الابن الأكبر
يسترعي انتباهي أكثر من إخوته، يثير لدي مشاعر كثيرة؛ الفخر، الاعتزاز، الأمل، الخوف، مزيج من المشاعر تتحكم في علاقتي بابني الأكبر.
إنه أول امتداد لي بين الناس، وأكثر ما يقلقني أنه أول محطة في تربيتي لأولادي، وتقعيدي لأصول وبناء تلك التربية الأسرية.
الثقة مبدأ رائع يساورني كثيرًا عند التعامل مع ولدي الأكبر، لكن كيف هي الحدود؟ وما هي آلياتها المثلى ما بين العطاء المطلق والحرمان التربوي؟ سلم ذو درجات عديدة، يثقلني التفكير عند أيها سأقف، جرعة ضخمة من الهم والتفكير أفردها له، وهنا ملمح قلق آخر حول نصيب بقية إخوته مني، حيث الخوف من غياب العدل ما بين الأولاد، تداعيات تثير شيئًا من الحيرة، ونثر أسئلة تنتظر إجابة.
الابن الأكبر عادةً هو قرة العين، وهو البكر، الابن البكر، ولهذا الله تعالى ابتلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بـ {إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]؛ ولذلك الابن الأكبر يقوم مقام الأب في حالات كثيرة، وهو محل الأسوة والقدوة، وهو الذي يقطف الزهور الأولى من زهور حب الأبوين وفرحتهم بالمولود الجديد، الذي يملأ البيت بهجةً وفرحةً وحنانًا، لكن الأولاد كلهم أيضًا مثل الأصابع، ومثل الجوارح، كما قال ابن الرومي:
وأولادنا مثل الجوارح أيها فقدناه كان الفاجع البين الفقد
لكل مكان لا يسد اختلاله مكان أخيه من صبور ولا جلد
محمد ما شيء توهم سلوةً لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما يكونان للأحزان أورى من الزند(1)
الابن الأكبر أو الابن البكر هو الطفل الأول للأسرة، (وهذا ينطبق أيضًا على الأنثى)، ما يميزه عن باقي إخوته تمتعه بالسلطة، حيث يلعب دورًا كبيرًا في قيام الأسر وبناء المجتمعات، فهو اليد اليمنى لوالديه، وكثيرًا ما نرى صفاته: مسئولية – قيادة – الجدية - الشخصية القوية - القلب الشاسع - الحنان اللامحدود - حب العدل.
لقد ولد الابن البكر ليساعد والديه، ويضحي من أجل إخوته، ويسعى بجهده لتربيتهم ومساعدتهم قدر ما أمكن، وبهذا أصبح ركنًا أساسيًا في العائلة، يقوم مع والديه على مبدأ الشورى، ويحرص على صلاح الأسرة.
فهو أول مولود لدى الأبوين، وثمرة سنوات من الحب، كما يمثل أحلام الأبوين وروحيهما معًا، وأعينهم التي يرون بها المستقبل، ويطمح الأبوان دوًما لرؤية ابنهما الأكبر في أحسن المناصب وأرقى الأماكن، ومند ولادته يمني الأبوين نفسيهما بأنه سيكون طبيبًا ناجحًا أو عالمًا باحثًا، ويريدون رؤيته في أقرب وقت ناجحًا في سلوكه وتربيته ودراسته، ثم في عمله وحياته جميعًا، ويولي الآباء للابن الأكبر قدرًا كبيرًا إن لم نقل كل الاهتمام، لدرجة أنهم يقيدون تصرفات ابنهم الأكبر، فيقحمون أنفسهم في لباسه وتسريحة شعره وأصدقائه، وأوقات خروجه ودخوله للمنزل، حتى في سن العشرين، وهذا راجع إلى شدة اهتمامهم به، ونجد غالبًا أن الابن الأكبر يتمتع، بالمقابل، بالعديد من الصلاحيات، على عكس إخوته، وإن كان هدا الابن هو الأكبر في الجيل الثاني كله تجد أن جده يحتفل احتفالًا صاخبًا بمجيئه، ويقيم الولائم ويدعو الناس.
قيمة الابن الأكبر عند إخوته :
يعتبر الابن الأكبر بمثابة القدوة لأخوته؛ حيث إنهم في الغالب ما يسلكون نفس نهجه، في سلوكهم ودراستهم ومعاملتهم للأبوين، كما أن الإخوة عادة ما يستعينون بالأخ الأكبر ليساعدهم فيما يعجزون عن القيام به بمفردهم، سواء واجبات مدرسية أو أعمال خارج البيت، وحتى في حالة تعرضهم للظلم من طرف أحد ما، ويأتي دور الابن الأكبر في توجيه إخوته وتربيتهم مكملًا لدور الأبوين؛ حيث إن الأخ الأكبر يمتلك أحيانًا تواصلًا أفضل مع إخوته، حتى من أبويه، كما إنه يحب إخوته ويتنازل لهم عن حقوقه في الكثير من الأحيان.
