logo

الإرشاد التدريجي للأبناء


بتاريخ : الأربعاء ، 21 جمادى الآخر ، 1437 الموافق 30 مارس 2016
بقلم : تيار الاصلاح
الإرشاد التدريجي للأبناء

إن الإنسان حين يمرض ثم يذهب إلى الطبيب، ويعطيه الطبيب دواءً لأجل مرضه، ويخبره الطبيب أنه بعد انتهائه من أخذ الدواء كاملًا فإنه سيشفى بإذن الله، فلماذا لا يأخذ المريض الدواء جرعة واحدة ويشفى سريعًا؟ ذلك لأنه لا بد من التدرج في أخذ الدواء؛ حتى نعطي فرصة للجسم كي يقوى تدريجيًا ويستطيع مقاومة المرض على حسب تقدم قوته، وهكذا ينبغي التعامل مع الأبناء، أن يكون إرشادنا لهم ومحاولة تغيير السلوكيات الخاطئة التي يقعون فيها من خلال التدرج، فكلما كان التغيير جزئيًا وقليل الحجم، كلما أمكن قبوله وتنفيذه من قبل الأبناء.

ولقد كان التدرج هو سمة هذا الدين، فلقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في تعاملنا مع عماد هذا الدين والركن الثاني من أركانه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» [صحيح البخاري (1142)، وصحيح مسلم (776)].

توجيه رائع من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم أن الأمر صعب على النفس؛ لذلك جعل له مراحل تدريجية يمر بها الإنسان حتى يستطيع أن يصل إلى أداء الفريضة، وأيضًا أن يحصل نشاط النفس، وأن يبدأ يومه وهو في ذمة الله، وكذلك الأمر مع الأبناء في إلزامهم بالصلاة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين, واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» [صحيح الجامع (5868)].

فالصلاة، التي هي ركن الدين وعمود الإسلام، تمر بثلاث مراحل في الإرشاد والقيام بأدائها من قبل الأبناء، فالمرحلة الأولى هي مرحلة المشاهدة، وهي قبل السابعة، فحين يرى الطفل والديه وهما يصليان فلا شك أنه سيغرس في قلبه حب الصلاة، وإن علمه والداه الصلاة فهذا خير على خير، ثم بعد ذلك يأتي الأمر بإلزام الأبناء بالصلاة، ولا شك أن ذلك قد يكون أمرًا سهلًا إذا ما اجتهد الوالدان في تعليم الابن الصلاة قبل ذلك دون إلزامه، ثم بعد ذلك مرحلة الضرب إذا لم يقم الابن بأداء الصلاة.

وعلمنا المولى عز وجل الإرشاد التدريجي أيضًا في تحريم الخمر، حتى قال الصحابة: انتهينا انتهينا، ولم تكن هذه هي أول طريق التغيير؛ بل كانت تلك الكلمة بعد تدرج دام سنوات ومر بمراحل، فقد "كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه، حين قال الله سبحانه في سورة النحل المكية: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67]، فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر (وهو المخمر) في مقابل الرزق الحسن، فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر.

ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين، حين نزلت التي في سورة البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام الإثم أكبر من النفع؛ إذ إنه قلما يخلو شيء من نفع، ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع.

ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب، وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب، ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة.

وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب، وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب، كما كانت عادة الجاهليين، وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي، وفيه، وهو أمر له وزنه في نفس المسلم، ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدها!

ثم كانت هذه الرابعة الحاسمة والأخيرة، وقد تهيأت النفوس لها تهيؤًا كاملًا، فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان... فنزلت التي في المائدة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون} [المائدة:91]، فلم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة: إن الخمر قد حرمت، فمن كان في يده كأس حطمها، ومن كان في فمه جرعة مجها، وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه، وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر! [في ظلال القرآن (2/974-975)، بتصرف يسير].

هكذا ينبغي أن يكون تعامل الآباء والأمهات مع الأبناء، فإن أي ابن يحب أن يعلم السلوك المقبول والمسموح به فيأتيه، والسلوك المرفوض فيجتنبه؛ لذلك لا بد وأن يكون إرشاد الأبناء واضحًا لا غموض فيه ولا لبس، فلا تقل لابنك: أريدك أن تكون أفضل، أريدك أن تتحمل المسئولية، فكل هذا كلام لا يفهمه الابن، فقد يحاول الابن أن يكون أفضل وأن يتحمل المسئولية، لكن لا يكون فعل الابن هو ما أردته أنت، فهو لا يعرف ما في عقلك؛ لذلك لا بد عند إرشاد الأبناء من توضيح السلوكيات التي يرغب الآباء والأمهات من الأبناء تغييرها أو سلوكها، فالأبناء يتلهفون إلى فعل السلوكيات الصحيحة، ولكنهم فقط يريدون معرفة السلوكيات الصحيحة.

وهنا أمر مهم لا بد من التنبه إليه عند إرشاد الابناء إلى الفعل الحسن أو ترك القبيح، ألا وهو تقديم البديل للسلوك الخاطئ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الغلام الذي كانت يده تطيش في الصحفة، وهذا فعل خاطئ، فلو كان النهي وحده يكفي، لما علم الغلام التصرف الصحيح، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه البديل لهذا السلوك الخاطئ، فعن عمر بن أبي سلمة قال: «كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»، فما زالت تلك طعمتي بعد». [صحيح البخاري (5376)، وصحيح مسلم (2022)].

وأخيرًا لا بد وأن يكون الإرشاد إرشادًا إيجابيًا، وليس إرشاد إظهار النقائص فقط، كل هذا في إطار من التدرج، فيجب مدح الابن والإطراء عليه حين يأتي بسلوك طيب بدل السلوك السيء الذي كان يرتكبه، وهكذا تذكره بطريقة إيجابية بالسلوك الذي يجب أن يتصرف به.