغبتهم، وهذا يدل على أن الأهل ليس لهم الحق الكامل في تحديد واختيار الشريك.

وعلى الأهل أن يتذكروا أنهم يزوجون أولادهم لا أنفسهم، وأنهم في زمن غير الزمن الذي تزوجوا فيه؛ لذلك فليعطوا الابن أو الابنة الحرية لتحديد شريك حياتهم، مع مراقبة عَطوفة، وتوجيه حكيم من الأهل؛ حتى ينعم الجميع بالسعادة.

على كل شاب مقبل على الزواج أن يتريث ويحسن الاختيار، وأن يتحلى بالعقلانية وحُسن الإصغاء لرأي الكبار، خاصة الوالدين، وأخذ رأيهما وطاعتهما، فما أجمل أن يبارك الأهل زواج الأبناء؛ لتكتمل سعادتهم بمصاحبة والديهم وبمباركتهم، دون منغصات أو قلاقل؛ ليتحقق المرجو من الزواج، وهو ما نبحث عنه جميعًا، وهو الراحة والاستقرار.

فالزواج ليس رباطًا بين رجل وامرأة فقط؛ وإنما هو إرساء شبكة اجتماعية جديدة بين العائلتين، فإن لم يكن هناك توافق بين العائلتين فهذا، من دون شك، سيؤثِّر سلبًا على الحياة الزوجية، ولربما سبَّب مشاكل جمة مستقبلًا.

عن عائشة أن فتاة دخلت عليها فقالت: «إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة»، قالت: «اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم»، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها، فقالت: «يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أَعْلم: أللنساء من الأمر شيء؟»(6).

وعن عائشة قالت: جاءت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «يا رسول الله، إن أبي، ونعم الأب هو، زوجني ابن أخيه ليرفع من خسيسته»، فجعل الأمر إليها، فقالت: «إني قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء»(7).

وعن أبي سلمة أن رجلًا زوج ابنة له وهي كارهة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنَّ، وذكر كلمة معناها أبي زوجني رجلًا وأنا كارهة، وقد خطبني ابن عم لي، فقال: «لا نكاح له، انكحي من شئت»(8).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد؛ وأنه إذا امتنع لا يكون عاقًا، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه، كان النكاح كذلك وأولى، فإن أكل المكروه مرة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك»(9).

فمتى يدرك الأهل أن دورهم في عملية اختيار الشريك لأبنائهم لا يتجاوز النصح والإرشاد، فلا إلزام ولا إجبار، ومن ناحية أخرى لا رفض ولا استبداد، ولا يكون رفض حازم إلا في حالتين:

- أن يكون الشريك الذي اختاروه فيه فسق أو ما يهين ويعيب.

- أن يفتقد أبناؤهم الحكمة والقدرة على الاختيار والنضج والتمييز والعقلانية.

وتبرز أهمية الاختيار الزواجي من خلال توضيح أهم الآثار المترتبة على الاختيار غير الموفق بين الزوجين، والتي من أهمها:

- الدخول إلى عش الزوجية بتوقعات عالية غير واقعية، تبتعد عن المنطقية.

- عدم وجود خلفية كافية لدى أحد الطرفين أو كليهما باحتياجات الطرف الآخر.

- عدم تحمل أحد الزوجين أو كليهما لمسئولياته تجاه الأسرة؛ بسبب التوقعات السابقة عن الطرف الآخر أو الجهل أو عدم الرغبة.

- تدخل الأقارب والأصدقاء في شئون الأسرة الخاصة؛ نتيجة فتور العلاقة بين الزوجين وعدم التوافق.

- الانفصال؛ حيث إن نهاية الزواج المبني على اختيار غير موفق تنتهي عادة بالطلاق(10).

ثانيًا: إذكاء روح التواصل بين الزوجين:

ويعدّ التواصل من أساسيات التوافق الزواجي، عندما يستطيع كل طرف أن يفهم الطرف الآخر، ويعبر عما يرغب به من استجابات دون توقع عدم فهمها من الآخر، وأسلوب التواصل هو الأسلوب الأمثل في إشباع الحاجات الأولية للمرأة؛ حيث يستطيع الرجل من خلال الإنصات إلى مشاعر المرأة أن يغرقها بالرعاية والتفهم والاحترام والإخلاص والطمأنة، وكلما كانت المرأة أكثر قدرة في التعبير عن نفسها يتنامى لديها شعور أكبر بأن الآخرين معجبون بأسلوبها، ويستمعون إليها، ويفهمون ما تقول، ومن ثَمّ تكون أكثر قدرة على إعطاء الرجل الثقة، والتقبل، والتقدير، والإعجاب، والاستحسان، والتشجيع الودي الذي يحتاج إليه(11).