دور الابن الأكبر في الأسرة:
يلعب الابن الأكبر العديد من الأدوار في الأسرة؛ إذ يتولى رعاية إخوته والاهتمام بالمنزل في حالة غياب أبويه أو مرضهما، كما يسهر على تلبية مختلف حاجيات المنزل في حالة انشغال الأب بالعمل أو عودته مرهقًا من العمل، كما يتولى هذا الابن الأكبر رعاية أبويه في حالة تقدما في العمر.
أما في حالة توفي الأبوان فيتحمل الابن الأكبر على عاتقه مسئولية رعاية إخوته كاملة، ويسهر على راحتهم، ويقدم العديد من التضحيات؛ من أجل ألا يحسوا بأنهم أقل شأنًا من الآخرين، وقد يصل به الأمر إلى التضحية بدراسته، والخوض في غمار الأعمال الشاقة من أجل رعاية إخوته.
وأحيانًا إن كان الوضع أقل بؤسًا فيقضي هذا الأخ الأكبر كل عطلة في غمار العمل، من أجل توفير المال لإخوته وكسوتهم في الدخول المدرسي القادم؛ وهذا ما يجعله محبوبًا ومحترمًا ومطاعًا من قبلهم، لكن في بعض الأحيان نجد أنهم ينكرون فضله عليهم.
لا يختلف اثنان على أن الابن البكر لا يزال يحوز الكثير من الامتيازات، وإن كانت أحيانًا تثير غضب إخوته الأصغر منه سنًا، غير أن صغير العائلة أيضًا لديه امتيازات قد تثير غيرة إخوته الأكبر منه.
وعلى الرغم من أن الأبوين المعاصرين أصبحا أكثر إدراكًا وعلمًا بالتربية الحديثة، ويتعاملان مع أبنائهم على أساس أن كل واحد منهم كائن فريد، ولا أحد يحتل مكانة الآخر، لا تزال المفاهيم القديمة سائدة بإيلاء الابن البكر مهمة الاهتمام بإخوته الأصغر أحيانًا، والترداد على مسمعيه عبارة: أنت الكبير وأنت المسئول، وإذا اشتكى أخوه الأصغر يسمع عبارة: أنت الكبير والأكثر وعيًا.
ومع غياب العائلة الكبيرة، فإن مفهوم المرتبة بين الإخوة يكاد يصبح نادرًا في العلاقة المنسوجة بين الأهل والأبناء، ففي الماضي كان الابن البكر في العائلة المؤلفة من الوالدين وسبعة أبناء يحل مكان الوالدين في حال غيابهما.
أما اليوم، فإن العلاقة بين الإخوة تغلب عليها روح المنافسة، فعدد أفراد العائلة أصبح قليلًا.
الابن البكر والغيرة:
بعدما كان سيد المنزل وملكه من دون منازع، أتى مولود جديد إلى العائلة ليهدّد عرشه، فيحاول الابن البكر أن يناضل من أجل موقعه في العائلة والاحتفاظ بامتيازاته.
فهذا البكر يرفض التغيير الذي حصل في العائلة، ويشعر بأن موقعه في العائلة مهدّد بالزوال؛ لذا تنشأ منافسة قوية بينه وبين المولود الجديد، ولا سيّما إذا كان من الجنس نفسه، فالابن البكر يرفض التخلّي عن مرتبته، وبالتالي يريد أن يكون الأول في كل مكان يوجد فيه.
وإذا لم يتنبه الأهل، ويعملوا على إزالة أسباب غيرته، ويعزّزوا شعوره بالطمأنينة إلى مركزه في العائلة؛ فإن هذه الغيرة ستتحول سلوكًا في سن الرشد.
فقد لاحظ بعض الاختصاصيين النفسيين أن عددًا لا يستهان به من الأبناء البكر يواجهون صعوبة في إيجاد مكانتهم عندما يصبحون راشدين، ففي مخيلتهم أن كل شيء يمرّ كما لو أن أحدهم سوف يسلب منهم المهنة أو العلاقة التي بنوها، وهم ربما سيعانون عقدة قابيل، وهي عقدة نفسية تطلق على الغيرة والمنافسة الشديدة بين الإخوة، التي تقود أحيانًا إلى الكراهية بينهم.
ولكن، في الوقت نفسه، يواجه الابن البكر صعوبات بسبب احتلاله المركز الأول في العائلة، فهو قد وجد نفسه مبكرًا في موقع الحارس لإخوته والراعي لهم.