وتأتي أهمية الاتصال في كونه يمثل مهارات محددة، ينبغي على الأزواج التعامل معها بطريقة إيجابية وبناءة، وأي خلل فيها يؤدي تدريجيًا إلى حدوث بعض المظاهر التي تعدّ من مؤشرات انخفاض مستوى التوافق الزواجي؛ مثل: الدفاع غير المبرر عن النفس، والأنانية التي تزيد من الحنق والاستثارة بين الزوجين.

وتزداد أهمية الاتصال بين الزوجين مع زيادة فرصة الالتقاء بين الزوجين، ومن العوامل التي تساعد على توفير الوقت أمام الزوجين، الرفاهية الاقتصادية التي تعمل على تقليص ساعات العمل، وتدخل بعض الأطراف الأخرى في بعض مهام الزوجين، داخل الأسرة وخارجها، يجعلهما يقضيان وقتًا متزايدًا معًا مقارنة بالماضي.

ويعدّ الاتصال الجيد عاملًا أساسيًا في الزواج الناجح؛ لأنه المحرك والأداة الرئيسة لإدارة العلاقات الزوجية، وتكون عملية التواصل ناجحة حين يسعى كل طرف لمعرفة أشياء كثيرة حول رغبات الطرف الآخر وميوله وحاجاته.

وتعلم المهارات الخاصة بالاتصال وحل المشكلات؛ مثل: الاستماع، والتمكن من لغة الجسد، وأساليب التعبير عن الذات، وهذا تدريب يفيد في تحسين التواصل بين الزوجين، يتكون من ثلاثة أجزاء، هي:

١- التركيز على المعنى الفعلي للكلمات التي يقولها شريك الحياة؛ حيث إن الإنسان نادرًا ما يستمع إلى ما يقوله الآخرون، وعند وجود التركيز تكون الفرصة أكبر لفهم المعنى.

2- بعد فهم معاني كلمات الطرف الآخر، فإن الشخص يدرك أنه يعيش مع شخص آخر يختلف عنه في الخبرات والاهتمامات.

3- ممارسة هذا التدريب بشكل منتظم بين الزوجين، خصوصًا في أوقات الصراع، يخلق أربطة عاطفية عميقة بين الزوجين، الأمر الذي يؤدي إلى تحسين التواصل بينهما(12).

ثالثًا: التربية على الإصلاح:

يجب على الأهل كما يعلِّمون أبناءهم وَصَفات الأكل والشرب المختلفة أن يعلموهم أيضًا أصول الحوار الناجح، واحترام كل من الزوجين للآخر، وأصول التعامل، وقواعد الحياة الزوجية السعيدة، وذلك لا يكون بالتلقين فقط؛ بل بالمشاهدة والمعايشة، فالإنسان يتعلم مما يراه ويعيشه أكثر مما يقرؤه أو يحفظه، فالعلاقة الجيدة بين الوالدين، ورؤية الابن والابنة لكيفية تعامل والديهما مع بعضهما بعضًا، ومع المشكلات التي تواجههما، لها دور كبير في نجاح زواج الأبناء، كما أن التربية العطوفة الحنونة المبنية على الثقة المتبادلة بين الوالدين، والأبناء، والحوار، والمصارحة، والاحترام، والعدل، تساهم في نمو شخص سوي متزن نفسيًا، وبالتالي يكون قادرًا على مواجهة ضغوط ومشاكل الحياة بحكمة وعقل؛ حتى يصل إلى الحل المناسب لها، وبالتالي يصبح قادرًا على أن يصل بزواجه إلى بر الأمان؛ لأنه حين يبدأ الزواج تتلاعب به أمواج الاختلافات الكثيرة الموجودة بين الزوجين، والتي تتلاشى أو تخف حدتها إذا ما تم التعامل معها بحكمة وصبر، فالأهل، كما ذكرنا في البداية، دورهم يبدأ من الولادة، وليس عند اتخاذ قرار الزواج.

رابعًا: القضاء على النزاع:

الشقاق والنزاع إذا دب في الحياة الزوجية واستمر حتى يصل إلى حدٍ تعسر معه الحياة؛ وتضيق منه النفس؛ فلا مناص من العلاج الشرعي؛ وهو أحد طريقين:

الطريق الأول: الإصلاح بينهما.

والطريق الآخر: القضاء بينهما.

أما الطريق الأول، وهو الإصلاح بين الزوجين، فمن إيجابياته:

1- حصر المشكلة في نطاق ضيق.

2- ستر الأسرار من الانتشار؛ والبعد عن التقول حين تطاير الأخبار.

3- بالصلح يتراضى الطرفان على حل وسط؛ يكيفانه المصلحان الخبيران المؤتمنان بما يضمن استدامة العشرة وبقاء المودة.

أما الطريق الآخر، وهو القضاء بين الزوجين، فله سلبياته، ومنها:

1- خروج المشكلة إلى خارج أسوار العائلة ليكون أمام الملأ.

2- شيوع الأسرار، والبيوت تبنى على السِتر، وقد يستغل ضعاف النفوس من بعض أهل الزوجين ذلك فيطير بها، وينفخ فيها ما يشاء.

3- القضاء فيه إلزام وفصل وقطع وحزم بين الزوجين، وهذه معان تؤدي إلى الألم، وخروج الزوجين بعدم تراض متوقع.

من وسائل الإصلاح بين الزوجين:

1- معرفة كل منهما لحقوق الآخر عليه، فمن حقوق الزوجة على زوجها النفقة والكسوة والمسكن المناسب، وألا يؤذيها ولا يهجرها إلا في البيت.

ومن حقوق الزوج على زوجته طاعته في المعروف، وألا تمنعه نفسها لغير عذر شرعي.

2- معرفتهما معًا لحدود الله وعقابه، وأن الشيطان لا يفرح بشيء كفرحه بهدم الحياة الزوجية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه ويقول: نِعْم أنت»(13).

3- تفكير كل منهما في مستقبل الأولاد، وأن مصلحتهم تقضي بقاء العلاقة الزوجية.

4- مراعاة كل منهما لظروف الآخر.

5- تنازل كل منهما عن بعض حقوقه تأليفًا وإبقاء على رباط الأسرة.

وغير ذلك مما تمليه الظروف والأحوال التي يكون عليها كل منهما.

كان نبينا عليه الصلاة والسلام يسعى للإصلاح، وكثيرًا ما جاءه الأزواج والزوجات يشكون ويشتكين، فيتدخل عليه الصلاة والسلام بالحكمة الطيبة، وكان يُذَكِّر النساء بمكانة الزوج مثلًا تارة، فعن حصين بن محصن أن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فلما فرغت، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أذات زوج أنت؟»، قالت: نعم، قال: «فأين أنت منه؟» [في أي منزلة أنت من زوجك؟ قريبة؟ بعيدة؟ متباعدة؟ ودودة؟]، قالت: ما آلوه [لا أقصر] إلا ما عجزت عنه، قال: «انظري أين أنت منه؛ فإنه جنتك ونارك»(14).

جاءت امرأة إلى عمر رضي الله عنه فقالت: «يا أمير المؤمنين، إن زوجي قد كثر شره، وقَل خيره»، فقال لها عمر: «ما نعلم من زوجك إلا خيرًا»، فأرسل إليه فجاء، فقال له عمر: «هذه امرأتك تزعم أنه كثر شرك، وقل خيرك»، فقال: «بئس ما قالت يا أمير المؤمنين، والله، إنها لأكثر نسائها كسوة، وأكثرهن رفاهية بيت، ولكن بعلها بكيء [يعني لم يعد يستطيع الوقاع]»، فقال: «ما تقولين؟»، قالت: «صدق»، فتناولها، وقال: «يا عدوة نفسها، أفنيتِ شبابه، وأكلت ماله، ثم أنشأت تشنين عليه ما ليس فيه»، فقالت: «يا أمير المؤمنين، أقلني في هذه المرة، والله، لا تراني في هذا المقعد أبدًا»، فدعا بأثواب ثلاثة، وقال لها: «اتق الله، وأحسني صحبة هذا الشيخ»، ثم أقبل على زوجها فقال: «لا يمنعك ما رأيتني صنعت بها أن تحسن صحبتها»، قال: «أفعل يا أمير المؤمنين»(15).

وليس دائمًا تأتي الإصلاحات بالنتائج المرجوة، لكن حسب الذين يحاولون الإصلاح، ومجرد المحاولة فيها أجر، فعندما عتقت بريرة وكان زوجها عبدًا اختارت فراقه؛ حيث يحق للأَمة إذا عتقت وهي تحت زوج عبد أن تفارقه إذا أرادت، فكان زوج بريرة متعلقًا بها، وهي لا تريده، وجعل يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته في طرق المدينة، يتوسل إليها أن تعود إليه، وطلب شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام، فتدخل النبي عليه الصلاة والسلام، وقال لبريرة: «لو راجعته؛ فإنه أبو ولدك»، قالت: «يا رسول الله، أتأمرني؟»، قال: «إنما أنا أشفع»، قالت: «لا حاجة لي فيه»(16).