لذا فهناك مجازفة في أن يتخطى الابن البكر وكذلك الابنة البكر مرحلة الطفولة، ويتصرّف على أساس أنه المسئول عن إخوته الصغار، في حين أنه ليس كذلك، إنه إغراء بالسلطة يمنعه من النضوج تبعًا لإيقاعه ورغباته الخاصة.
وفي كل الأحوال يرى كل ابن في العائلة أن لشقيقه أو شقيقته امتيازات يتمنى حيازتها، إنها الطبيعة البشرية، فالإخوة الصغار يجدون أن إخوتهم الأكبر منهم لديهم امتيازات كثيرة، منها، مثلًا، أن في إمكانهم النوم في ساعة متأخرة من المساء، والخروج وحدهم من دون مرافقة الأهل.
فيما الابن البكر يتذمر من الخدمات التي توكل إليه؛ مثل أن عليه تحمّل إخوته الأصغر، هؤلاء الدخلاء الذي اجتاحوا عالمه وقلبوه رأسًا على عقب، وفي الواقع ليس هناك مكان أفضل من العائلة لبناء الذات، فكل واحد من أفرادها، وتحديدًا الأبناء، ملزم بمواجهة الصعوبات، وإيجاد الحلول لها.
فالعائلة هي المجتمع الأول الذي ينطلق منه الأبناء نحو المجتمع الخارجي، المدرسة ثم الجامعة ثم العمل، وحده الأسلوب التربوي للوالدين يصقل شخصية الأبناء ويجعلها متوازنة؛ لذا على الوالدين أن يتذكرا أن الابن البكر هو ابنهم، وليس مساعدهم في تربية إخوته، وآخر العنقود لن يبقى طفلًا صغيرًا مدى الحياة، وما بين الابن البكر وآخر العنقود أبناء هم أيضًا في حاجة إلى المقدار نفسه من الرعاية والاهتمام(2).
العدل بين الأولاد في العطية:
ورد عن النعمان بن بشير أن والده أعطاه نِحْلة، فقالت الأم عمرة بنت رواحة: «لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، [وكانت تقصد توثيق هذه العطية]، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟»، قال: «لا»، قال: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»(3).
نصوص كثيرة جدًا في البخاري وغيره مدارها على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن أن يخص ولده بالنحل، يعني: بالعطية دون بقية الأولاد.
ومن هذا الحديث أخذ جماعة من أهل العلم تحريم التفاوت بين الأولاد، ووجوب العدل بينهم، وهذا هو مذهب الحنابلة؛ وجوب العدل بين الأولاد في العطية، والجمهور من أهل العلم، كالمالكية والشافعية والأحناف، يرون استحباب العدل، ويستدلون بقصة أن أبا بكر أعطى عائشة رضي الله عنها بعض أوساق من تمر، ولم يعط بقية أولاده.
وفي الواقع أنه لا تعارض بين أقوال أهل العلم؛ لأن أهل العلم لما قالوا بوجوب العدل في العطية قصدوا أصل العدل، بمعنى أنه يحرم أن يتعمد الأب حرمان بعض ولده، أو تخصيص بعض ولده بمجرد المزاج أو التشهي أو الظلم، أو لأنه يحب أمه، فيخصه من دون إخوانه، هذا لا شك أنه محرم، وهو نوع من إثارة الحسد والنعرات والبغضاء والكراهية بين الأولاد؛ بل هو سبب للعقوق، وبعض الأبناء قد يكره أباه.
وينبغي أن يراعى أنه لا يجوز تعمد تخصيص أحد، لمزاج، بعطية، أو بهدية، أو بسيارة، والآخرون يحرمهم من ذلك، أولاد معينون قد يكونون أولاد زوجة محظية محبوبة يدرسون في مدارس خاصة؛ بل بعضهم قد يكون في لباسهم وفي طعامهم وشرابهم أنهم من الناس البسطاء، بينما الآخرون يعيشون عيشة الأغنياء، هذا ظلم، والظلم محرم في جميع الشرائع، لكن أن يكون أحيانًا نوع من التمييز بين الأولاد لسبب أو مبرر أو مسوغ شرعي؛ مثلًا لأنه محتاج أكثر، أو قد يكون عنده ظروف، أو يكون مريضًا، أو ضعيفًا، أو معوقًا، أو محارفًا لم يرزق، فهذا قد يكون له وجه، أما إذا كان لمجرد المزاج والتشهي وتخصيص هذا لغير سبب فهذا يكون محرمًا(4).
***
_______________
(1) معاهد التنصيص (2/ 72).
(2) لكل ابن في العائلة صفات ومكانة، مجلة لها.
(3) أخرجه أحمد (18369).
(4) الابن الأكبر، لقاء على قناة المجد مع الشيخ سلمان العودة.