خامسًا: التحكيم بين الزوجين:

ولكن إذا ترك الزوجان تعاليم الكتاب والسنة، واتبع كل منهما هواه وعاداته وتقاليده التي تربى عليها بين أهله وقومه وعشيرته، ورفض الاستمرار وصار الطلاق هو الحل، على الرغم مما يترتب عليه من مشاكل وتشتت لأفراد الأسرة؛ إن كان هناك أولاد، هنا يأتي دور الإصلاح والحكمين لإنقاذ الأسرة من التشتت والضياع بين الأب والأم، وهذا من أعظم آثاره الإيجابية؛ لأنه إنقاذ لأسرة واستقرارها، ولا ريب تشتتها هي وغيرها من الأسر، وكثرة الطلاق بين الأزواج يعود ضرره علي المجتمع كله، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن من أروع الآثار الإيجابية للإصلاح هو إزالة الحاجز النفسي بين قلب كل من الزوج وزوجته، الذي أوجده حب الهوى والانتصار للنفس، هذا الحاجز النفسي الذي أوجده إهمال كل منهما للآخر؛ بسبب كثرة مشاكل الأولاد وتربيتهم ورعايتهم، والهموم والغموم التي تحيط بالأسرة، ومرور الأعوام وفتور العاطفة... إلخ.

 إذن لا بد للحكمين في محاولتهما للإصلاح بين الزوجين من هدم هذا الحاجز، وبناء جسر من التفاهم والانسجام بينهما، قوامه رعاية كل منهما لحقوق الآخر، حتى يكون التآلف والتآزر بينهما قائم على أساس المعروف، لا على أساس الهوى والنزوة.

إن الحياة الزوجية بطبيعتها مليئة بالمشكلات؛ لذلك يكون تدخل الأقارب للإصلاح بين الزوجين له أثر كبير، خاصة الوالدين، فمسئولية الأب لا تنتهي بزواج ابنته، لكن دوره يستمر للتدخل في أوقات الخلاف مع زوجها بالحكمة والموعظة الحسنة.

ولا بد أن ينتبه المصلح إلى ضرورة تذكير الطرفين بحق كل منهما في الآخر، فقال جل شأنه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، وأيضًا من جنح منهما يُعدل رأيه، فقد يدافع عن نفسه ويدعي أنه له حقوق، وليس كل الأمر كذلك، كما أن الإصلاح بين الزوجين قد لا يأتي بالنتائج المرجوة، لكن المحاولة في حد ذاتها فيها أجر من الله سبحانه وتعالى.

وقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا»(17)، فيجوز للإنسان مدح الطرف الآخر بأشياء قد لا تكون فيه، بغية التقريب بينهما، فهذا ليس محرمًا.

تنبيه:

ليس للأهل التدخل في الحياة الزوجية لأبنائهما إلا بعد أن ينتهي الزوجان من محاولة حل مشكلتهما، أو في حالة خوف الشقاق، أما أن يتدخل الأهل في حياة الزوجين المتفاهمين فيقلبانها جحيمًا، فيكون تدخلهم هو سبب الشقاق، فلو كان تدخلهم في خصوصيات الحياة الزوجية لأبنائهم فيجب على الزوجين منعهما من ذلك؛ لأن التدخل أحيانًا قد لا يكون قاصرًا فقط على أسلوب التربية؛ فهو يمتد أحيانًا ليشمل مناحي كثيرة من الحياة؛ مثل: أسلوب تصريف شئون الأسرة المادية، والعلاقات الاجتماعية بين أسرتي الزوجين، وأسلوب تعامل الزوج مع زوجته وبالعكس؛ بل أحيانًا كثيرة يصل التدخل إلى حدود العلاقة الخاصة جدًا (العلاقة الحميمة) بين الزوجين، الأمر الذي قد يرفضه أحد طرفي العلاقة، خاصة إذا كان متعلمًا وذا شخصية قوية، كل هذه التدخلات قد تؤدي إلى نشوب خلافات حادة بين الزوجين؛ وبالتالي بين الأسرتين.

ويجب الاتفاق المسبق بين الزوجين على سياسة التعامل العامة مع الأهل (أهل الزوج والزوجة)، وعدم إدخال الأهل في تفاصيل الحياة الزوجية اليومية، كما يجب الاتفاق على المشاكل التي يمكن أن يتدخل فيها الأهل في مرحلة معينة، على أن يحددا من هو الطرف الذي يدخلانه من الأهل في مشاكلهم، وتتضمن هذه السياسة أساليب التعامل مع الأهل؛ أي فن التقرّب والتودد للأهل، وتحديد الزيارات، وافتعال المناسبات التي تؤلّف بين قلوب الأهل والأزواج، وتعطي لهم الفرصة لمزيد من التواصل، وعدم إشعار الأهل أن الابن قد استحوذت عليه الزوجة، فإن توازن الابن في التعبير عن مشاعره من خلال تصرفاته وسلوكياته وطريقة تعامله مع أهله، يحمي العلاقة ألا يذكر كل طرف لأهله إلا محاسن الطرف الآخر، وألا يتحدث معهم عن عيوبه أو سيئاته، ويدافع عن الطرف المتهم أمام أهله في حال وجد أي انتقاد منهم.

وأن يتفق الزوج على سلم الأولويات مع زوجته في حالة العجز عن التوفيق بين الطرفين، على أن يتم التغاضي عن تدخلهم الحالي، وأن يعمل كل طرف على تحسين صورة الطرف الآخر عند أهله، وتحسين العلاقة من خلال المصالحة والتسامح، والتغاضي عن الأخطاء والمعاملة الحسنة وغيرها من فن العلاقات الإنسانية.

حكمة مشروعية التحكيم:

معلوم أن أهمية موضوع ما ترجع إلى مدى ما يحققه من مصالح ومقاصد، ومن ثم تنبع أهمية التحكيم في كونه يحقق العديد من المصالح والمقاصد، فهو يحقق مقاصد مهمة من مقاصد التشريع الإسلامي، والناظر في النصوص الشرعية والتطبيق العملي يجد مكانة خاصة للتحكيم، ومن هذه المصالح والمقاصد:

1- الإسراع في فض النزاع، وذلك لأن المحكَّمين يكونون عادة متفرغين للفصل في هذه الخصومة، وليس عندهم خصومات أخرى، فيتيسر لهم البدء فورًا في إجراء التحكيم، وإنهائه في وقت أقصر بكثير مما يتم في المحاكم، وهذا فيه مصلحة ظاهرة في الإسراع في إيصال الحق لصاحبه، مع ملاحظة أن للوقت أثرًا مهمًا على الحق المتنازع عليه، وخاصة في القضايا المالية، وأن سرعة الإنجاز عامل مهم لنجاحها، والبطء في اتخاذ القرار يجعل الأضرار تتنامى وتتضاعف، حتى إن الخسائر المالية التي يتكبدها أطراف النزاع تفوق بكثير أجرة أو راتب إقامة اثنين من المحكمين، ينهون النزاع خلال مدة وجيزة، وذلك مثل مجمع سكني كبير يجري حوله نزاع، ويخسر الطرفان خسارة كبيرة نتيجة تعطل العمل، وبطء إجراءات المحاكم الشرعية المشغولة بالعديد من القضايا.

2- تلافي الحقد والعداوة والبغضاء بين الخصوم، بقدر الإمكان؛ وذلك لأن أساس التحكيم يقوم على مبدأ أن الحكم مختار من قبل الخصوم أنفسهم، اختاروه بطيب نفس منهم، وهذا الشخص المختار حائز على ثقتهم؛ مما يجعل الحكم كأنه صدر من مجلس عائلي، وداخل أسرة واحدة، وهذا سنتطرق إليه عند الحديث عن التحكيم في الشقاق بين الزوجين، فالحكَم المختار وإن لم يكن من الأهل فهو أقرب إلى أن يكون من الأهل، بخلاف ما لو صدر الحكم من قضاء مفروض على الطرفين، سبقه مخاصمة ومشاحنة وبغضاء.

وبالتالي فيمكن القول بأن التحكيم يحقق العدل بلا عداوة بين الخصوم، بخلاف القضاء الذي يحقق العدل لكنه كثيرًا ما يخلف وراءه العداوة والأحقاد بين المتنازعين؛ وهذا ما قاله عمر رضي الله عنه: «ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بين القوم الضغائن»(18).

وإلى ذلك يشير القرآن الكريم عند التحكيم في الشقاق بين الزوجين {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوفِّقِ اللهُ بَينَهُما} [النساء:35].

3- إن التحكيم، كما يحفظ العلاقة الطيبة بين الأقارب، يحافظ على العلاقة الطيبة بين التجار، فكثيرًا ما يقع نزاع بين تاجرين في أحد العقود، ثم يحكِّمون طرفًا ثالثًا في هذا النزاع، ولا يمنعهم هذا من الاستمرار في التعامل التجاري بينهم؛ بل إن هذا يزيد ثقة بعضهم ببعض، بخلاف التنازع أمام القضاء، فهو كثيرًا ما يقوض التعامل بين طرفي العقد بسبب قيامه على المشاحة.

4- إن التحكيم فيه روح الاعتدال؛ إذ القضاء فيه الهيبة والوقار، والوساطة فيها الترجي والشفاعة، ويأتي التحكيم وسطًا بين هذين الأسلوبين؛ مما يجعله يحتل مكانًا وسطًا بين صلابة القضاء، ومرونة الوساطة وغيرها من طرق التسويات، وخير الأمور أوسطها.

5- أن التحكيم يسهم في إقامة العدل بين الناس، فإن ثمرة القضاء وغايته هو إيصال الحقوق إلى أهلها، سواء كان ذلك عن طريق الفصل القضائي العام، أم عن طريق الحكم الاختياري المتمثل في التحكيم الاختياري باختيار الحكَمين، فكلاهما طريقان لإيصال الحقوق إلى أهلها على وفق الأصول والضوابط التي تؤدي إلى العدل وإحقاق الحق، كما يسهم في إصلاح ذات البين، وقطع المنازعات والخصومات في المجتمع المسلم؛ وبالتالي تقل القضايا المرفوعة لدى القضاة، وهذا يؤثر إيجابًا في تقليل عدد القضاة المطلوب تعيينهم، وهو يخفف العبء المالي على الدولة؛ مما يعني مساهمة المواطن في هذا الجانب، من خلال إفشاء التحكيم وإعماله في تحقيق المصلحة العامة للبلد.

قال ابن العربي: «فلا بد من نصب فاصل، فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج، وأذن في التحكيم تخفيفًا عنه وعنهم في مشقة الترافع لتتم المصلحتان، وتحصل الفائدتان»(19).

6- إن التحكيم يتيح للمتنازعِين فرصة اختيار محكَّمين أصحاب تخصص دقيق في موضوع النزاع، يسهم في فهم سريع ودقيق لموضوع الخلاف، وبخاصة في بعض القضايا الفنية الدقيقة، التي قد لا تتوافر في القاضي الذي ينظر في مختلف القضايا، ويعتمد على رأي أهل الخبرة، وبالتالي يكون الحكَم المتخصص أفهم للقضية وأسرع في الفصل من غيره.

7- من فوائد التحكيم في الشقاق بين الزوجين أن المحكِّمين يملكون صلاحية تحديد المدة التي يرونها ملزمة للمحكَّم لإنهاء النزاع، وعلى المحكَّم أن يلتزم بذلك، وهذا إن كان الحكمان من خارج القضاء للإصلاح فقط، وهذه ميزة لا يمكن توفيرها عن طريق القضاء.

8- يحقق التحكيم الدعم للمرفق القضائي من جوانب متعددة، أظهرها ما يلي :

أ- إعانة القضاة في أعمالهم، وحمل جزء منها على وفق المنشود واقعًا ونظامًا.

ب- التخفيف عن الجهاز القضائي العام؛ مما يؤدي إلى قلة الكلفة المادية على الدولة، وإتقان العمل المسند إلى القضاء العام بسبب قلة القضايا الواردة إليها .

ج- تنظيم طرق المحاكمة وتأصيلها، وعدم وجود الخلل المتمثل في اللجوء إلى القضاء العرفي، أو القَبلي، أو المِلِّي ونحو ذلك.

د- تحقيق التوسعة على المتقاضين؛ بعدم إلزامهم بالحضور إلى أماكن التقاضي العامة، وفي أوقات قد تتعارض مع أعمالهم الرسمية ونحوها .

ه- تحقيق القناعة بالأحكام الصادرة من المحكَّمين؛ لأن أطراف النزاع يطلبون التحاكم إلى من يرتضونه، ويقنعون به، فيكون هذا الأمر سببًا للقناعة بما يصدر منه من أحكام، ويكون سببًا للصلح والعفو والتسامح.

و- إن في التحكيم فرصة لسرعة الفصل في القضايا؛ وذلك لأن المحكَّم متفرغ لهذه القضية المعروضة عليه، كما أنه غير ملزم بوقت محدد في نظرها، ولديه من الجوانب المساعدة التعاونية ما يحقق وصوله للمراد بأسرع وقت وأسهل طريق.

ز- إن العلاقة بين التحكيم والقضاء علاقة ظاهرة؛ إذ التحكيم جزء لا يتجزأ من القضاء، ونوع من أنواع الفصل في الخصومات، وتسري عليه جملة من المتطلبات المتعلقة بالقضاء(20).

ورعاية القضاء للتحكيم يتمثل في جوانب متعددة، تبدأ مع أول المراحل الاختيارية لهذا المبدأ إلى حين انتهاء الدعوى التحكيمية وصدور الحكم وتنفيذه(21).

عن السدي قال: «إذا هجرها في المضجع وضربها فأبت أن ترجع وشاقَّته فليبعث حكمًا من أهله، وتبعث حكمًا من أهلها، تقول المرأة لحكمها: قد وليتك أمري، فإن أمرتني أن أرجع رجعت، وإن فرقت تفرقنا، وتخبره بأمرها إن كانت تريد نفقة أو كرهت شيئًا من الأشياء، وتأمره أن يرفع ذلك عنها وترجع لزوجها، أو تخبره أنها لا تريد الطلاق، ويبعث الرجل حكمًا من أهله يوليه أمره ويخبره، يقول له حاجته إن كان يريدها أو لا يريد أن يطلقها أعطاها ما سألت وزادها في النفقة، وإلا قال له خذ لي منها مالها علي وطلقها، فيوليه أمره؛ فإن شاء طلق وإن شاء أمسك(22).

المستحب أن يكون حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها؛ لقوله تعالى: {فَابعَثُواْ حَكَمًا مِنْ أَهلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِها} [النساء:35]؛ لأنهما أعرف بالحال وأشفق، ولأنه روي أنه وقع بين عقيل بن أبي طالب وبين زوجته شقاق، وكانت من بني أمية، فبعث عثمان حكمًا من أهله، وهو ابن عباس رضي الله عنه، وحكمًا من أهلها، وهو معاوية(23).

لأن الأقارب أخبر بالعلل الباطنة، وأقرب إلى الأمانة والنظر في المصلحة، وكيفية صلاحهما ومحبتهما وكراهتهما، ولأن الأهل يسكن إليه ويطمئن إلى حكمه، بخلاف الأجنبي.

ولأن التحكيم نَظَر في الجمعِ والتَفريق، وهو أولى من ولاية عقد النكاح التي تطلب للجمع بين الذكر والأنثى، لا سيما إن جعلناهما حاكِمين.

إن عموم ما هو مطلوب عند اختيار الحكمين، قبل خوض التفصيل في شروطهما، أن يكونا من أهل الخبرة والحكمة والصلاح والمعرفة بشئون الصلح؛ لنحفظ البيوت والأسر من التصدع، والأطفال من التشرد؛ فالإسلام حريص على دعم الأسرة، وقيامها على المودة والرحمة والألفة، كما أن الإسلام أمر بالصبر والصفح وحسن الخُلق والعشرة بالمعروف بين الزوجين.

كيفية التحكيم بين الزوجين:

الأصل فيه قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35].

1- الآية تشير إلى ضرورة وجود طرفين في الإصلاح؛ لأن الواحد لا يكفي؛ فهو، لا محالة، سيميل مع الأقوى تأثيرًا من الزوجين؛ ولذا نصب الشارع الاثنين ليرعى كل واحد منهما مصالح أحد الزوجين ويغلِّبها، فإذا اجتمعت لدى المصلحين مصالح الزوجين قارنا بين المصالح المشتركة للإبقاء على الحياة الزوجية أو المفاسد المحتملة لفساد الحياة بينهما، فيجريان، فيما بينهما، بعد ذلك موازنة بين الأمور؛ ليخرجا بما يلي:

أ‌- حصر المفاسد التي تلحق الضرر بالزوجين، وإمكانية تقليلها أو اضمحلالها.

ب‌- جمع المصالح التي معها استدامة الحياة بينهما، ومدى تكثيرها وانتشارها.

2- يجتمع المصلحان مع الزوجين في جلسة مغلقة، ليس فيها من الصوارف أو الشواغل أو ما يقطعها؛ ليذكرانهما بالله تعالى في لزوم أداء الحقوق، والقيام بالواجبات، ويستمعا منهما، ويطلبا ألا يقاطع أحدهما الآخر حتى يفرغ الآخر من شكواه، ويحسن أن يكون مع كل من الزوجين والمصلحَين قلم وأوراق؛ لأجل أن يكتب أحد الزوجين تعليقه الذي يريده على الآخر بدون مقاطعة؛ ليذكره في حينه، وكذا المصلحَين.

3- قد لا تفي جلسة واحدة، فلا مانع من تعدد الجلسات للخروج بتصورٍ شامل للمشكلة بأبعادها وأطرافها.

4- يتبين للمصلحَين، بعد هذه الموازنة، الطبيعة التي يشيران بها على الزوجين لاستدامة الحياة، ليتعاهدا على القيام بها، وعدم التفريط فيها.

5- إن وجد المصلحان أن ثمة ثغراتٍ لا بد أن يُشار بها لأحد الزوجين أو كلاهما، على حدة، لأجل أن يقوى جانب الصلح فهو حسن.

6- على المصلحَين أن يتكفَّلا بوضع شروط أو ضوابط تكفل البعد عن الانتكاسة؛ لأن الصلح إذا لم يَفِد فستئول الأمور إلى تدهورٍ أسوأ حالًا، وأصعب مآلًا.

7- مراقبة الوضع عن بعد، وسرعة التدخل للعلاج الطارئ فيما لو اعوجَّ المسار وفي الإمكان تدارك الأمر قبل انهياره.

صفات الحكمين:

لكي ينجح الحكمان في مهمتهما الإصلاحية، ولتكون قراراتهما معتمدة من قبل الشارع، لا بد من توفر الصفات المساعدة على ذلك، وقد تحدَّث الفقهاء عن تلك الشرائط على النحو التالي:

١- القرابة من الزوجين: حيث نصت الآية الكريمة على أن يكون الحكمان من أهل الزوجين: {فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا}؛ لأن ذلك في الغالب أنجح لمهمة الإصلاح، وإذا كان الأجنبي أقدر على التأثير فلا مانع من اختياره، وكذلك لو لم يكن لهما أهل، أو لم يكن من أهلهما من يصلح للقيام بهذا الدور فيمكن اختيار أي عنصرين صالحين.

٢- البلوغ.

٣- العقل.

٤- الصلاحية: بمعنى قدرتهما على القيام بهذا الدور، بمعرفة الأحكام المتعلقة بالحقوق الزوجية، وامتلاك الخبرة الاجتماعية، ويمكن أن يتعدد الحكم عن كل طرف بأن يكون شخصان أو أكثر من جهة الزوجة، وكذلك من قبل الزوج.

٥- العدالة.

٦- الإسلام: وهو شرط إذا كان الزوجان مسلمين.

٧- الذكورة: وقد اشترطها بعض الفقهاء، وسكت عن ذلك أكثرهم، وصرح بعض الفقهاء بعدم اشتراطها.

واختيار الحكمين من أهل الزوجين يقصد منه الاستفادة من عاطفتهما، وحرصهما على مصلحة الزوجين القريبين منهما، كما أن اطلاعهما على أسرار حياة الزوجين لا يشكل إحراجًا كبيرًا، كاطلاع الأجانب ضمن المحاكم العامة، إضافة إلى تجاوز هذا التحكيم العائلي قيود ونفقات المحاكم العامة.

لكن ذلك مشروط بأن يأتي كل واحد من الحكمين بقصد الإصلاح، وعودة الانسجام والوئام بين الزوجين، لا بقصد الانتصار لطرف، أو الانتقام من الآخر، وهذا ما يؤكد عليه قوله تعالى: {إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا}.

ويجب اختيارهما من أهل الصلاح والتقوى، وممن يخافون الله في تحكيمهم، وليس ترجيح مصلحة طرف على طرف آخر لغاية أو لسبب ما، والنظر إلى المسألة من حيث النتائج، وتقدير المصلحة في ذلك، وخاصة لأمور المَحْضون، وما ينتج عن أمر الطلاق بين الزوجين.

***

_________________

(1) أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466).

(2) أخرجه ابن ماجه (1968).

(3) أخرجه البخاري (6968).

(4) أخرجه البخاري (6970).

(5) أخرجه ابن ماجه (1847).

(6) أخرجه النسائي (5369).

(7) أخرجه الدارمي (3555).

(8) أخرجه النسائي (5359).

(9) مجموع الفتاوى (32/ 30).

(10) دور أساليب التفكير ومعايير اختيار الشريك، ص33.

(11) توكيد الذات وعلاقته بالتوافق الزواجي، ص56.

(12) دور أساليب التفكير ومعايير اختيار الشريك، ص43.

(13) أخرجه مسلم (2813).

(14) أخرجه أحمد برقم (26806).

(15) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (3/ 999-1000).

(16) رواه البخاري (5283).

(17) أخرجه البخاري (2692).

(18) السنن الكبرى، للبيهقي (11360).

(19) أحكام القرآن (2/ 125).

(20) المطالبات ومحكمة التحكيم وقوانين التحكيم العربية، ص59.

(21) الرقابة القضائية على التحكيم، ناصر بن إبراهيم المحيميد، موقع: القانونيين العرب.

(22) جامع البيان (8/ 322).

(23) المهذب في فقه الإمام الشافعي (2/ 488).